عندما استفاقت اجتاحتها نفحة الملل ذاتها، والتي ظلت ملازمة لها في اليوم السابق، واليوم الذي يسبقه، واليوم الذي يسبقه، حتى نصل معها لليوم الأول. طرحت التساؤل الملح، والواجب قوله، من جلب كل تلك الجزيئات المتراصة والمسؤولة عن تركيب مركب الملل. وهو مركب شديد التعقيد يصعب التعرف على عناصره حتى يصبح من السهل على الملولة فك روابطه وإعادة كل عنصر منهم لمسقط رأسه، بعد أن تربت عليهم، مستحلفةً إياهم بأن لا يعاودوا الارتباط معًا حتى وإن كانت لديهم الرغبة الجامحة لفعل ذلك.
أحاطت جسدها بذراعيها حتى توضح لي أن الطقس بارد جِدًا، وفي تبرير لطلب أوصت به لعامل المقهى بإطفاء جهاز التكييف. أشفقت عليها بسبب تلك الرعشات التي ظلت تجسدها أمامي لأوافق على برودة الهواء داخل المقهى، رغم اعتراضي على هذا الأمر. مصيبة الخجل.
في لعبة التنس لا بُد من أن تتقن عدة ضربات، فاللعب هنا ليس عَشوائِيًا يبدأ عند رؤيتك للكرة وينتهي بضربة قاسية لها بهدف الخلاص السريع وإيصالها إلى الخصم المباشر. يجب عليك أن تضع أطراف جسمك الأربعة في أماكن محددة وبزوايا مختلفة قبل أن تنوي ضرب الكرة حتى يتسنى لها الانتقال بأمان للبقعة المقابلة. ولعبة التنس جاحدة، ما أن تبتعد عنها قليلًا حتى تعاملك كغريب لم يُكتب له ممارستها من قبل. إحدى تلك الضربات التي تنكرت لي هي ضربة الفورهاند أو ضرب الكرة بالجهة الأمامية للمضرب. يؤلمني أن أعاود التدريب عليها من الصفر، كون وضع القدمين مقابل بعضهما البعض مع ميل الخصر إلى الخلف رفقة الذراع، والتي ينبغي عليها أن تحلق من الأسفل إلى الأعلى دون مبالغة في عملية الطيران أمرُ لا يأتي من تلقاء نفسه. في المقابل هنالك ضربة الباكهاند والتي لم أجد صعوبة في العودة إليها، فما أن أنوي الرحيل حتى أعود مسرعةً لنقطة الانطلاق، وهو فعل أملك الكثير من الخبرة فيه. ثالث تلك الضربات هي السماش والتي أستبعد حدوثها من قِبلي كون الفعل يتطلب رقمًا معينًا في الطول أوقن بعدم حصولي عليه. أحاول التركيز لضبط الزاوية. كيف يمكنني ذلك؟. سأستعمل النظر حيث لا أملك أداة غيرها. الأقدام في موضعها والأيدي مستعدة لبدء العمل. يجب علي الآن تحريك اليد بشكلٍ نصف دائري من الأسفل إلى الأعلى دونما عجلة. ممتاز السرعة ملائمة، حتمًا ستتحقق معها ضربة الفورهاند المكتملة. إلا أن الشخص الماثل أمامي والذي يمدني بالكرات الواجب إرجاعها لم يتوقف عن الكلام حول السمك وأنواع السمك وأفضل البحار المربية للسمك. “سمك الإسماعيلية أطيب سمك ممكن تذوقيه في حياتك”. لو علم أني لا أطيق رائحة السمك وحديثه عنها يجعلني أشمئز أكثر وأكثر. السمك والكثير غير السمك. الخضار المحتشدة داخل السلطة. حلقات الزيتون. القهوة، شربها لا المقشر المستخلص منها. التمر ومشتقاته من أطباق تشيء بأن من ابتدعها كان مُضطرًا لعدم توفر مكونات أخرى. فلا رغبة لديه في كسب إعجاب المتذوق. ولن أغض الطرف عن الفواكه غير المحببة، لنرى: أكره المنجا والبطيخ والفراولة والعنب. ربما اختصارًا للوقت سأذكر ما أستسيغه منهم وهما اثنان قد يصطف معهم ثالث في أحيان، وأحيان أخرى يبقون منفردين دونه؛ البرتقال والتفاح والمتردد الموز. رغم عدم تذكري لآخر مرة تناولت فيها قطعة من التفاح إلا أن مجرد ذكر اسمه لا يجلب معه الرغبة في الغثيان كما هو الحال مع الحليب. الحليب كيف لي أن أنساه وهو المتصدر في الأطعمة المنبوذة، المسببة أيضًا لأمور لا أنوي التطرق لتفاصيلها. أين كنت؟ نعم في محاولة إتقان ضربة الفورهاند. تفاجأتُ بمرور الكرة من جانبي قابعة هناك في الخلف دون أن ترتطم بالمضرب. هذه المرة كان الإخفاق كبيرًا والذي كان في السابق متشكلًا على هيئة إرجاع الكرة لكن بطريقة خاطئة لتحل محلها معضلة عدم اللحاق بالكرة. سألقي باللوم على رائحة السمك البغيضة.
خفض سقف التوقعات كما صرح به محمد عبده “وش اللي عاد أرتجي”
محذرًا إياها من خطر السفر داخل الغرب الأميركي، قبل مئة عام، نبه رجل قبيلة باوني المنتمي إلى السكان الأصليين تلك المرأة المنتقمة بأن عليها أن لا تكتفي بالقوس والسهم في لحظة الدفاع عن النفس، إذا ظهر القاتل، ولكن يجب أن يكون السكين أقرب لها. وأن تستغل لحظة وقوف القاتل لتسبقه بالطعنة. تساءلت لماذا قد يقف القاتل قبل أن يقتلها، أجابها “ليتأمل وجهكِ”. كانت عبارة غزلية في غير موقعها، خطفتها من لحظة عدم الأمان لمنطقة أخرى واضحة المعالم. وهذا ما جعلها جذابة، لاذعة. تشبه لسعة الليمون في الطعام حين تباغتك في أكثر الأوقات انشغالًا.
مواقف الحافلات لمترو الرياض مارست الحياة بشكل عكسي؛ جربت الهجر قبل الأُنس.
لعنصر اليورانيوم عدد نيوترونات كبير تقبع داخل نواة ذرته، مقارنة بـ بروتوناته، وهذا ما يجعله ذو نشاط إشعاعي ضار بغية الوصول للاستقرار. ألا أن هذا الأمر كلفه عمرًا مديدًا يقارب الملايين من السنين، حتى يصل إلى لحظة الاطمئنان تلك. سيصيبك لفحة سكون بأنك لن تضطر في حياتك القصيرة الانتظار كل تلك المدة بغية المكوث في بقعة تفوح طمأنينة، والانتهاء كُلِيًا من رحلة الركض اللامتناهية للحاق بِالسُّكْنَى. هي سنوات قصيرة مقارنةً بذلك العنصر المسكين والذي يُعرف باليورانيوم.
“مفتاح السيارة بطاريته منخفضة” تنبيه يعاود الظهور في كل مرة أهم فيها للخروج من السيارة. وفي كل مرة مفتاح السيارة يعمل دون أي مشكلة.
امتطت سيارتي ظهر رصيف للمرة ….، ألا أنه في هذه الحالة أرادت تلقيني درسًا يسهم في دب الذعر بداخلي. أبت العجلات أن تستجيب لضغطة البنزين التي ما فتئتُ أزيدها قوة عبر قدمي اليمنى. حققت مرادها لأجدني مذهولة من رؤية المنظر بعد نزولي من السيارة، أربع عجلات تلامس الأرض دون أن تبدي رغبة بالحركة. أطلقت كافة الشتائم المسموحة حتى استفزها فتبادر بالتحرك. لأنهي معها هذا الموقف العصيب، بيد أن لاشيء من هذا قد حدث. داخل المواقف الخالية برز رجل أسمر كان يتأمل البدر الذي ظهر هذه الليلة بعد غياب قسري طيلة الأيام الماضية والتي كانت مصحوبة بهطول غزير للأمطار. ولعلي قطعت خلوته ومناجاته عندما صرخت صوبه بأن يخلصني من تلك الورطة. لم يتوانَ عن القدوم مسرعًا رغبةً في المساعدة. أمرني أن أركب السيارة واضغط على دواسة البنزين. استشطت غضبًا فماذا عساي كُنت فاعلة قبل قدومه. ألا أنه أصر قائلًا “تتسهل إن شاءالله”. عملت ذات الفعل الذي قمت به من قبل، وعادت ذات النتيجة للظهور، لا حِراك. أبتعد الرجل قليلًا وكأنه لمح شيئًا يعرفه حق المعرفة. خفت بأن يبتعد هربًا من تلك المسؤولية. تخيلت أن ذلك الحمل قد أرهقه فما عاد قادرًا على التحمل ليبتعد بجسده بعيدًا دونما نية في العودة. ألا أنه سرعان ما تبددت شكوكي حين رؤيتي له عائدًا ناحية السيارة حاملًا بيده قطعة خشبية مهملة من مبنى في طور البناء. قام بوضع القطعة الخشبية ناحية العجلة العالقة، مع صعوبة في رؤية المشهد كاملًا لفهم ما يجري . ما أن أنهى ذلك الفعل الغامض حتى أطلق زفرة الانطلاق “الآن”. عدت لعمل ذات الفعل للمرة الثالثة. وللمرة الثالثة لا حِراك. أعاد فعل الفعل الغامض مضافًا إليه صوت طرقات أحسب أنها قدِمت من القطعة الخشبية وهي تنهال بالضرب على العجلة العالقة كعقوبة حازمة تجاه ما ارتكبته من تهور. أعاد إشارة الانطلاق مرة أخرى لأعاود الضغط على دواسة البنزين ومعها أحسست بارتفاعَ في السيارة، ليصاحبها ارتفاع في هرمون الأدرينالين ضاربًا مستوى قياسي أظنني قد تخطيت قمته ومعها اجتزت عتبة الرصيف. انهلت بكلمات الشكر والثناء على الرجل مع ذكر مديح طفيف عن تلك الشهامة ليقابلها بكلمات مبهمة احسبها تدل على تواضع رجل اعتاد فعل ذلك الأمر. ركنت السيارة قريبًا من موقع الحدث، لم أستعجل الخروج للحاق بموعدي داخل البناية إلا أني هممت بفعل الخروج في النهاية. كان السكون يحف المكان في وشاية كاذبة عما ضُجَّّ به قبل قليل. أشحت بعيني في كافة الاتجاهات إلا باب العيادة، باحثةً عن العناصر المكونة لمشهد “إنقاذ السيارة”. جميعها اختفت، لا الرجل الأسمر ولا القطعة الخشبية. حتى البدر الذي أضاء لنا الليلة، والمرتبط بتحريك أمواج البحار لأعلى مستوى دون الإغفال عن علاقته الغريبة مع قصص الأساطير، عاد لاحتجابه خلف الغيوم المحتشدة. كأنهم جميعًا أدوا الغرض المنوط منهم في هذا الوقت داخل هذا المكان، لينتقلوا بعدها مكملين مشهدًا آخر يحدث تحت سماء أخرى.
وضع ارهينيوس مفهومًا يفسر سلوك الأحماض والقواعد. آمن بأن المركب الذي يحمل ذرة هيدروجين ويهبها عند تفاعله مع الماء هو حمض والمركب الذي يهب جزيء الهيروكسيد عند خوض ذات التفاعل هو قاعدة. بيد أن النشادر أصابه في دهشة لقدرته على وهب جزيء الهيدروكسيد واحتوائه على ذرة هيدروجين بداخله. امتعض بشدة نتيجة مخالفة ذلك المركب توصياته. أشعر بأن ارهينيوس باح لنفسه معبرًا عن استيائه من النشادر مطلقًا كافة الشتائم المقبولة والمنبوذة، بل وتملكته الرغبة الملحة بإخفاء ذلك المركب عن الوجود خوفًا من أن يدمر نظريته الفتية. لكن لا شيء من هذا حدث كل ما قام به هو أن تجاهل هذا الأمر واضعًا جملة من كلمتين عن سلوك النشادر بقوله: “لا يمكن تفسيره”.
منبوذًا مثل الكربون. يبنون مدنًا خالية منه، ووقودًا لا يلفظه إلى الخارج. ذلك الخارج الذي عُد مسكنًا لشكله الغازي والذي يأبى الجميع في استنشاقه.
لحظة سعيدة تتحول إلى ذكرى يتم التحسر على ابتعادها وكلما طالت المدة الفاصلة بين وقت حدوثها والوقت الذي تم فيه استدعاؤها يزداد معها حجم الحسرات. أما الحزينة أو الغليظة فتهرول مسرعة ساعة نشأتها مبتعدةً في قاع لا يُعرف مكان تواجده، فلا يرغب صاحبها في استرجاعها أو حتى تذكرها. باتت آمنة رغم قبحها.
أصبحت تفضل الاستماع للموسيقى الخالية من الكلمات، تكفيها تلك السيناريوهات المحتشدة داخل رأسها. ولا تملك أدنى رغبة في إضافة المزيد منها عبر الأغاني.
تبرز في لوحة The Souvenir للرسام الفرنسي جان هونوري فراغونارد ملامح فتاة يافعة تحفر حرفًا على جذع شجرة أُخذا عمدًا من اسم عشيقها، تحت مرأى وترقب كلب الفتاة الشابة، رفيقها في تلك الخلوة مع الطبيعة. إن أردت أن تطيل النظر بتلك اللوحة رغبةً في الوصول لأدق تعبير يليق بها، فسوف تتراكض من فمك دون عناء صفات تنتمي إلى الحب الصادق والشاعرية العذبة. إيحاء فاضح يسهل التقاطه عند التأمل في معالمها. بيد أن أردنا العودة بالزمن إلى الوراء لوجدنا أن المحفز الأول لفراغونارد لنسج تلك القطعة كانت شخصية خيالية أبتُكرت ملامحها عبر مخيلة جان جاك روسو. فقد كانت “جولي” شابة حُرمت من الزواج بأول حب لها بسبب اختلاف الطبقات المنتمي لها كلا الطرفين. بيد أنها لم تقاوم ذلك الرفض عندما رضخت بعدها للزواج من رجل آخر يفوقها غِنى، لتنسى معها لحظات التلهف نحو من ظن تعلقها به. القصة لم تنتهِ عند هذا الحد بل كانت تلك البداية لعلاقة مختلفة بين الإثنين انعطفت نحو منحى آخر تم عن طريق التراسل. ظلت تراسل العشيق السابق لها قبيل زواجها، والذي أُعيد تقديمه إلى حياتها عن طريق الزوج المطمئن. صار الحب فيما بينهما محرم وغير مشروع، انتُزع منه صبغة الرومانسية الجذابة. عبارات قد تمحي جمالية تلك اللوحة وتنزع منها هيأتها المقدرة لها. مع ذلك ما زالت تترك أثرًا داخل كل من يغطس في قسماتها متناسيًا لبرهة أخلاقية تلك العلاقة.
The Souvenir – Jean-Honore Fragonard
أحبت جولي شخصًا غامضًا، ما برح أن يتخفى معظم الوقت داخل أمكنة وأزمنة مختلفة. ربما لو لم يتجلَ لها في أيام متفرقة داخل الشقة لجزمت أنه من صنيع خيالها. لا تعرف هويته، تعلم اسمه بالطبع، لكن نوع عمله والأبدان المختلفة التي يقضي معها جل لحظاته لحين انقضاء الوقت وقبل أن تحين ساعة لقائه بها، كانت أمور مبهمة بالنسبة إليها. تصورت أنه يعمل في وزارة الخارجية، أو هكذا صرح بالأمر. بدأت في رسم تخيلات عن شخصيته، ففي النهاية هي مخرجة أفلام ومهمتها الأساسية خلق الشخصيات تلو الشخصيات. آمنت بانتمائه للعمل ضمن سلك الاستخبارات، وبأنه عميل مزدوج لبريطانيا، البلد الأم، وإحدى الدول الشيوعية. فما من تفسير آخر لكل ذلك الالتباس تجاه هويته سوى تلك الخلاصة. تساءلت مرات عدة عن حقيقة مشاعرها تجاهه، أهو الحب فعلًا، أم حب الغموض الذي يرمي بها في عالم التوهمات المستجدة في كل مرة تفتح حديثًا معه، جاذبًا إياها ناحية اكتشافات جديدة في كل مرة. هي لا تسأله كثيرًا عما يجري في حياته أو ماذا يفعل خلالها، هي تظل مستمعة لما يود هو في إخبارها عنه. علها بهذه الطريقة ساهمت في إخفاء هويته، او ربما راق لها ما بدر منه من سحر الغموض. أم هي المتعة في وجود رفيق بجانبها عند الحاجة، ليس جل الوقت، بل في هنيهات توائم مزاجها في أيام متفرقة من الشهر. الغريب عند اختفائه من المشهد يطل بكامل أناقته داخل أحلام يقظتها، وجل وقت صحوتها. أصبح مرضًا متفشيا بعدوانية داخل جسدها و يصعب اجتزازه. أرادت صرف تلك الغشاوة بإنتاج عمل ملموس. ركزت على جعله بطلًا لقصة فيلم عُمل من قِبلها. رسمته بطريقة تلائم تخيلاتها عنه، على الرغم من حقيقة وجوده أو ربما احتجابه.
اشتركت في تطبيق DailyArt، وهو تطبيق يعنى بإرسال لوحة لكل يوم، يتذيلها معلومات بسيطة عن الرسام رفقة لوحته. في البدء طرح تساؤل عن الوقت المفضل لدي والذي أرغب فيه بتلقي تلك التنبيهات، اخترت التاسعة صباحًا لا لسبب مغرِ بل لكوني شعرت بأنه ملائم. الغريب أن التطبيق قرر أن يرسل تلك الرسائل عند التاسعة وأربع دقائق. ظننت أنه خطأ يبرز عند البداية إلا أن التطبيق التزم بهذا الوقت دونما حيود، وكأنه قد تلقى أوامر عسكرية بهذا الأمر أن هو أخل بها سيتحصل على عقوبة قد تنهي تواجده الألكتروني. خيالي المحض سرح بي نحو التفكير بتلك الدقائق الأربعة المفقودة. ماذا بوسع تلك اللوحة السابحة أن تفعل داخل الفضاء الإلكتروني؟ وماذا بوسعي أنا أن أفعل خلال دقائق الانتظار الأربعة؟
❞ لو وَقّت كلّ شيء بشكل دقيق، فلربما تزامنا بهدوء في موعد وصولهما. ❝