نكهة إسبانية

p03b2npv

Google

الكلاسيكيات, لها سمعتها الواسعة لعل أحد أهم أسباب هذه السمعة هو عمرها الزمني الكبير والكم الهائل من عدد الصفحات التي تتضمنها, ليس معظمها بالطبع لكن بسبب ارتباط قوي في ذهني بين كلمة كلاسيكي وأدب روسي, روايات مثل الحرب والسلم وأنا كارنينا والجريمة والعقاب كلهم تقريباً تجاوزوا الـ700 صفحة بل ووصلوا على مشارف الـ1000 صفحة هي حتماً حمل ثقيل على من يريد قرائتها. من ناحيتي هناك خوف يجتاحني تجاهها, خوف من الشعور بالملل والخوف من الوقت الطويل الذي سأستهلكه قبل أن أنهيها مما يؤدي لتأخير القيام بقراءة كتب أخرى. من الأسطر الماضية يتضح لكم أن المصافحة بيني وبين تلك الروايات لم تتم, إذاً لماذا هذه المقدمة؟ لأنِ أنهيت لتوي أول 100 صفحة من إحدى الكلاسيكات في الأدب العالمي, ليست لتولستوي أو دوستويفسكي بل هي لكاتب إسباني كُتبت روايته في القرن السابع عشر ميلادي تحت عنوان “دون كيخوت” للأديب ميغيل دثربانتس, تم شراء الكتاب الضخم من إحدى معارض الكتاب هنا في الرياض ليس بالقريب لكن لا أذكر أي عام تحديداً. إلى الآن لازلت مستمتعة باللمسة الكوميدية اللطيفة في أسطر هذه الرواية والجو الكلاسيكي المصحوب بوصف وشخصيات الرواية, بدأت في قراءتها منذ أسبوعين ولا أهتم متى سأنهيها المهم هنا هو الأستمتاع بالرحلة.

وبجو ليس ببعيد عن إسبانيا تابعت مؤخراً وثائقي من الرائعة BBC انتج في عام 2016 من ثلاث حلقات يتحدث فيها المؤرخ والرحالة سايمون سباج مونتفير عن تاريخ إسبانيا الطويل والمضطرب عبر القرون, الوثائقي كان تحت عنوان Blood and Gold – The Making of Spain. كل حلقة اتخذت من عهدِ معين موضوعاً أساسياً لها. لماذا إسبانيا؟ إسبانيا من أكثر البلدان الأوربية غرابة هي بالنسبة لهم وكأنها تنتمي لأفريقيا أما من ناحية الأفريقيين فينظرون لها كبوابة عظيمة توصلهم للجنة المزعومة أوروبا, ما اللذي جعل إسبانيا بهذه الصورة وبهذا النمط المختلف والمتشابه في آن واحد . حتماً هو تاريخ طويل من صراعات لأمم وأعراق وديانات حدثت فوق أراضيها, في البدء كانوا القرطاجيين ضد الرومان بعدهم أتى صراع المسيحيين مع المسلمين ومن ثم الكاثوليك والبروتستانت حتى نصل لآخر صراع والمنتمى للعصر الحديث أبان الحرب الأهلية والمعنون لها بالفاشية ضد الشيوعية.

في الحلقة الأولى تحدث المذيع عن نشأة إسبانيا وكيف استعادها هانيبال القائد القرطاجي المعروف من أيد الرومان وبدأ رحلته الشهيرة لأحتلال روما سالكاً كل الطرق الصعبة والشاهقة من خلال جبال الألب سائراً بجيشه المكون من المقاتلين والفيلة الثقيلة, هذه الرحلة ذكرتني بوثائقي لطيف كنت قد شاهدته قبل سنوات عن 3 من راكبي الدراجات الهوائية اتخذوا خط سير الرحلة كتحد لهم وليختبروا إذا ما كان فعلاً جسداً الإنسان قادر على تحمل هذه الرحلة, نعود لسرد القصة سكيبو القائد الروماني استغل خروج هانيبال من إسبانيا فقرر احتلالها فنجح في ذلك فأصبحت إسبانيا منذ ذلك اليوم رومانية ليست قرطاجية, أوروبية ليست أفريقية.

طارق بن زياد القائد الإسلامي المعروف دخل إسبانيا في القرن السابع الميلادي معلناً حقبة جديدة في عهد هذا البلد, دخلها بعد أن استغاث به حاكم إسباني ضد حاكم إسباني آخر بعد قيام الأخير بإغتصاب ابنته, تذكرني هذه الأسطر بأمر كان ولازال يتكرر عبر التاريخ لا يمكن لجيش أن يحتل بلداً آخر ما لم تكن هنالك مساعدة لهم من قِبل أناس في الداخل. من بعدها أتت قصة عبدالرحمن الداخل الرجل الذي سقط حكم أهله بنو أمية في الشرق ليعيد تأسيسها في الغرب, الرجل اللذي استطاع الفرار من أقربائه العباسيين قاطعاً رحلة طويلة من دمشق إلى الأندلس واستطاع بعدها أن يقيم حكماً لأهله فيها ويؤسس مملكته هناك كل هذا وهو في عمر التاسعة عشر. الداخل الرجل الوسيم كما وصفه مؤرخنا هنا كان ذو شعر أحمر ولا أعلم أهو أحمرار قدِم من صبغة الحنا المشهورة عند العرب أو هو فعلاً ذو شعر أصهب, المذيع علق على قصة عبدالرحمن الداخل قائلاً”هي قصة تشعرك بأنك أمام أحد أفلام هوليوود المليئة بالأكشن والأثارة”, وهي كذلك إذا أطلت التمعن بها. في كل مرة أقرأ عنها أو استمع لبرنامج أو مسلسل يتحدث عنها أجد نفسي منصته ومتعجبه في آن واحد, تدور في خلدي أسئلة كثيرة عن رحلته الطويلة من الشرق إلى الغرب وعن إحساس الوحدة الذي كان حتماً ملازماً له بعد أن فقد كل أفراد عائلته سواءً من عرف منهم أم لم يعرف.

قصة أخرى أرادت أن تكون إسبانيا مسرحاً لها لتروى وهي المعنونة بـ”زرياب” القادم من بغداد, الذي أسس أول مدرسة للموسيقى في أوروبا, وتخصص زرياب معروف إلا وهو العود, فكرة الثقافة الموسيقية التي قام بنقلها من الشرق إلى الغرب كانت من الأولويات التي تحسب له, وانطلاقاً من تلك اللحظة أصبح للموسيقى هواة وباحثين ومثقفين مولعين بها وعالمين بكافة خلفياتها وتفاصيلها.

قرطبة في عهد عبدالرحمن الناصر أصبحت من أعظم المدن في أوروبا أن لم تكن الأعظم, كما ذكر زميلنا المقدم في السطر التالي “وبالمقارنة مع مدن عظيمة كباريس ولندن في ذلك الوقت, لم تكن سوى مجرد قرى صغيرة”.

في أواخر حكم العرب في الأندلس بدأت الدويلات تتشكل والحروب الداخلية بينهم تظهر فيما بينهم معلنة بذلك بداية النهاية لقرون مضت على وجودهم هناك لكن لفت نظري قصة روت في الحلقة عن شخص يدعى EL CID وهي كلمة إسبانية مأخوذة من الكلمة العربية السيد, كان “السيد” قائداً حربياً محنكاً لم يخض معركة إلا وكتب له الأنتصار بها الغرابة لا تكمن هنا بل بمن حارب معه, ستستغربون وتتعجبون أن قلت لكم أنه حارب مع الطرفين الإسلامي والمسيحي بمعنى أكثر دقة كان يحارب مع من يدفع له مبلغاً مالياً أكثر. غرناطة ظلت صامدة كآخر دليل على وجود العرب في شبة الجزيرة الإيبيرية كانت تحت حكم الناصريين كان الرعب يحوم في أجواء تلك المدينة وكدليل على هذا الخوف ذكر المذيع قصة الباب الذي لم يفتح لأي أحد من شدة الظنون السيئة تجاه الزائرين للقصر. إيزابيلا وزوجها فيردناند في شهر يناير من عام 1492 أعلنوا سقوط غرناطة وتبعاً لهذا السقوط بشهرين أمروا اليهود التحول للمسيحية أو مغادرة البلاد, نصفهم تحول والبقية رحلوا وما هي إلا سنوات قليلة بعدها حتى تم اصدار منع للمارسات الإسلامية وتم الإجبار على التحول للمسيحية.

لفت انتباهي مقدم الوثائقي ومعده والذي هو بطبيعة الحال مؤرخ, كان جل كلامه اعجاباً بفترة حكم الأمويين للأندلس ومنتقداً نقداً لاذعاً لمن أتى من بعدهم واصفاً إياهم بالدمويين, لا أعلم دائماً ما كنت استمع للتاريخ من مؤرخينا نحن واللذي دائماً يكون مصاحباً بتبجيل زائد لكل ما يتعلق بنا وتحطيم كل من يخالفه من أمم وحضارات أخرى. من وجهة نظري الشخصية التاريخ يمر بمراحل مختلفة كل بنو البشر مساهمين في علوها تختص بها شعوب وثقافات دون غيرها من فترة لأخرى, لا أفضلية لأحد ولا تنقيصاً من أحد الجميع مساهم ومشارك في آن واحد الأستغراب هذا تلاشى عندما وضح المذيع قصته الشخصية وكونه قد قدِم من عائلة لها جذور يهودية إسبانية أدعت المسيحية في هذه الفترة وظلوا يمارسون ديانتهم في الخفاء, جدته استقرت في المكسيك حتى تبتعد عن الأعين لكن تم اصدار حكم بحرقها بعد اكتشاف ممارستها لليهودية في هذه الأثناء تمكن ابنها من الفرار والتخفي تحت اسم عائلة مختلفة في توسكاني. في هذه الأثناء كولمبوس الذي كان يود الوصول للقدس من الشرق اصطدم في طريقه بأرضِ جديدة.

الحلقة الثالثة والأخيرة من السلسلة كانت تتحدث عن إسبانيا الكاثوليكية (الدموية), لسبعة قرون كانت إسبانيا رومانية ولسبعة قرون أخرى كانت إسلامية والثلاثمئة سنة القادمة ستكون حافلة بالكثير. في العام 1527م الأمبراطور فيليب الثاني واللذي تذكر له قصة غريبة عند ولادته, كانت أمه الملكة ايزابيلا تعاني مخاضاً صعبة لمدة ثلاثة عشر ساعة, طُلب منها من قِبل الأطباء بالصراخ أكثر رفضت بشدة قائلة: “أفضل الموت على أن أصدر أي ضوضاء”.

في صفقة معتادة في ذلك الزمان تم عقد زواج الملكة ماري ملكة انجلترا والملك فيليب الثاني ليصبح بذلك فيليب ملكاً لإسبانيا وانجلترا رغم اختلاف مذهبيهما البروتستانتي لماري والكاثوليك لفيليب, هذه الزواج لم يكتب له الأطفال فبالتالي لا يوجد هناك وريث يرث حكم البلدين. بعد وفاة ماري انتقل عرش انجلترا لشقيقتها اليزابيث ليخرج فيليب خالي الوفاض من هذه الأرض, لكنه قرر غزو انجلترا راغباً في جعلها أرض كاثوليكية كبقية الأراضي التي تقع تحت حكم إسبانيا.

قصة مهمة ذكرت على خلفية الصراع الكاثوليكي البروتستانتي في أوروبا يوم السابع عشر من مارس عام 1623 كان هناك طرق لباب السفير البريطاني في مدريد, رجل انجليزي قدم نفسه كالسيد توماس سميث أصر على محادثة السفير شخصياً, وفي الجانب الآخر من الطريق كان هناك رجل مختبأ في انتظار المقابلة أن تتم. نزل السفير لمقابلة هذا الرجل ليفاجأ بأن توم سميث لم يكن إلا وزير الملك جيمس والرجل المفضل لديه والرجل المختبئ في ظلمة الشارع كان أمير ويلز تشارلز, كلاهما كان متنكراً بلحى مزيفة, الثلاثة أشخاص تناقشوا وتفاوضوا من أجل زواج الأمير تشارلز البروتستانتي من مارينا الكاثوليكية, ذلك الأجتماع مقدمة لحرب ستستمر لثلاثين سنة بين أوروبا البروتستانتية وأوروبا الكاثوليكية.

بعد سنوات طويلة قام نابليون بإحتلال إسبانيا هذا الأحتلال لخص في لوحة لغويا تحت عنوان الثالث من مايو معبرة للثلاثة وأربعين شخصاً اللذين قاوموا القوات الفرنسية وقتلوا نتيجة لتلك المقاومة.

في بدايات القرن العشرين كانت أوروبا تقاوم الفاشية الممتدة عبر أراضيها بشكل سريع, رجل أراد أن يضع بصمته في هذا التمدد عازماً على جعل بلاده واحدة منها مقلداً بذلك ألمانيا والمتمثلة بهتلر وموسوليني المتمركز في إيطاليا, فرانكو كون جيشاً حارب فيه الجمهورية الإسبانية, قائلاً سأحرر إسبانيا بلدة بلدة من أيدي الشيوعيين. بدأت الحرب الأهلية في إسبانيا عام 1936م لتمتد لثلاثة أعوام, وكأي حرب أهلية أو أي حرب ينتشر الدمار والتشرد والجوع كحصاد دائم ومستمر. بلدة الأشباح بالقرب من سرقسطة تركت كما هي منذ تلك الأيام لتكون شاهدة على فظاعة تلك الحرب بجدران مبانيها الممتلئة بطلقات الرصاص فترة كانت عصبية عاشتها إسبانيا تحت حكم فرانكو تحولت بسرعة فيها البلد بعد رحيله لتعود كبلد ديموقراطي من ضمن دول الأتحاد الأوروبي.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s