الطائرة، تلك الآلة المسؤولة عن تنقلنا من خط عرض إلى آخر في فترة زمنية قصيرة. تبعدنا عن كل ما هو صلب لنغوص معها في أعماق الهواء دون شعورنا بأن أوزاننا باتت كالريشة. دائمًا ما ترتبط الطائرة بعنصر الخوف، ففكرة كونها معلقة في السماء دون أساس ترتكز عليه مرعبة إلى حد ما، فقد عانيت لسنوات طويلة من رهاب السفر بالطائرة، فعند ركوبها لا يمكنني النطق بكلمة واحدة، لساني ينعقد وكأنه لم يتعلم الكلام من قبل وقوة التركيز على التفاصيل الصغيرة تزداد عند تواجدي بداخلها، هنا اعوجاج على جناحها، وقطعة قماش الأرضية منزوعة من مكانها، كلها ملاحظات تبدو بسيطة لكن عقلي يضخمها بدرجة كبيرة جاعلًا منها حاجزًا وهميًا بين الطمأنينة والقلق. لا أعلم منذ متى بدأت تلك الرهبة من الطائرة لكن تتضح جليًا صور لرحلة من الرياض إلى الطائف وأنا صغيرة بالعمر والمطبات الهوائية كانت شديدة لدرجة فتح أدراج الأمتعة العلوية لتتساقط الحقائب بشكل متتالي ليتبعها خط الأنارة الأحمر على الأرضية ويقوم الكابتن بترديد دعاء السفر مرة أخرى، حيث جرت العادة ذكره عند بداية الرحلة، مرت الأوضاع السيئة بالطبع ليتبعها هبوط بسلام أو على ما أعتقد هذا ما حصل كون الذاكرة ليست دقيقة بسبب صغر عمري. على العكس تمامًا أذكر تمامًا تلك اللحظة التي تلاشت فيها جميع المخاوف المتعلقة بالطيران، تلك اللحظة أتت دون مقدمات ولا تهيئة للنفس من خلال دورات معدة لمثل هذه الأمور بل على العكس تمامًا كأن نفسي هدئت من روعها من تلقاء نفسها. كانت الرحلة من الرياض إلى واشنطن، والمدة الزمنية تزيد قليلاً عن ثلاثة عشر ساعة وهناك ملحق آخر لرحلة أخرى تصلني بمدينة لوس أنجلوس والتي يبلغ طولها 4 ساعات و45 دقيقة. أن أجريتم عملية حسابية بسيطة ستجدون مجموع الرحلتين يساوي 18 ساعة. يوم كامل وأنا معلقة بين السحاب فوق بحار ومحيط وجبال وصحاري وكل ما تفرزه الجغرافية من تضاريس مختلفة. كنت مشغولة البال قبل الرحلة بأسبوع، أو لعله أكثر، كيف سأقضي كل تلك الفترة الزمنية في السماء ماذا سأفعل كيف سأتمكن من تهدأت نفسي، لأن الوضع الغريب الذي أصبح عليه لا يحتمل زيادة مدته الزمنية. ذاكرتي الصورية الجيدة ترسل لي مقاطع من تلك الرحلة اللامنتهية الركاب كانوا قلة وعدد الكراسي الخالية أكثر بكثير من عدد المسافرين. سهولة التنقل بين المقاعد كان أجمل ما في الرحلة، هنا أستطيع الاستلقاء ومحاولة النوم، وهنا أستطيع إعادة الكرسي إلى الخلف لإراحة الأقدام والرقبة والتي نادرًا ما تحدث في الدرجات الخلفية من الطائرة. أذكر مشاهدتي لمسرحية لولاكي كاملة، وبعض حلقات فريندز وأذكر أيضًا تنقلي إلى المقعد المجاور للنافذة لرؤية المحيط الأطلسي، بعد ظهور الطائرة على المسار الموازي له على الخريطة التفاعلية، تلك الزرقة الممتدة كانت عظيمة تشعر بأنها كتاب أزرق مفتوح يحوي من الأسرار ما يعجز الإنسان عن اكتشافه، هناك طمأنينة غريبة سرت في جسدي عند رؤيتي للمحيط ورغم قوة المطبات التي كانت تحدث أثنائها وإضاءة إشارة تنبيه ربط الأحزمة، إلا أن كل هذه الأمور لم تكن تعنيني أمام منظر المحيط من الأعلى، هنا حدث السكون وكانت نقطة التحول.
كان أنطوان طيارًا متخصصًا في نقل الشحنات الجوية بين قارات عدة، و لتمييزه عن بقية طياري عصرنا الحالين كان يمتهن تلك الوظيفة في العام 1926 وكنتيجة لذلك يعتبر من الأوائل الذين مارسوا هذه الوظيفة. فمازالت الطائرة اختراعًا حديثًا تقام عليه التجارب، واكتشاف الطرق الواصلة بين المدن والقارات في طور بداياتها وتولد من خلال الطيارين أنفسهم، فمهمتهم هنا انتحارية، كون الآلة التي يمتطونها غير مهيأة بمعدات السلامة والمتوفرة في أيامنا هذه، و يمكن القول أن معدل تعطل محرك الطائرة أعلى بكثير من معدل نجاته. غالبًا ما يجد نفسه أنطوان وهو مظطرًا للهبوط في أعماق الصحراء بين قبائل الطوارق واللذين يرغبون في رؤيته ميتًا قبل الترحيب به من أجل الضيافة أو في أعالي قمم جبال الأنديز حيث يندر وجود البشر وأن وجدوا تتضح على ملامحهم سمات بعيدة كل البعد عن ما أعتاد عليه بنو البشر في أصقاع الأرض الأخرى. كل هذا جعل قلم أنطوان يخط حروف وجمل جميلة عن مراقبة الأرض من الأعلى من خلال رحلاته المختلفة لتوصيل الطرود البريدية. هذه الأداة كانت وسيلة لأنطوان من أجل اختلائه بنفسه ومراقبته لأناس آخرين لن تتاح له رؤيتهم بوظيفة مكتبية في بلده الأم فرنسا، رؤية الأراضي الشاسعة من الأعلى تجعل الإنسان يصغر بهمومه وأوهامه التي ما انفكت تملأ رأسه من غير جدوى حارمةً أياه متع الحياة البسيطة.
*من خلال هذه الطائرة عاش أنطوان مغامرة حياة وموت في أعماق الصحراء الليبية، فتمت أصابته بالهذيان لفترة من الوقت لتأتي أمامه صور لأناس ومعالم ليس لها وجود على أرض الواقع وكل مرة يخبو الأمل ليعود مرة أخرى بعلو أكبر معلنة استمراره في هذه الحياة رغم اعتقاده بمغادرتها. هذه المغامرة حدثت بسبب هبوط الطائرة في المكان الخطأ لرداءة تحديد المواقع والاتجاهات التي توفرها تلك الآلة وضعف الإشارات المرسلة من قِبل المراقبين الجويين، ولقلة عددهم أيضًا، كل تلك العوامل اصطفت لتحكي لنا قصصًا لا أظن أن تكتب في زماننا هذا أو ستقل حتمية حدوثها على عكس ذلك العصر، تلك المغامرات المثيرة تتكرر بشكل مستمرة لأنطوان أو زملائه الطيارين.
لسنوات قليلة اعتدت على شراء الأجندة من ماركة moleskine، لتصميمها المميز والذي يُسهل علي العديد من المهام المطلوب مني كتابتها. اعتادت الشركة على تزيين تلك الأجندات ببعض الشخصيات الخيالية القادمة من القصص الشهيرة، عليكم تجربة تصفح منتجاتهم على الأنترنت ورؤية جمال الرسومات التي تزيين أغلفة تلك الأجندات، أحد تلك الشخصيات هي شخصية الأمير الصغير. جميعنا نعرف ذلك الكرتون الشهير المقتبس منه وقصص تنقل أميرنا من كوكب لآخر، ذلك الخيال المفعم بالسعادة والفضول في آن كانت رسوماته ملازمة لأجنداتِ. وما زال اختياري يقع عليه كل عام حتى ولو كان مجرد دفتر ملاحظات يومية المهم هو رؤية ذلك الأمير الصغير قبل كتابة ما في رأسي من أفكار. زميلنا أنطوان هو مخترع تلك الشخصية فيصعب علي عدم الربط بين مغامراته في الطيران وميلاد تلك الشخصية، فلا يمكن تصور تلك الرائعة دون خوض كاتبنا مغامراته مع الطائرة وبقائه معلقًا في السماء ومتمسكًا بها أكثر من تلك الأرض الصلبة. ساعات الطيران الطويلة جعلت خياله خصبًا لتلد لنا تلك الشخصية اللطيفة والتي ظلت ملازمة لجميع دفاتر ملاحظاتي.
لعل الطائرة ليست بالآلة الموحشة بعد كل هذا، فهي تتيح لنا آفاقًا لم نتخيل أنفسنا أن نصلها يومًا ما، وكما فعلت بأنطوان حين أخرج للعام تحفته “الأمير الصغير”، من يدري ماذا يمكن أن تفعل بك أنت. فتحية إجلال وتقدير لتلك الرائعة.
“الطائرة آلة من غير شك، ولكن يا لها من من أداة تحليل عظيمة. فلقد مكنتنا هذه الأداة من رفع النقاب عن وجه الأرض فعرفناه على حقيقته. و للطائرة معجزة أخرى فهي تلقي بك مباشرة في صميم السر الغامض. تكون في الطائرة كعالم الحياة، تدرس من وراء نافذتك قرية النمل الإنسانية وتفحص هذه المدائن المستقرة بين السهول وسط الطرق التي تتفرع كالنجوم وتغذي البلاد برحيق الحقول كأنها الشرايين”
-أنطوان دو سانت اكزوبيري
*القصة ذكرت في كتاب المذكرات الشخصية لأنطوان دو سانت اكزوبيري “أرض البشر”.
التنبيهات: متفرقات 16: جوجو يواجه مخاوفه، هل سمعت بالغيبوبة النتفلكسيّة؟ - فرزت