داخل الغرفة الكبيرة المغلقة ذو النافذة الزجاجية العريضة والتي يتوسطها باب يفتح كل بضع دقائق معلنةً دخول شخص آخر لهذا المكان ومنبهةً لك بكثرة من يقطن هذه المدينة، فالكل يختبر ذات الأحوال الجوية وأن كانت تتسم دائمًا بالاستقرار والشمس المشرقة طوال السنة في مدينتنا، لكنه شعور جميل بوجود ألفة بين كل أولئك الغرباء.
يتواجد رجل داخل المقهى منذ جلوسي لحين مغادرتي ملازمًا لهاتفه يتحدث مع شخص شارحًا له عن أمور ضلت عالقةً داخل رأسه طيلة الأيام الماضية، وصلت لهذا الاستنتاج لأنه السبب الوحيد المقنع لتفسير كل هذا الحماس أثناء الحديث، لا يكف عن إخراج كلمة تلو الكلمة من داخل فمه لتتلقاها أذن الطرف الآخر المتواجد على الهاتف معه، وحتى عندما ظننت بنهاية حديثه أنتقل إلى شخص آخر يتجاذب معه الكلام في مواضيع أخرى، يا ترى من أين أتى بكل تلك الجمل ليملأ وقته بها، من المؤكد أنه ذو شأن كبير في عمل أكبر جعلت حياته ممتلئة بتلك الحوارات والأكيد أنها ممتلئة بالتجارب جعلت منه واثقًا كما يبدو حاله عند رؤيته للمرة الأولى. في الزاوية صديقتان تتبادلان الكلمات بصوت خافت حينًا وبعلو الضحكات حينًا أخرى، يبدو من خلال أحاديثهم والهيئة الظاهرة لهم أن تلك الصداقة كُتب لها العمر الطويل، ويبدو كذلك أن تلك الصداقة تجاوزت العديد من المطبات والانعطافات وأصبحت كل واحدة ملجأ للأخرى تلجأ إليه عندما تهب العواصف لتتمسك أحداهما بالأخرى كشراع رابض على سارية سفينة داخل الأمواج الهادرة.
أمامي شخص مركز بصمت طوال الساعتين التي قضيناها برفقة بعضنا البعض، دون تبادل أي أطراف حديث، مركزًا في شاشة كمبيوتره كما هي حالي ومع تحريك الرأس يمينًا وشمالًا من حين لآخر لأخذ لمحة سريعة عن المتواجدين، لا أخفيكم أنا أيضًا أقوم بذات الفعل. هذا التركيز الشديد لا بد أن يكون مرتبطًا بعمل يمثل المستقبل بالنسبة له، قد تكون رسالة ماجستير، وقد تكون قضية يحاول فك تعقيداتها كمحامي. لا أعلم أي قصة هي الأنسب لشخصيته لكنِ أرجح الثانية، أو ربما هو تأثير سهرتي البارحة على فيلم يتحدث عن محامي صاعد يشق طريقه نحو القمة. ياترى هل يفكر في ذات الشيء عني؟ وماذا لو علم أن حملقتي بتلك الشاشة كانت مجرد تقليب بين مقالات لا أنهي قرائتها بحثًا عن إلهام أطارده لكتابة مقالة لا أعلم أي شيء عن كيفية نشرها، سيذهل من النتيجة أنا متأكدة. على الزاوية اليسرى تجلس فتاة تحمل كتابًا ظلت ممسكة بجلدته بشدة ومقلبة أوراقه رغبةً منها بإنهاء أكبر كمية منه، يوجد هناك امتزاج بين ما ترتديه وبين غلاف الكتاب فكلاهما من درجات الأخضر، السؤال هنا هل هو مقصود أم صدفة غير محسوبة كُتب لها الحدوث؟
من خلال الواجهة الزجاجية يمكن رؤية ثلاثة أصدقاء يتناقشون بصوت غير مسموع، كون الزجاج يعد عازلًا للصوت، لكن من المؤكد أن نقاشهم كان حادًا والذي تتضح معالمه من خلال مراقبة حركات الفم مع إشارات اليد التي تعلو بين الحينة والأخرى. في جلستهم أدخنة السجائر كانت تسير فيما بينهم متخذةً طرقًا ملتوية للارتفاع عاليًا هاربة من حدة أصواتهم، أو ربما هي مجرد تطبيق للقوانين الفيزيائية، يرتفع الهواء الساخن دائمًا للأعلى بعكس البارد ذو الضغط المرتفع يهبط بسلام بمحاذاة سطح الأرض.
الشخص الصامت والمركز في عمله والمتواجد أمامي يرتفع صوته متحدثًا مع شخص من خلال الهاتف، فبعد سماع الرنين نزع نظارته ليتحدث بعدها بأريحية مع ابتسامة خفيفة، هي حتمًا ليست مكالمة عمل. قطع حديثه بعد اخباره الطرف الآخر أنه سيقوم بتأدية الصلاة الآن مع معاودة الاتصال عند الأنتهاء منها، لكن تلك الإعادة لم تحدث.
في المقهى حدثت لي صدفة غريبة فعيناي وقعت على شخص جمعنا عمل فيما مضى، أذكره جيدًا. هو يتمتع بشهرة عريضة فملامح وجهه لن تنسى ناهيك عن وجودها في صفحات الأنترنت بشكل كبير، لم أبادر بالسلام خشيتًا مني بعدم معرفته بي، أكره تلك اللحظات دائمًا ما أتنبأ بالأسوء وأوهم نفسي بأنِ غير مرئية. هو على الطرف الآخر لا أعلم ما دار داخل رأسة من محادثات، وربما أنها لم تحدث من الأساس فطوال وقت جلوسه داخل المقهى كان مركزًا في شاشة جهازه المحمول وعازلًا نفسه بسماعات ضخمة وضعها على أذنيه.
في الثواني الأخيرة لتواجدي داخل هذا المكان وعند خروجي منه وانقضاء وقتي فيه لفت انتباهي شخص قام بتكتيف يديه ومحدقًا في شاشة الايباد بعينين متجحظتين ترغب في رؤية أكبر قدر من الأرقام المعروضة على الشاشة، أو ما تعرف بالأسهم، هو لم يلفت انتباهي في هذه اللحظة لكن ما شدني هو اتخاذه نفس الوضعية منذ دخولي لحين خروجي، جميل ذلك الارتباط الوثيق الذي لا يتأثر بأي متغيرات تجري من حوله هو السلام الذي نطمح بالوصول إليه حتى ولو بدأ مزعجًا من الخارج.