أخيلة حقيقية (2): مايفلاور ووادي السيليكون

استجمع قواه لمواجهة ما كان يؤرقه طيلة الأشهر الماضية، عقد العزم لبذل ما في وسعه تحقيقًا لمبتغاه. مضت فترة زمنية طويلة بعد اتخاذ ذلك القرار، فالعمل لدى السفير لم يكن كما كان متوقعًا من قِبله. قدِم ويليام بروستر إلى هولندا وكله حماسة تجاه العمل الدبلوماسي داخل السفارة البريطانية. ألا إن اعمالًا روتينية وأساليب لم ترق له كانت سببًا في اتخاذه القرار الحاسم. 

عدل من هندامه، وانتصب للحظات مضت كساعات، ليفقد معها حساسيته تجاه الوقت. ألقى نظرة خاطفة على مقعد السفير، ليجده كما اعتاد أن يكون عليه متمللًا يطالع السقف بتمعن فلكي يأمل في اكتشاف جرم يستحيل تحديد هويته. أقدم على الخطوة التالية بتحريك قدميه إلى الأمام، تلك الحركة كانت كافية لإزاحة بصر السفير عما كان يتأمل، ليجتذب كافة انتباهه ناحية بروستر.

  • “ويليام، منذ متى وأنت تقف هنا”
  • “للتو سعادة السفير”

بدأ بعدها بروستر في شرح ما رغبت به روحه، معللًا قرار الاستقالة بالشوق للعودة إلى البلاد ورؤية والده المريض، والذي يعد سببًا مقنعًا من وجهة نظر السفير. ألا أن الأسباب التي ذُكرت على مسمعة لم تكن الحقيقة التي أدت إلى لقطة الختام للبطل بروستر. بيد أن العادة جرت على تحريف الأسباب الواقعية لصالح أخرى متخيلة ذات طابع إنساني. نتج عن ذلك الاستجداء إعفاء ويليام بروستر من ذلك المنصب أواخر العام 1589.

 لم يكن بروستر يومًا يشبه من هم حوله وظل منذ سنوات دراسته في كامبريدج متأثرًا بأفكار دينية ثورية تدعو للانفصال عن الكنيسة الإنجليكانية الحاكمة في إنكلترا، جعلت منه غريبًا في أكثر الأماكن ألفة بالنسبة إليه. تلك الحركة وهي مشتقة من البروتستانتية تدعو إلى إنشاء كنيسة غير خاضعة لشخص أو حكومة، بل على العكس من كل ذلك ستعد مستقلة يميزها الالتزام بتعاليم الدين المسيحي الصافية من دون تدخلات تُقدم من أي شخص. 

وطئت قدما بروستر موطنه بعد غياب دام ست سنوات. تلمس الأرض بعناية فتلك التربة المسودة تميز أرضه عن يابسة الأراضي المنخفضة. لم يتوهم شوقًا اُعتبر مندثرًا، فعلى النقيض من ذلك أحس بضيق يجتره صوب موضعِ ظن زواله. كانت قد لازمته  في الأيام اللاحقة للدارسة الجامعية قبيل المغادرة ناحية بلاد الطواحين الهوائية، ولعل تلك الضائقة حدته  على قبول تلك الوظيفة الدبلوماسية.   وجد نفسه بالقرب من والده المريض يعيله ويرقب حالته. وفي خضم الأوقات الصعبة تتجلى فرص لم يكن لها أن تنشأ لولا تلك الظروف.  أتيح له العمل داخل مكتب والده البريدي، ليسير بلا كلل ولا ملل ممتطيًا المناصب الواحدة تلو الأخرى.  وتمضي السنون به جاعلةً منه رئيسَا للمكتب البريدي. 

سلم زمامه رهنًا لتلك الوظيفة، آنس وضعه الجديد رغم عدم توافقه مع ما كان يشغل باله دومًا. وعلى الضفة المقابلة لذلك الاستكنان بدأت تبرز ملامح تحول تعصف بملامح المجتمع الأنجليزي، فتلك المعتقدات والتي ظلت حبيسة داخل قضبان قفصه الصدري، بدأت في الظهور شيئًا فشيئًا للعلن. لم يعد المنتمين لتلك الطائفة الدينية يهابون التعبير عن هويتهم وأن ظل محظورًا من قبل السلطات الإنجليزية. أُقيمت التجمعات داخل المنازل وأُنشئت على إثرها الجماعات الانفصالية، وجد بروستر نفسه منتميًا لإحداها دون تردد منه، فما انفكت تلك الأجواء إلا أن تعيده لسابق عهده وتعلقه بتلك الأفكار الثورية.

كونهم جماعة انفصالية، وُجد على الطرف المناقض لهم أوامر باعتقالهم وإيقاف دعوتهم واتهامات عدة بالخيانة، شعر بروستر بالخوف على حياته وأنه لم يعد في مأمن داخل موطنه فقرر الهجرة والذهاب مرة أخرى إلى هولندا، ففي اعتقاده يوجد هناك تسامح ديني أكثر مما هو عليه الحال في إنجلترا. تمت له الهجرة بمعاونة من جون روبنسون رفقة العديد ممن رغبوا في البحث عن موطن جديد لهم. ظل كل من بروستر وروبنسون ينقبون بحثًا عن مكان يلائم حاجتهم الملحة في الابتعاد عن أعين المتربصين من بني جلدتهم و المتواجدين على الأراضي الهولندية . عُدت أمستردام خيارًا مستبعدًا لازدحامها بأولئك المراقبين، لتتجه الأنظار ناحية المدينة الأخرى ليدن. مرفأ يعج بسفن شحن تجوب المحيطات الشاسعة قاطعةً مسافات يضيع معها العد عند الربع الأول، إذا كنت قبطانًا لسفينة ومتطلعًا إلى التجارة في المنسوجات، ستبحر حتمًا إلى ليدن. ألا أن بروستر لم تستهوه تلك الأعمال بل رغب في التقاط رصيف يعجل في رحيله ساعة وقوع الخطر. فقد ظل القلق قرينًا يتكئ بكامل ثقله على ظهره جاعلًا منه يترنح وأن ظهر على عكس تلك الحالة. 

اضطر بروستر لقبول العمل كمعلم للغة الإنجليزية سعيًا في كسب بعض الأموال التي استثمرها رفقة توماس بروير في طباعة الكتب الدينية، ليعمل على تصديرها وبيعها داخل الأراضي الإنجليزية في تحدي واضح للحكومة والتي حظرت أنشطة جماعته. بعد أن أطال مدة المكوث في مدينة ليدن، أستشعر بروستر قرب الكارثة بحدس أم ناحية تبدل حال أبنائها، فتلك الأعمال التي تصنف عدائية من قبل حكومة بلاده لن تتوانى في التقصي عن هوية المتسببين لها، لتنشأ معها حلقة تحري تتعقب خطوات المتهمين ملاحقةً إياهم  أثناء هبوط الليل وبزوغ ضوء النهار في نهم كبير وشهية مفتوحة لأصطياد المتمردين.  لتقضم الفريسة ما هُيأ لها ويسقط  بروير في شباك مُهدت من السلطات الهولندية تم تحريكها بواسطة خيوط لُفت حول أصابع السفير البريطاني.لاذ بروستر بالفرار ليجد نفسه عائدًا لمدينته الأم، مختبأً بين أزقتها يترقب نزوحه في أقرب فرصة. ألتقى برجلِ يقطن في ذات الأوضاع. مواقف الرجلين المتشابهة جعلت فكرة المغادرة تتخذ طريقًا سريعًا لا عودة فيه. قرر كل من ويليام بروستر وروبرت كوشمان تملك صك أرض من شركة فرجينيا والتي عُرفت بمهامها الاستيطانية في العالم الجديد وتحديدًا بمحاذاة الساحل الشمالي الشرقي منه. 

صباح شهر سبتمبر من العام 1620، وفي الوقت الذي بدأت فيه سرعة الرياح بالتبدل ودرجات الحرارة بالهبوط معية انقلاب درجة لون أوراق الشجر، انكشفت السفينة “مايفلاور” عند ميناء بلايموث والمطلة على المحيط الأطلسي، مستعدة لخوض مغامرة يستحيل التنبؤ بخاتمتها. لن تسير وحيدة ففي معيتها ركاب آمنوا برغبة العيش في أمان دون مضايقات من أي شخص. هنا أصبحت أمريكا في نظرهم هي الأرض الموعودة والتي من المفترض أن يسود فيها العدل بعد أن يتم تطبيق عقيدتهم. 

أمواج تلطم ميمنة السفينة ومقدمتها، وظلام كالح يجعل من الرؤية معدومة. بيد أن المنغصات تلك لم تحرك ساكنًا لدى ويليام بروستر، لأن روحه شعرت بالخلاص من مقيدها والأرض المقبلة تُنبأ بأيام يسودها السلام والطمأنينة.

1958 –  كاليفورنيا:

أخرج قلمه، وراح يسطر الكلمات المتراصة داخل عقله. استشعر أهمية اللحظة ولم يرغب في تفويت فرصة تدوينها. وكونه يشغل منصب مدير الأبحاث في مؤسسة فيرتشايلد لأشباه الموصلات، والتي أسسها العام الفائت، أراد أن يطلع الجميع على تلك الملاحظة. ليبدأ روبرت نويس في الكتابة على ورقته بتلك الكلمات:

” حبذا لو استطعنا إنتاج أجهزة متعددة على قطعة سيليكون واحدة، وذلك لإجراء ترابطات بين الأجهزة كجزء من عملية التصنيع، وبالتالي تخفيض حجم العنصر النشط ووزنه وما إلى ذلك، إضافة إلى خفض التكلفة”

ولدت تلك الكلمات منتجًا غير من مفهوم التقنية في العالم. ليقدم معها الشريحة الإلكترونية ذات الإسم الشهير Chip. تلك الرقاقة المشغلة للأجهزة الألكترونية والتي ما انفكت أن تمارس التطور منذ تلك اللحظة الفاصلة، فاتحةً المجال لعصر يختلف كليًا عن سابقه مسهلةً بذلك حياة قاطني كوكب الأرض.

ليس من السهل أن تترعرع داخل محيط يتسم بالتشدد، بيد أن نويس وجد نفسه عالقًا تحت رعاية قس من ولاية أيوا، القابعة في الغرب الأوسط، والمنعزلة معية ماكثيها عن بقية الولايات الأمريكية. ذلك الاختلاء ولد رغبة جامحة  في جوف نويس للأبداع بُغية الرحيل بعيدًا لأماكن خلق الفرص. لم يكن الأمر مستحيلًا ولم يحتج نويس لجني أزرق حتى يلبي رغبته الملحة، فخلايا دماغه تكفلت بأداء المهمة الصعبة فاتحة له الطريق نحو شهادات علمية في أفضل الجامعات الأمريكية. ذلك  التميز لفت أنظار الجميع ناحيته، من ضمنهم ويليام شوكلي والحائز للتو على جائزة نوبل لاختراعه الترانزستور. أراد شوكلي أن يستقطب الخريجين حديثًا للعمل معه في مختبره الناشئ “أشباه موصلات شوكلي” وذلك بعد أن رفض العديد من زملائه العمل تحت إمرته. تحدث شوكلي مع نويس وقد كان الآخر ملتزمًا الصمت فرحًا برؤية أحد أبطاله يقدم عرضًا وظيفيًا لإعجابه بتفوقه العلمي. لم يصدق عيناه بأن هذا الرجل نفسه يطلب منه الانضمام إلى مختبره الناشئ والذي يطمح من خلاله إلى تأسيس شركات أكبر في عالم أشباه الموصلات. تمت المصافحة  بين الرجلين موثقةً الموافقة الغير مقيدة بأية شروط سوى شرف العمل تحت تصرف ويليام شوكلي. 

أقبل نويس على مقر عمله في ماونتن فيو، ليشهد على وجود عدة أشخاص يشابهونه في العديد من الصفات، وكأن العالم شوكلي قد خاض رحلة في البحث عن النظراء. ذلك الأمر جعل من مهمة الاندماج مع الزملاء سريعة دون أية معوقات منطلقين معًا في خوض مغامرة تُعد سابقة لشباب بمثل أعمارهم.  جرى داخل المختبر نقاشات تقود لنظريات قد تخلق منتجات من شأنها أن تُحدث تحولًا في عالم التقنية. كان لابد من نقل تلك الحماسة للمسؤول الأول عن إشعالها، فما فائدة التواجد تحت مظلته إن كان غائبًا عن تلك الجدالات. ذهب نويس بنفسه إلى مكتب ويليام شوكلي، جامعًا أكبر قدر من الكلمات والتي بإمكانها أن تصف الشرارة المتقدة داخل جوف كل واحدِ منهم. التقت عيناه مع اعين شوكلي، والتي برزت من خلف النظارة الزجاجية السميكة. ينتاب نويس رعب مستنكر كل ما اقترب من ظل المدير، شعور وأن حاول إغفاله إلا أنه ما انفك أن يتجلى على هيئة قشعريرة تضرب جسده.

 أشاح شوكلي ببصره بعيدًا بعد فراغه من الإستماع لنويس. ليجد نويس نفسه  في حالة استغراب من ردة فعل مدير المختبر. أنتظر دقائق أخرى متطلعًا لرد فعل أوضح، ألا أن شيئًا لم يتغير بل على العكس من ذلك أطلق شوكلي جملةً كان لها كبير الأثر في نزع الثقة المبنية داخل روح نويس حين قال:

  • “أتمنى أن لا تعيدوا التفكير في الأمر مرة أخرى. فمن يحدد العناصر المشكلة لتلك الرقاقات داخل هذا المختبر شخص واحد يدعى ويليام شوكلي”

خرج نويس مذهولاً بما شهده للتو. عجل في خطواته حتى يتمكن من الالتقاء بزملائه، إلا أنه وعند منتصف الطريق شعر بانقباض شديد جعل من عملية إدخال الأكسجين وإخراج الغاز السام عملية مميتة. اضطر للتوقف ممدًا ساقيه على بلاط الممر، والذي كان لامعًا لحداثة تدشينه، فلم تمضِ سوى ستة أشهر على إنشائه. تأمل حاله تلك وآمن أن الوضع خاطئ إذ لا بد من اتخاذ قرار جريء يمكنه من النهوض مرة أخرى. فكرة المغادرة لاحت له من العدم، ألا أنه أراد استشارة الرجال المتواجدين بقربه. عزم ضخم كهذا بحاجة ماسة لمعاونين يمكنونه من الوصول إليه، ولن يجد أفضل منهم للقيام بنجدته.

أشرق صباح صيفي من العام 1957 لتضيء أشعته قاعة ريدوود في فندق كليفت داخل مدينة سان فرانسيسكو. لم تكن القاعة العتيدة خالية، بل ضُجت بثمانية رجال تحيط بهم شكوك يتبعها حماسة لما هو قادم. توسط هذا الجمع روبرت نويس ليبدأ معها في إلقاء خطابه المحفز لما هو قادم : 

  • “جميعنا ضقنا ضرعًا من تصرفات شوكلي، أصبح انعدام الثقة صلة الوصل معه. كل ما أرجوه أن نتفق جميعًا على المغادرة الفورية من مختبر “أشباه موصلات شوكلي” لنُنشئ معها مؤسسة “فيرتشايلد لأشباه الموصلات”.    

 اعتبر الاجتماع كوثيقة لإعلان إنفصالهم عن شوكلي. والشاهد على ذلك الحدث ورقة دولار خُطت عليه تواقيع “الثمانية الخونة”، ليتم بعدها إنشاء شركتهم الخاصة. قرر الجميع تعيين روبرت نويس رئيسًا لتلك الجماعة الانفصالية، والبدء من خلاله في وضع أسس وتشريعات تنظم سير الأعمال داخلها.  تلك الجماعة الإنفصالية كان لابد لها من مستوطنة جديدة تؤسس وفق ما يؤمنون به  ليتم وضع “فيرتشايلد لأشباه الموصلات” في منطقة أصبحت فيما بعد نقطة الانطلاق في عالم التقنية وتمثل قبلة الحجيج المتعلقين بتلك العوالم والذي عُرف فيما بعد بـ “وادي السيليكون”.

استعاد نويس تلك الصورة الملتقطة مع زملائه السبعة في أول أيام التمرد. تلك التفاصيل الصغيرة. تأمل لحظة الانتصار التي تحققت له، وتذكر شكل البداية المربكة والمجهولة قبل عام مضى. ألا أن هذا الأمر جعله يستذكر مقولة لأبيه، رغم افتقار نقاط الالتقاء بينهما، حين ظل يذكره بهوية أجداده وصراعهم الذي خاضوه أبان القرن السابع عشر لغرض ممارسة معتقداتهم الثورية بسلام. “لم يهابوا ولم ييئسوا وبالأخص جدك الأعظم ويليام بروستر” كان غالبًا ما يرفع إحدى يديه عاليًا عند ذكر اسمه لضمان تعظيم أهمية هذا الرجل داخل عقل الأبن. إلا أن نويس في وقته الحاضر أضاف على حديث والده استطرادًا أعتقد أهميته:

“بروستر حتمًا يشبهني، وأن اختلفت توجهاتنا، فكلانا قرر الانفصال عن ما ظل يؤرقه في رغبة جامحة لتحقيق النجاح في مكان آخر”.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s