من يقول الحقيقة؟

الدكتور خالد اليحيا في لقاء "شاي"

في الصف أقوم بطرح بعض الأسئلة على طالباتي أحدى هذه الأسئلة يقوم على أساس أن يقرر الطالب ما إذا كانت العبارة الموجودة أمامه حقيقة أم رأي. ويكمن الاختلاف بينهما أن الحقيقة معلومة علمية تم التثبت من صحتها مع ذكرها أثناء شرح الدرس، أما الرأي كأن يعبر الشخص عن مشاعره تجاه أي شيء، مثلاً: عدم حبه للنباتات. هنا يتبادر إلى ذهني تساؤل، ألم تكن تلك الحقيقة يومًا ما موضع شك وجدال، أي كانت مجرد رأي لصاحبها قبل أن يقتنع الناس بجدواها،  وأضافةً لذلك بعض الحقائق العلمية تنفي صحتها بعد سنوات من اعتبارها مسلمة لا غبار عليها. إذن، هل يوجد لدينا حقيقة كاملة غير قابلة للجدال؟ أي أن مصطلح حقيقة هو فعلاً مئة بالمئة حقيقة.

أستمع في هذه الأيام لكتاب Talking To The Stranger للكاتب مالكوم غلادويل. ولمن هم على معرفة بالكاتب حتمًا سيعلمون عن بودكاست Revisionist History من إعداده وتقديمه يقوم فيه غلادويل بالتنقل عبر الزمن لأحداث تاريخية ليلقي عليها نظرة مختلفة عن طريق سرده لأحداثٍا لم تؤخذ في الحسبان أو بتفاصيل مهملة عن قصد أو بدون قصد. لا يختلف أسلوب غلادويل في تدوينه الصوتي عن الكتابي لكن في كتبه  تكون الكتابة ضمن نطاق محدد لموضوع يتم اختياره من قِبل غلادويل نفسه. اسُتفتح الكتاب بالقصة التاريخية الشهيرة للقاء الملك مونتيزوما ملك الأزتك بالقائد كورتيز، لأول مرة يقابل فيها مونتيزوما شخصًا قَدِم من الشرق، كما هي المرة الأولى لكورتيز يقابل فيها ملكًا من العالم الجديد. جميع كتب التاريخ تحدثت عن هذا اللقاء التاريخي واصفتًا إياه بإعلان ملك الأزتك استسلامه للقائد الأسباني وقدم البلدة كاملة هدية لهذا القائد جاعلًا إياها تحت طاعته. ما الذي جعل مونتيزوما خاضعًا للوافد الجديد بهذه الطريقة؟ هناك اعتقاد لدى الأزتك بقدوم مخلص لهم يقدِم إليهم من الشرق (وفي هذه الحالة هو كورتيز)، لكن هل فعلًا خضع مونتيزوما بهذه السهولة كما رُويت لنا القصة؟ يقول غلادويل في كتابه أن القصة الحقيقية لم تروى لنا كاملةً، كان بين مونتيزوما وكورتيز مترجمان أحدهما امرأة والآخر رجل كان كورتيز يتحدث بالإسبانية للرجل والرجل يترجم الإسبانية إلى لغة أهل المايا للمرأة والمرأة تترجمها إلى لغة الملك مونتيزوما. هذه السلسلة الطويلة والتي يجب على الكلمات أن تمر بها أصابها عطل وتحديدًا فيما يخص إعلان مونتيزوما خضوعه لكورتيز، حُرفت الكلمات وبُدلت المعاني لتكون النتيجة إنهاء حضارة الأزتك واحتلال أراضيها. خصوصًا أن علمنا أن الغرض الأساسي لمجيء كورتيز لمدينة يوكاتان كان جلب المزيد من الذهب فقط.

في عام 1518 قرر حاكم كوبا والمُعين من قِبل الملك تشارلز ملك إسبانيا إرسال رحلة استكشافية أخرى إلى مدينة يوكاتان أرض الأزتك. دييغو فيلازكيز دي كيولار كان من المستكشفين الأوائل للعالم الجديد حيث صاحب كريستوفر كولومبوس في رحلته الاستكشافية الثانية. لعقد من الزمان كان من أغنى الرجال في إسبانيولا (الجزر المعروفة الآن بهاييتي ودومينيك)، قبل أن يصبح حاكمًا لكوبا أخذ الموافقة من البلاط الملكي الإسباني لاحتلالها في العام 1511 حيث تنبأ بوفرة مصادرها مقارنةً بإسبانيولا. اتخذ دييغو مساعدًا له شاب يدعى دي نارفاييز مغامر حر و يتقد حماسًا، استطاع الاثنان وخلال أربعة أعوام فقط تحطيم كل ما يتعلق بالسكان الأصليين في هذه الجزيرة. هذا النجاح أعطاهما الشجاعة لشق مغامرة جديدة للتعمق أكثر داخل عوالم البلاد الجديدة. وهنا كانت الدهشة بلدة يوكاتان المليئة بالذهب أرض الأزتك لم يصدق دييغو ما رأته عيناه من كمية الذهب المهولة والقادمة من هناك بل وقدرها بأن ما يستخرجه من كوبا، الأرض الخيرة و الزاخرة بمصادرها، في عام قِدم إليه من تلك الأرض المسماة بيوكاتان خلال رحلة استكشافية واحدة.  تلك الدهشة التي غمرتهم عند رؤية الذهب القادم من هناك جعل الطمع يزداد لدى دييغو فيلاسكيز لكن كان في حيرة من أمره ققد بلغ من الكبر وأصبح غير قادر على الارتحال ففضل أن يكون قائد الرحلة صديقه المخلص ونائبه دي نارفييز والذي صادف أنه لم يكن في البلاد حيث كان ممثلًا عن الحاكم لدى البلاط الملكي في إسبانيا. قرر دييغو تأجيل موعد الرحلة لحين عودة زميله لكن صادف وجود فتى متحمس للذهاب ولم يطق انتظارًا لحين بدأ الرحلة الأستكشافية الثانية لبلدة يوكاتان، يتسم هذا الشاب بفصاحة لسانه فقد كان يلقي الخطب باللاتينية. هيرنان الشاب المتحمس كان ينظر للحاكم دييغو نظرة الأب وكان دييغو الشخص الملازم  له في يوم زواجه فالعلاقة التي تربط دييغو مع هيرنان هي علاقة ابن مع والده. عندما تأخرت الرحلة لأكثر من مرة رغبةً من دييغو انتظار عودة زميله دي نارفاييز قرر هيرنان قيادة الرحلة الأستكشافية بنفسه، وفي أحدى ليالي نوفمبر من العام 1518 ركب هيرنان القارب متوجهًا للأسطول لكن الأمر لم يخفى على دييغو فيلازكيز فذهب مسرعًا وحاول ثنيه عن الرحيل وإيقافه صارخًا بصوت عالي ناحيته قائلاً له “أهكذا تودع والدك”. 

في إسبانيا كان دي نارفاييز، وبعد أن مكث هناك لمدة ثلاثة أعوام، قد استطاع أخيرًا جمع أموال لبدء المزيد والمزيد من الرحلات الاستكشافية ومع إنجاز آخر بتعيينه حاكمًا للمدينة الجديدة يوكاتان. هذا المرسوم الملكي الصادر من قِبل الملك تشارلز جعل نارفاييز يشعر بفرح شديد ولم يطق صبرًا حتى أن يغادر الأراضي الإسبانية إلى كوبا لينقل لزميله تلك البشائر بنفسه، لكن تفاجأ بالأخبار المزعجة التي أخبرها بها دييغو فتحولت الرحلة الأستكشافية المزمع قيادتها من قِبله إلى رحلة القبض على الخائن هيرنان. وعد نارفاييز دييغو بتسليم هيرنان له قائلًا “سأعيد الأبن الضال إليك لتفعل به ما تشاء”. بأسطول محمل برجال أكثر عددًا وعتادًا مما لدى هيرنان أصبحت مهمة القبض على الهارب وشيكة، في هذه الأثناء قام نارفاييز بإرسال خطاب لمونتيزوما يعلمه بأنه قادم ليس من أجل شن حرب ضده بل لإعادة الخارج عن القانون المدعو هيرنان حيث أنه لا يمثل البلاط الملكي، رد عليه حاكم الأزتك بالهدايا الكثيرة حتى يبين ارتياحه له، وقد يقصد بهذه المبادرة الإيقاع بالأثنين والتخلص منهما جميعًا. علم هيرنان بقدوم نارفاييز من أجل القبض عليه وتسليمه للعدالة ترك 200 شخص من جيشه وغادر مع 300 رجل لمواجهة نارفاييز رغم قلة العدد كان لدى هيرنان أداة تميزه عن نارفاييز إلا وهو الذهب. فقد أغرق من كان معه بالهدايا وتقديم بعض الرشاوي السرية للطرف الأخر وعندما حان وقت المواجهة استغرب نارفاييز من جرأة هذا الشاب من أين أتى بهذه الثقة العجيبة لمواجهة الجيش العظيم بعدة رجال لا يقارنون بمن هم أمامهم لكن حدث ما لم يكن بالحسبان تم حبس نارفاييز ورجاله داخل معبد بل أن نارفاييز نفسه تم طعنه حتى ظن بأنه قد قتل وتم فقد إحدى عينيه. تم النصر لرجال هيرنان وأكمل مسيرته للظفر بيوكاتان وتم إسقاط إمبراطورية الأزتك وقائدها مونتيزوما على يد هذا الشاب الخارج عن القانون، والمشهور بالقائد كورتيز.

في كتب التاريخ اليوم تكاد لا تعلم عن نارفاييز ولا دييغو وكل فضل ومجد الأمبراطورية الإسبانية وبداية ازدهارها وتوغلها في خيرات العالم الجديد يعزى للقائد هيرنان كورتيز  ، بل قليل من هم على معرفة بحقيقة كورتيز وأنه قد صدر بحقه أمر بالأعتقال من أجل تسليمه للبلاط الملكي لمحاكمته بالخيانة. لماذا الحقيقة تكون مجتزأة؟ أو تروى بحسب رؤية راويها دون التطرق للفصول الكاملة.

في الشهر الماضي حضرت لقاءً جميلًا للدكتور خالد اليحيا صاحب البودكاست الشهير “قبس“. بعد أن انتهى من سرد قصص ممتعة حصلت في أزمنة مختلفة جرى نقاش معه ومع الجمهور وردًا منه على استفسار يتعلق بنفس هذه النقطة من يقول الحقيقة؟ ذكر مثالًا يستدعي الأنتباه وهو عندما تقف على حادث لسيارتين دائمًا ما يعاني الشخص المسؤول عن تقييم الحادث كونه يستمع لوصفيين مختفين من أصحاب القضية نفسها، تلك الروايتان لنفس الحادثة جميعها مقبولة وجميعها حقيقية وسردت من الأشخاص المشرفين عليها لا من أناس شاهدين أو من استمعوا للقصة وتناقلوها. هنا تقف متعجبًا ومتسائلًا في آن واحد إذاً كيف هو الحال بقصص أتت من عالم بعيد ومن زمان أبعد وتناقلتها الأجيال والألسن عبر تلك السنوات، هل هي حقيقة؟ أم مجرد رأي راويها وعاطفته المائلة تجاه أحد أبطال القصة دون النظر للآخر. إذن هل هي حقيقة أم رأي.

المراجع:

كتاب A land So Strange

كتاب Talking To Strangers

3 thoughts on “من يقول الحقيقة؟

  1. التنبيهات: الحنين وأيامه – مدونة يونس بن عمارة

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s