جو وإدّ

جو

أراقب خطواته، ينتابني خوف لرؤية هذا الرجل. أو ربما خيال هذا الرجل. أحاول طرد تلك الأفكار من رأسي. لحظات ولحظات من النزهات الصامتة التي يقضيها داخل المنزل، من الرواق إلى المرسم وإلى المطبخ. ساعات وساعات من الأفكار السوداء. أرغب بشدة في الذهاب إلى المطبخ إلا أنه قام برسم حدود داخل الشقة الصغيرة، قسم الأرضية لمناطق عدم عبور، يحرم علي التواجد بداخلها. أمكث هناك حبيسة في الخلف، ويتمثل أمامي كتفا إدوارد العريضة.

أصبحت تصرفاته موبوءة، يقوم بفعل إحداها حتى تتفشى التبعات في كافة أرجاء الشقة. تلك الشقة الضيقة والتي ما زلت أتساءل عن سبب استئجاره لها في هذا الطابق المرتفع دون أدنى مقومات العيش الأساسية. كل ذلك رغبةً في تلك الإطلالة الساحرة، حتى يتسنى للإلهام أن يغدق عليه بتلك الأفكار الباهرة والقادرة على التلون لتغدو لوحة فنية.

أتذكر جيدًا رعشة قلبي للقياه بعد سنوات عديدة من الفراق، غير المقصود، والتي تعد كفيلة بإخماد ذلك الشعور تجاهه. إلا أنه عندما شقت عيناي الطريق نحوه، في أول أجزاء تلك اللحظة، تدفقت تلك المشاعر من جديد. قادمةً من ذات الينبوع الذي جزمت بنضوبه. أقترب مني بجذعه الضخم، وطوله الفارع والذي ما انفك أن يزداد كل ما اقترب أكثر. حياني بأفضل منطوقاً لحروف اسمي “جو”. هو يعشق نُطقه مختصرًا، فلا طائل من ذكره كاملًا خشية أن يعطي إيحاءًا بالحشمة. عندها لم أتمالك نفسي لاقتطاع أسمه بذات الطريقة، أخرجته مشذبًا بعناية بهيئة حرفين متلاصقين “إدّ”. كُنت متقدة وآخرا ما أتمناه أن اتسم بالحياء، أو لعل الحياء ظل هاربًا مني على الدوام.

ما بك جوزفين، هذا الشخص هو ما تعلقت به روحك قبل أكثر من عشرين عامًا، حينما جزمتي بأن الوحدة ستكون ملاذك الأزلي، قدِم هو منتشلًا إياكي من تلك الهوة، لتنعمي بعدها بأيامِ ظننتي استحالة حدوثها. كنتي تسيرين خلفها لاهثة في جري محموم وكلما اقتربتي من خط النهاية أدركتي مسارًا جديدًا.

لكن لماذا لم أنتبه لصمته المهيب، ونظرة عينية الصارمة تجاه ساعة الحائط. كدت أجن من الغيرة من تلك الساعة. فأنا أن جمعت عُشر نظراته لها غلبتني في جل لحظات التقاء أعيننا. امتهنت من حيث لا أدري، كيف أتحول من شخص إلى آخر. تنكرت لهويتي حتى بت أتوق لها في فترات متباعدة. قد نسيت بأني “جوزفين” ذات الجسد الضئيل. غديت امرأة شقراء طويلة في لوحته “New York Movie”، واتقنت فن الاغراء بالرقص داخل عمله “Girlie Show”. أجد نفسي محتشمة في أحيان، ومتعرية بالكامل في أحيان كثيرة. أضحيت ظلالًا لشخوص نساء لا أقوى على مجاراتهم في الحيز الملموس. عندما أتمعن في الأمر أكثر أجد أن إدوارد تمتع في تشكيلي حسب رغبته وبما تملي عليه شهوته. لعله بتلك الطريقة أراد إيصال أمر لم يقو على النطق به، في لحظات صمته الطويلة، صدى صوته في القول بأنه ما عاد راغب بي. يطبع تهيؤات على تلك الأقمشة لمن أراد المكوث معهم في الحقيقة.

حيرني إدوارد باتخاذ الوحدة رمزًا للوحاته. أتُراه يلمح دون وعي منه عن المشاعر المترسبة فيما بيننا. ألم نكن سعيدين في بداية زواجنا. كيف لرجل مرتبط بامرأة أن يصرح علنًا بأنه وحيد. تلك الحالة لا تحمل إلا تفسيرًا واحدًا، أنه لا يرغب بالبقاء إلى جوارها. وعلى ما يبدو أن ذات الشعور بدأ يتسلل إلي.

إدّ

بت لا أطيق صوتها، أصاب بالحيرة عندما لا يضنيها التعب جراء التحدث دون توقف. من أين أتت بكل تلك الكلمات؟ تهم بإطلاق بعض الجمل البسيطة لتستمر معها رحلة لا نهائية يستحيل فيها إغلاق العضو المسؤول عن كل تلك الضوضاء. ذلك الفم، وددت لو امتلكت قوة خارقة لاقتلاعه من موقعه حتى يتسنى لي التركيز فيما أنوي القيام به. العالم على شفا الانهيار وحرب مجنونة تدق أبوابها بالقرب من نيويورك وهي حزينة بأني ما عدت أتواصل معها بالشكل الكافي. ألا ترى انكبابي على رسم تلك اللوحة اللعينة العالقة في غباب عالم مجهول لم أتمكن من استقصائه. حتى الرغبة المتكررة في رسمها داخل اللوحة لم تقدِم إلي هذه المرة، لن تكون ضمن الشخصيات المتواجدة بداخلها.

تؤلمني قدماي من كثرة الصعود والهبوط عبر تلك السلالم جالبًا الفحم حتى نمنح الشقة بعض الدفء. تلك الشقة التي بُهرت بها وبنافذتها الواسعة المطلة على ميدان واشنطن. إطلالة تجعلني أتحمل بعض المساوئ الجلية من عدم احتوائها على حمام أو حتى ثلاجة، لكن من عساه أن ينشغل بهما في خضم إنتاج عمله الإبداعي. كم هي باردة نيويورك، أحبها لكن ما تفتأ أن تجلب لي المتاعب كلما حل الشتاء. تلك البرودة القارسة القادرة على تجميد كل طرف متصل بجسدي وأهمها تلك اليدين.

أذكر اللقاء الأول لي مع جو. حين كنا مجرد فتيان يافعين نخطو خطواتنا الأولى في هذه الحياة. وبسبب جرأتها غير المعهودة في ذلك الوقت، اختارها الأستاذ روبرت هنري في مدرسة نيويورك للفنون لتكون العارضة من أجل تطبيق رسم البورتريه. لن أنسى نظرتها الثابتة والتي تضيء بعزيمة قوية، وثوبها المنزلق من كتفها. بالطبع لم أجرؤ على الحديث معها أو حتى الاقتراب منها ألا إن دروبنا تقاطعت في وقت ظن كل واحد منا أن الوحدة ستكون ظله الملاصق والرافض للانفصال عنه حتى وإن احتجب الضوء المسبب في وجوده.

الخوف من الوحدة، أظنه الدافع الرئيسي لارتباطي بها، لم يكن حب ذو طوفان من مشاعر ترغب في الالتصاق بالشخص الآخر دون ترك فرصة تمنحه القدرة على التنفس. صدفة، لا يُفهم مغزاها، جمعتنا في ذات المكان. ألقيت نظرتي الأولى لأتعرف عليها على الفور رغم مرور العديد من السنوات عن آخر لقاء لنا. في الحقيقة كان لقاءً يتيمًا بعد ما حدث داخل غرفة الصف في مدرسة الفنون. إن حسبتها رِيَاضِيًّا ستكون ثلاثة لقاءات بالمجمل. ذلك العدد كان كافيًا لاتخاذ قرار الارتباط والتي قبلت به جو على الفور.

أراها الآن عبر المرآة، وهي تتلصص علي في غمرة انحنائي تجاه اللوحة. لن أنكر تنامي الرغبة بداخلي في استدعائها حتى يتسنى لي إكمال هذه اللوحة من خلال رسمها. سأجد لها مكانًا داخل هذا المقهى، أجلسها بجانب الرجل الممسك بالسيجارة وأجعلها ترتدي الفستان الأحمر. لن يتبادلا أطراف الحديث كون الغرض الأساسي من اللوحة هو شعور كل فرد منهم بالوحدة حتى وإن وجدوا في موقعِ ينبئ بعكس ذلك.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s