لعل أول ما يتنامى بداخلك عند الاستيقاظ من النوم لهفة البحث عن مصدر ضوء يُنبئك بحلول يوم جديد وانقِضاء فترة إهلاك الروح بأحلامِ تُبحر بك داخل عوالم لا محسوسة. ستجد عيناك وقد تحركت في حركة لا إرادية صوب النافذة، كونها المَنْفَذ لذلك الضوء بزجاجها الشفاف، دون الإغفال عن أنها حلقة الوصل بينك وبين الخارج. تلك النافذة الشاهدة على ما يدور بالداخل من أُلفة، ودفء. برود، وجفاف. تلك العين الشَاخِصة تجاه أحداث يومية تتراكم بمضي الدقائق والساعات والأيام. تسمع صمتنا وتصّدُ عن عويلنا. وهي لئيمة لا تكتفي بملء سطحها بصور داخلية فقط، فهي تُراقب أيضًا ما يقبع هناك في الخارج. تجلس مترصدة كمن عُيِّن جاسوسًا يعمل لصالح منظمة كلفتها بتسجيل كل شاردة وواردة تتجلى أمامها. لكن هل يستدعي الأمر تعلقًا كبيرًا وإلتصاقًا تجاهها نظير ما تقدمه لنا؟
التعلق بفكرة أو قطعة أو حتى شخص أمرُ يحدث للكثير من الأُناس. بيد أن الرسام هنري ماتيس بالغ في التشبث بها حين كان لزامًا عليه، وهو الوحيد الآمر لهذا الفعل، أن يضع نافذة في أغلب لوحاته. لن أدّعي دراسة شاملة لجميع لوحات ماتيس فلم أصل لتلك المنزلة من التخصص في علم خبايا الفنون، إلا أني كشاهدة بسيطة ومطلعة على أعماله أجد نفسي دائمًا أمام تلك النافذة. فأنا أن اخترت عشر لوحات عشوائية له ستبرز تلك النافذة في نصفها ، ثلاث ارباعها رفقة محظياته اللواتي تبرعن بالمثول إلى جانب النافذة. لن أطرح التساؤل عن سبب تلك العلاقة، فرجل مثل ماتيس كان له النصيب الأكبر من التنقل بين المدن والبلدان ذات التضاريس المنوعة، حيث مكث طويلًا في غُرفِ فندقية تتميز بحُسن هيئة نوافذها. فالغرض الأساسي من تلك العُلب المجوفة تجسيد إلهاء ينسيك ضيق المكان لتتجلى النافذة بحجمها الطاغي وزجاجها الشفاف معطيةً إياك نظرة واسعة لصورة خارجية تنسيك ضيق الحبس المتقوقع بداخله. فما كان من ماتيس إلا الامتثال لتلك الهِبة ليغدق على لوحاته بنوافذ متعددة.
تميزت ألوان ماتيس بأنها خارقة للطبيعة، فمن الصعب إيجاد مثيل لها في الحياة الواقعية، دون أن أغفل عن صبغتها العاشقة للحياة. ولا عجب في ذلك وهو المنتمي إلى المدرسة الوحشية والتي عُرفت باللون كأداة تعبيرعن التفاصيل. والإتيان بلوحات لماتيس تتلمس فيها عنصر النافذة سيكون أمرًا بالغ الصعوبة نظرًا لكثرتها، لكن سأذكر منها البعض القليل. على سبيل المثال اللوحة الأشهر “الغرفة الحمراء” بمعية “نافذة زرقاء” وربيبتها في اللون لا المنظر “نافذة في طنجة”. هنالك أيضًا تبرز لوحة عملاقة بعض الشيء إن أخذنا بالاعتبار أرقام الطول والعرض لتلك اللوحة والمعنونة بـ “المحادثة”، ولعلي هنا سأحكي بعض التفاصيل المتعلقة بتلك اللوحة، لأخالف بذلك وجهة نظر المخرج والكاتب إريك رومر حين صرح على لسان إحدى بطلاته: “الرسم شيء مقدس، الكلمات تُدَنِّسه. الموقف الوحيد الذي تواجه به لوحة هو الصمت”. فليعذر لي رومر تجاوزي هذا. في تلك اللوحة سنجد العنصر شبه الدائم، والضيف المرحب به على الدوام في عالم ماتيس الخيالي، والذي تتبعته منذ البداية “النافذة”. ستجدها منتصبة في منتصف القطعة الفنية، محاطة بجدار أزرق اللون يتميز بدرجته الصارخة المعتادة من قِبل ماتيس. على يمين النافذة تجلس امرأة على كرسي متكئةً بكلتا يديها على مسند المقعد وكأنها ضَجِرت من الاستماع لحديث الرجل الماثل أمامها والواقف من عند الجهة اليسرى للنافذة. الجميع يشير إلى أن بطلي اللوحة هما ماتيس نفسه وزوجته إميلي، ولعلها كانت لحظة تعبيرية لمشاعر بدأت تطفو بين هذين الزوجين. وهو ليس بأمر مستحدث يختص بحياة ماتيس، فالكثير من العلاقات الزوجية جَانبَت أو تَوصَلت لذات المصير، الفُتور. لكن هذه القطيعة المختبئة في ثنايا اللوحة لم يتم تأكيدها إلا بعد مرور عقدين على رسمها، إذا صحت التحليلات المتعلقة بها. لنستشعر من خلال تلك اللوحة بداية ظهور الشرخ داخل تلك العلاقة والتي ظلت تنمو ببطء طوال السنوات المتتالية لنصل معها للحظة الانفصال النهائية. ولعل الشاهد البارز، والعالم بذلك الأمر الخفي كان نافذة.
ذات النافذة نُسجت ملامحها من قِبل شُعار، أحدهم كان ريلكه. وإن أختلف تعلق ريلكه بتلك الهندسة عما كان يغوي ماتيس ناحيتها. تركيز ريلكه يتقوى من خلال مرفق الحبيبة المتكئ على النافذة، فما النافذة هنا إلا ممر عبور لامتداح المعشوقة، والتي سلبت روحه، وكلنا نعلم مدى رهافة روح ريلكه. النافذة هنا تتخذ اتجاهًا معاكسًا لما كان يجذب عيني ماتيس، الاهتمام كله ينصب لما هو موجود بداخلها فلا نلمح رؤية متعلقة بـ الإطلالة البهية للعالم الخارجي. ولا عجب أن تَعلُق ريلكه، مثلما هو الحال مع ماتيس، بقطعة النافذة قد جعله يخص إحدى قصائده بالحديث المسهب عنها. يقول شاكر لُعيبي في كتابه “شعرية التنافذ، ريلكه وتقاليد الشعر العربي” أن قصيدة النوافذ لريلكه تعد من المحاولات النادرة في شعره والتي يتخلى فيها عن ما برع فيه ذلك المفكر المنطوي على كينونته ليخط قلمه محيطه الخارجي والذي أغفل عنه كثيرًا، وكأنه في هذه القصيدة قد خلع رداء الشعراء الشماليين الغارقين في غوامض العالم الداخلي متشبهًا بشعراء جنوب العالم المتعلقين بكنوز العالم الخارجي. و سأستعرض بعض الأبيات من تلك القصيدة لإيضاح ذلك الافتتان.
أولستِ، أيتها النافذة، هندستنا،
يا هيئة في منتهى البساطة
تحيط دون عناء
بحياتنا الهائلة؟
تلك التي نعشقها لا تبدو أبدا أجمل
إلا حين نراها تتجلى
داخل إطارك أنتِ؛ لأنك تكادين،
يا نافذة، تجعلينها خالدة.
ربط ريلكه في هذه الأبيات خلود معشوقته عند تموضعها داخل إطار النافذة، وكأنه أراد أن يلمح أن لا وجود لصورة المحبوبة دون تلك النافذة، لأنها ببساطة ستُمكن المتلهف لها بإعطائه صورة ثابتة يستدعيها إذا جَنَبَ إلى لقياها.
لكن هاهي ذي التي تركض، وتميل، وتتوقف لتستريح:
بعد رحيل الليل، هاهو الريعانُ السماويُّ المستجد،
ها هو، بدوره، يُفصح عن القبول!
لا تتأملُ العاشقةُ الناعمةُ أيَّ شيء في سماء هذا الصباح،
ليستْ تتأملُ سوى ذاتِها، سوى هذه السماء، هذا المثال الهائل:
هذا العمق، هذا العلو!
لا تتأملُ العاشقة سوى حماماتٍ تجوب الفضاءَ في مسارات
مستديرة، هناك حيث تضيء طيرانَها أقواسٌ ناعمة،
حمامات تستعرضُ هناك عودةَ العذوبة.
يعود ريلكه مرة أخرى للعاشقة ويربطها بالنافذة. ففي هيامها المتجدد والذي يزداد اتقادًا مع آخر ذرات ليلية قبيل تحولها الكامل إلى حبيبات صفراء، تسرح هي في تأمل عميق نحو السماء الممتدة رفقة ما يحوم بداخلها. غيوم وحمام وأشياء أخرى لم يسع ريلكه حصرها. ولعلها أمعنت النظر أكثر فأكثر صوب الحيوانات الطائرة، جاعلةً مساراتها ذو شكلِ هندسي يشبه الأقواس. ومن المؤكد أنها لن تبلغ ذلك المفهوم دون معاونة الجماد الماثل أمامها. وعلى ما يبدو أن ريلكه راق له ما التقطته عيناه عبر النافذة رغم احتمالية اختباء منظر أروع أن تم له الدخول داخل المنزل المحتضن للنافذة. ألا أن شيئًا من هذا لم يحدث، أو لم يُذكر في القصيدة، لتجعلنا نظن بأنه أحد المؤمنين بحقيقة المغناطيس، حيث يكمن التأثير حين التواجد عن بعد ويتلاشى ساعة الاتصال المباشر.
أن تعمقنا في المصطلحات المشتقة من الفعل نافذة ستقفز للأذهان كلمة (التنافذ) والتي يتم جر معناه إلى: “تَنَافَذَ القومُ إِلى القاضي: خَلَصوا إِليه ورفعوا إِليه خصومتَهم”. لكن لنغّض الطرف قليلًا عن المعنى السابق متوجهين صوب الإيحاء العاطفي المشتق منه لتتجلى عذوبة المعنى ورقته في تلك الجملة: “الذهاب للآخر والاتصال به شعوريًا، في التنافذ ثمة ذهاب متبادل نفّاذ نحو الآخر”. وتتجلى رغبة الاتصال تلك عند ذكر المحبوب أو المحبوبة في الشعر العربي، كما تتضح بصورة أخرى في توق المريدين للاتحاد بالله في الشعر الصوفي. وكما يذكر لنا شاكر لُعيبي مرة أخرى في كتابه (شعرية التنافذ) “التنافذ هو الممر الذي يخترقه السرُّ، المخفي والمحجوب. وهو هذه التبادلية للأسرار بين الداخلي والخارجي، بين الغائب والحاضر، وبين المرئي واللامرئي”.
تستدرجني تلك الكلمات نحو الحديث عن هوية النوافذ التي رقدت تحتها. عن من كانت تقبع هناك أمامي عند البحث عن الدلائل الأولى لهطول الصباح بقطعان أشعة الشمس النافذة من خلالها. ورغم ما قد يصيب الذاكرة من عطب طفيف أو حتى عميق نتيجة تراكم السنوات المقضية، إلا أن أول نافذة لمحتها وُصمت بقوة في ذاكرتي. بإطارها المربع، وسياجها المعدنية المرتبطة بعمارة تقليدية مجاورة لأخرى تشبهها، وشقق تتماثل تفاصيلها ومكنوناتها بما يكتض به المنزل المجاور. ولكن هذا الأمر يجرني لطرح مصطلح آخر لتلك المُراقِبة نظرًا لكونها سياجًا معدنيًا أكثر من كونه مطل يتيح رؤية أوضح للخارج. وفي اللغة العربية ارتبط الشباك بتلك الصفة حيث يتميز بعزل لأصحاب الدار عن الخارج دون رغبة في الالتقاء به. فهو غير معني على الأطلاق بالانفتاح على الآخر، أو بأي صبغة ذات دلالات رومنسية، ولعل قريحة ريلكه لن تهمس له بشيء لو كُتب لها المكوث قرب تلك الكوة. وأبرز معاون لوسم وتثبيت تلك الصفة لهذا الحاجز المسمى “شباك” هي السياج المعدنية المتداخلة.
نفس التصميم في مدينة أخرى ولعله لو لم يذكر لي اننا انتقلنا إلى مدينة تبعد 700 كلم غربًا عن الأولى لكنت ما علمت بهذا الأمر أبدًا. تصميم متطابق وبروز مرة أخرى للشباك لا النافذة دون رسم أية معالم جمالية تستدعي قدوم ذكرى. لعلها كانت باهتة الملامح لا شيء يستحق التتبع خلف هويتها.
فجأة تنبهت لتلك النافذة المتربصة أمامي، وكأني ألمح شيئًا لأول مرة. تلك الأعين المثبتة على الحائط. انتباهي هنا لم ينشأ لكون الملموح قد وُضع حديثًا ويتمتع بخصلة جذب الانتباه في أيامه الأولى، لأسبر ما بداخله بُغية اكتشاف ما لم يُلمح في البدء. بل على العكس من ذلك، فقد استوطنت هذه النافذة تلك البقعة سنوات عدة تقارب العقدان تناقصت خلالها الأجساد المتراصة في كنفها. ألا أن اللمحة هنا قد تغيرت أو لعله اللامِح لها هو من تغير، أو هو مجرد رفع درجة التركيز نتيجة الحديث المطول عن النافذة. صنفت هذا التأمل تحت بند التشريح. تفكيك أوصال تلك القطعة حتى أفهمها بشكل جيد. ما زال الشكل المربع هو الطاغي على المنظر رفقة السياج المعدنية ألا أنها هنا قد اتخذت شكلًا جماليًا يحاول أن يطمس صفة الشباك عنه. تشعر بأن الآخر موجود لكن بحذر، لا بعد متعمد ولا قرب يؤنس به. ظل يحاول أن ينتقل للداخل لكن يأبى في كل مرة أن يكمل رحلته. هي لمحة لا تغريني كثيرًا، بيد أن وجودها يُعدُ مؤنسًا تستطيب الروح للقياه عند أولى لحظات تفتح الأعين.