نحن نعرف ما سيأتي

في المعركة الخالدة للهروب من المهام اليومية، وجدت نفسي مطلعة على بعض الملاحظات المدونة في هاتفي الشخصي. تبرز جملة غير مكتملة في المقدمة، تتبعها ملاحظة كنت قد أديت المأمول منها، وأخرى أثارت تساؤلًا بداخلي عن مدى أهميتها الآن. إلا أن عبارة أصابت الهدف بشدي بقوة ناحية موقعها دون إمعان، سُطرت حروفها على هذا النحو (رواية “نحن نعرف ما سيأتي” وعن الواقع المحفز للخيال).

لم يستغرق الأمر سوى بضع ثواني حتى بدأت الذاكرة في استدراج بعض الالتقاطات من تلك الرواية والتي بُعثرت بشكل عشوائي دون إخلال في ترتيب قد يفقدها الرونق الخاص بها. الأبرز كان ربطها بلفظ الواقع المحفز للخيال. استأذنت الرجل المحترم عمدة كاستربردج كي أضعه جانبًا لأعيد إستخلاص الرواية ورؤية ما شدني فيها. تتخذ القصة شكلًا من أشكال الخيال التاريخي، حيث أنها تدعي حدوث أمر ما لأشخاص عاشوا في الماضي إلا أنه لم يتم. فهو في مجمله خيال محض ألا أنه حُفز بواسطة شخصيات تم التعمق داخل قصصهم في كتب التاريخ والسير الذاتية، أو من خلال كتاباتهم الأدبية كما هو الحال مع أبطال تلك القصة. 

كلايست وجوندروده رجل وامرأة مارسوا فعل الكتابة بما تملي عليه أرواحهم. هو عَشِق المسرحيات والقصص القصيرة أما هي مارست تلوين الكلمات برقة مشاعرها منتجةً قصائد كانت رفيقة الدرب في الحياة الوجيزة. كلاهما في الواقع أنهى حياته في عمر مبكر بالأقدام على الانتحار، والفاصل الزمني بينهما كان مجرد خمس أعوام تكاد لا تذكر في عداد الزمن والحارس الفطن القاطن بجوارها. لعل الكاتبة استوقفها أوجه الشبه الكبيرة بين الشخصيتين والنهاية الدرامية لحياتهما دون الإغفال عن تقارب فترة تواجدهم على هذا الكوكب، لأجل هذا ابتغت لقاءً لم يكتب له النشوء في وقت حضورهم. أمسكت بسلاح القلم ورسمت وقائع تتحكم فيه وحدها عن طريق إخراج المشاهد.افتعلت حفلًا ادبيًا للكُتاب الألمان يحضر فيه كلًا من الشخصيتين المنكوبتين، ومعها تستدرج كلايست وجوندروده لخارج ذلك الحفل في نزهة طويلة بجانب نهر الراين لتملأها بحوارات وحوارات لا تنتهي، ذكرتني تلك اللقطات بأفلام ريتشارد لينكليتر و وودي آلن حيث لا إبداع يُجمل الفيلم سوى الكلمات المنطوقة والتي ما فتئت تبهرني. هل التقى كلايست وجوندروده في مكان واحد؟ لا أحد يعلم، وهل من الممكن أن يكون قد أقاما حديثًا طويلًا أدى لتأكيد رغبتهما في الرحيل عن هذه الحياة؟ أيضًا لا أحد يعلم لأن الإجابة تكمن داخل جسديهما المتحلل في باطن الأرض. قد يتمكن بعض المتخاطرين بالأرواح من التواصل معهم أو إيهام السائل بمعرفة ما دار في ذلك الوقت، ألا أن المقتنعين بتلك الرؤية لن يكملوا عدد أصابع اليد الواحدة، فلن يأتي التأكيد الحتمي لتلك النظرية من خلال رؤى تتراىء لشخص يدعي امتلاكه قدرات خارقة.

تلك القصة والتي اختلقتها الكاتبة لا تختص بها فقط، فكل واحد منا يسرح بخياله بعد رؤيته لأحداث تقع تحت ناظريه لتبتدع عضلة المخ بعدها مناظرًا لم تطرأ في المشهد الأصلي. وكأن الكتابات المتدافعة في جري محتوم نحو الورق ما هي إلا اقتباسات عن وقائع طرأت بالصدفة في خط حياة ذلك الكاتب. وكدليل دامغ لهذه المعضلة القَسم المتكرر من قِبل الكُتاب قبيل بدء الفيلم أو المسلسل الراوي لتلك الأحداث بعدم استنادها على وقائع وشخصيات حقيقية وان حدث هذا فهو من باب المصادفة لا أكثر (الجميع يعلم انها ليست مصادفة). 

بحبال وثيقة يمتطي الواقع بالخيال متتبعًا ضحكات عمرها مئات السنين أو بضع ثواني. ذلك الصدى يعود منعكسًا بشكل مختلف، يضاف عليه بعض الأصوات المختلقة والتي يؤمن ساردها بضرورة حضورها، ليجد نفسه متعلقًا بتلك القصة أو ما توهمه من تلك القصة. قد تكون مجرد أسطورة وقد تكون واقعًا لا يراد له أن يحدث، في كل الأحوال هي تملأ عليه تفاصيل حياته، حياته الذي ظل محاولًا باستماتة تغير روتينها.

أن نفهم أننا مسودة-ربما تُرفض، وربما تُستكمل مرة أخرى

– كريستا فولف

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s