أحلام اليقظة 3

نفس الوقت المعتاد، ذات المقعد القابع في آخر المقهى بجانب تلك النافذة الكبيرة و الملتقطة لمنظر حديقة الحي رفقة أطفال يلعبون بلا كلل ولا ملل لحين غروب الشمس، عندها تخبو كل طاقتهم معلنةً العودة لتلك المنازل المعلبة صحبة الأجهزة الإلكترونية القادرة على تكيفهم داخل عوالم افتراضية يرغبون بشدة في العيش داخلها. كل ذلك لا يهم طالما توفر الهدوء هنا في المقهى، رفقة موسيقى غربية تصيح هامسة عبر سماعات مثبتة في السقف. رائحة المخبوزات تملأ المكان مضيفةً طاقة لا تُكتسب عن طريق قضمها، بل سيتكفل الدخان الصاعد من فوقها بإتمام تلك المهمة. 

تُخرج جهازها المحمول ليستقر في موقعه على الطاولة القريبة من الفتحة الكهربائية لغرض التزود بالوقود حتى تتمكن من العمل. ذلك الجهاز المصاب ببضع إعاقات تراكمت عليه بمرور السنين، اعوجاج بسيط في الركن الأيمن، قطعة خُلعت من مكانها لتنتقل صوب مكان غير معلوم، خدوش تنتشر في أصقاع مختلفة ضمن حدود الجهاز. إلا أن كل هذا لم يهبط من عزيمتها ناحية روعة هذه الآلة، ومدى فعاليتها طوال السنين التي مضت، هو حتمًا درع تتكئ عليه في إنجاز المهام اليومية والتي ترغب بشدة في إتمامها. 

يجمع ذلك المقهى العديد من أشباهها، أُناس تتسمر أعينهم صوب شاشات الأجهزة المحمولة واللوحية، وأخرون ينغمسون داخل أحرف كتاب تلتقطه أيديهم. من شأن كل هذا أن يكون مشهدًا واقعيًا تأنس له الروح في بحثها الدؤوب عن المسليات، وهو ما حدث لها بالفعل، إلا أن مرأى تراءى لها أكثر من مرة عدته مألوفًا ويجب أن يبرز في يومها. ففي كل مرة تحط قدماها داخل المقهى تجد ذات الصورة بكافة تفاصيلها حاضرة المرة تلو المرة. زياراتها للمقهى عديدة لكن لا يمكن اعتبارها روتين يومي يستلزم حضوره عند كل شروق للشمس، إلا أن تلك اللقطة فُرضت في كل مرة جلست فيها على ذلك المقعد الطويل المواجه لطاولة مربعة ثقيلة يصعب معها التحريك إن رغبت بذلك. ذلك الثبات جعل تلك الصورة تبرز على الدوام داخل مدى الرؤية الممكنة للعين، رجل يصعب من مكانها تحديد الفئة العمرية المنتمي إليها إلا أن شعر رأسه يشير لمرحلة مبكرة من العمر، فما زالت البصيلات قادرة على أن تشق طريقها بخيلاء للأعلى دون أن تأبه لفترة الرحيل المبكر. عدا ذلك فقد يكون من المحظوظين الذين حباهم الله بجينات لا تكترث كثيرًا بتقدم العمر لتعطي أقصى ما تملك من خصلات الشعر طوال فترة إقامة عائلها داخل هذه الحياة. الصورة تعد ناقصة كون أن الملتقط يشير بظهره ناحية المصورة، لم تتمكن من التقاط تعابير وجهه تجاه ما يقرأ، وهو الفعل الذي ما دأب أن غادره منذ تجليه لها في ساعات التواجد داخل المقهى. تسنح لها بين الفينة والأخرى رؤية غلاف الكتاب عند دخولها وهي متوجهة ناحية المقعد الوثير، تغمرها الفرحة أن رأت كتابًا قد قرأته فيما مضى رغم عدم حدوث تواصل لفظي يرتكز على مجريات الرواية أو فلسفة الكاتب تجاه الحياة. تلك الحياة التي جمعتهما من دون قصد، أو بقصد، في ذات الوقت والمكان مرات عدة، كأنها بتلك الطريقة تفرض رؤية مختلفة لما اعتادته أرواحهم مخبرةً إياهم بضرورة التواجد معًا داخل ذات الأطار.

ظلت الشكوك تزأر تباعًا ناحية خيالها المتعجل، فهي امرأة ولم تخلق المرأة إلا لغرض وحيد سامي يتمثل في بث الشكوك في محيطها ومحيط من يقبع بقربها. أول رسالة تلقتها كانت على هيئة أن التسمر أمام التلفاز ومشاهدة العديد من الأفلام ذات الطابع الرومانسي لوثت العقل بما لا يتلائم مع الواقع المحيط بها. أما ثانيها فتم طرحه كتساؤل مشروع عن الثقة العالية من ناحيتها تجاه تماثل رغبتها مع رغبة من يجلس قبالها، “من أين أتيتِ بها؟.” 

طالت مدة التواجد في ذات المكان، إلا أن ذات يوم غير من هيئة حضوره داخل المقهى، فبدل الكتاب المصاحب أصبح هنالك جهاز محمول فُتح قبل وصولها، ومعه تم الانغماس في إجراء أعمال مجهولة. لم يكتفي بتعديل واحد ناحية تلك اللوحة المرسومة، فما لبث أن أظهر صوته بشكل أوضح خلال مكالمات عديدة واحدة تلو الأخرى لتظهر معها صورة شخص مجادل يُكثر من طرح الأسئلة والتي يستلزم حضور ردات فعل مقنعة تمكنه من إنهاء تلك المحادثة والتي نادرًا ما حلت.  ذلك التغير فاجأها رغم رغبتها العامرة في تحولات تمكنها من إحداث تحول لا تعلم صيغته النهائية غير أن التقدم ناحية الأمام أي كان اتجاه أما للأعلى أو للأسفل لازمها منذ مدة ليست بالبسيطة. ذلك التبدل لم يكن حصريًا له، فقد لاحظت تواجد ضيف جديدة للمنظر المكرر والملتقط من خلال النافذة الزجاجية. فالمنزل القابع أمام الشارع القاطع لمسكن المقهى وبمعيته تلك النخلات الثلاث اليائسات من أي مظهر من مظاهر الحياة، بدرجة اصفرار شديدة مع حبيبات رمل محمولة بثقل على ما تبقى من سعفها، ما لبثت أن غيرت من مظهرها بعد أن حل بالقرب منهن ضيف جديد، ولعلها رغبة صاحب المنزل في تجميل الصورة الأمامية لغرض إضافة حياة اختفت معالمها عن محيا النخلات الثلاث. شجرة قصيرة مكتنزة توحي بقصر عمرها على هذه المعمورة، واللون الأخضر الزاهي يشع من بين أغصانها لتضيف غرابة أكبر على ما عُد عجيبًا فيما سبق. “لا أعلم من أصبح الدخيل الآن، الشجرة أم النخلات الثلاث” قالتها وهي تشيح ببصرها عن سحنة تلك اللقطة الهجينة.

برز صوته المجادل مرة أخرى، ومعها لم تستطع أن تركز على ما تريد إنجازه لتتحول المهمة صوب الحديث المسموع. كانت الإنجليزية هي اللغة المحكية، والذي عدته متقنًا للغاية لدرجة تلائم قاطني المباني المجاورة لنهر التايمز. طال الحديث مدةً قد تلائم شوط مباراة لكرة القدم إلا أنها لم تشعر بمرور كل هذا الوقت، عندها حلت لحظة إنهاء المكالمة. صمت قصير تلاها التفاتة منه صوب الزاوية المحتلة من قِبلها ليعتذر لها بشدة عن الإزعاج الذي من الممكن أن يكون قد تسبب فيه جراء تلك المكالمة. ألح في اعتذاره مرة أخرى والذي وجدته غير مبرر سوى لإطالة مدة الحديث، الحديث الذي لم يتجاوز كلمتين ظلت تكرر هما بغية إضفاء الراحة النفسية لتلك النفس المذنبة بذنب لا يعد من الكبائر، “لا بأس، لم انزعج”. انقضت تلك الثواني والتي برزت كلقطة رئيسية من فيلم وصل لنهاية المقدمات الكليشيه، إلا أن الأحداث التي كان من المرجح أن ترتفع لقمتها هبطت لقاع لم ترده مطلقًا. ظلت الدقائق المعدودة بعدها مجمدة داخل أحشاء آلة التبريد العملاقه، معلنةً عدم الامتثال لقانون الطبيعة الأول والمتمثل في الحركة الدائمة لجزئيات ذلك الجسد طالما تعرضت لحرارة  المحيط والمحبوسة بداخله. برزت لحظة قطعية لإنهاء ذلك المشهد فما كان منها إلا أن نهضت لتغادر موقع تصوير تلك اللقطة لتختم معها أحداث القصة بنهاية مفتوحة لم تعل عليها كثيرًا في إضفاء سعادة أبدية على ما ترغب فيه مخيلتها. 

قدِم اليوم التالي حاملًا معه آمال عريضة بلقاء آخر تكون فيه أجرأ في فتح حديث تتمنى أن يعد شيقًا ولا تصاب فيه عضلة لسانها بتشنج يمنعها من إطلاق كلمات مفهومة ذات وزن يليق بتلك اللحظة. دخلت المقهى لتفاجأ بخلو المقعد المحجوز دومًا من قِبله، استغربت قليلًا ألا أنها ظنت أن الصورة ستتعدل إلى ما اعتادت عليه بعد دقائق قليلة. مر الوقت بثقل دونما تغير يذكر، انتاب عقلها عجز منعها من أداء المهام الاعتيادية والتي ظلت  تتدفق بسهولة في أوضاع أخرى لا ترتبط مطلقًا مع ما تعيشه في تلك اللحظات. لا يخفى عليها أن كدرًا اصاب روحها عكر جميع الأمزجة المسجونة بداخلها، لتبزغ معها تلك الكآبة عاليًا حاجبة جميع أوجه العيش لتصيب تلك النفس بخمول تعجز معه الحواس عن التعبير. كل ما رغبت فيه في تلك اللحظة مغادرة المكان المألوف والذي انقلب لمكان يضيق بالنفس. عجيب أمر التحولات المفاجئة في جعل مكان معتاد تغمره الراحة إلى موضعِ موحش مقفر يعلق المرء كمحتجز بداخله، عادًا الثواني الطوال لحين الخلاص منه.

لم ينقطع أملها. ظلت على الدوام مواظبة على فعل الظهور هناك في وقت معلوم لمدة معلومة، وفي كل مرة يزداد سمك الغيمة السوداء المحلقة فوق رأسها، والتي نشأت بعد عدم تحقق ما تصبو إليه. تراءى لها كميات قليلة من الأبخرة المعروفة بالضباب، لتحيط كامل جسدها حاجبةً عنها رؤية ما تود أن تلتقطه. تلك الأصوات المألوفة عُدت غريبة، ذلك المنظر المعتاد أصبح دخيلًا. تملكتها الغيرة من تلك الشجرة المكتنزة الراغبة في الحياة والدخيلة على أقربائها من أشجار النخيل. فهي ما تزال متلهفة تجاه المكان الجديد، تستأنس بكامل تفاصيله، لا تستنكر فعلًا أو يختل منظر تألف قربه. بات الأمر شبيهًا بتلك النخلات الثلاثة كل ما توده أن يتكفل الوقت باقتلاعها من ذلك المقام.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s