جو وإدّ

جو

أراقب خطواته، ينتابني خوف لرؤية هذا الرجل. أو ربما خيال هذا الرجل. أحاول طرد تلك الأفكار من رأسي. لحظات ولحظات من النزهات الصامتة التي يقضيها داخل المنزل، من الرواق إلى المرسم وإلى المطبخ. ساعات وساعات من الأفكار السوداء. أرغب بشدة في الذهاب إلى المطبخ إلا أنه قام برسم حدود داخل الشقة الصغيرة، قسم الأرضية لمناطق عدم عبور، يحرم علي التواجد بداخلها. أمكث هناك حبيسة في الخلف، ويتمثل أمامي كتفا إدوارد العريضة.

أصبحت تصرفاته موبوءة، يقوم بفعل إحداها حتى تتفشى التبعات في كافة أرجاء الشقة. تلك الشقة الضيقة والتي ما زلت أتساءل عن سبب استئجاره لها في هذا الطابق المرتفع دون أدنى مقومات العيش الأساسية. كل ذلك رغبةً في تلك الإطلالة الساحرة، حتى يتسنى للإلهام أن يغدق عليه بتلك الأفكار الباهرة والقادرة على التلون لتغدو لوحة فنية.

أتذكر جيدًا رعشة قلبي للقياه بعد سنوات عديدة من الفراق، غير المقصود، والتي تعد كفيلة بإخماد ذلك الشعور تجاهه. إلا أنه عندما شقت عيناي الطريق نحوه، في أول أجزاء تلك اللحظة، تدفقت تلك المشاعر من جديد. قادمةً من ذات الينبوع الذي جزمت بنضوبه. أقترب مني بجذعه الضخم، وطوله الفارع والذي ما انفك أن يزداد كل ما اقترب أكثر. حياني بأفضل منطوقاً لحروف اسمي “جو”. هو يعشق نُطقه مختصرًا، فلا طائل من ذكره كاملًا خشية أن يعطي إيحاءًا بالحشمة. عندها لم أتمالك نفسي لاقتطاع أسمه بذات الطريقة، أخرجته مشذبًا بعناية بهيئة حرفين متلاصقين “إدّ”. كُنت متقدة وآخرا ما أتمناه أن اتسم بالحياء، أو لعل الحياء ظل هاربًا مني على الدوام.

ما بك جوزفين، هذا الشخص هو ما تعلقت به روحك قبل أكثر من عشرين عامًا، حينما جزمتي بأن الوحدة ستكون ملاذك الأزلي، قدِم هو منتشلًا إياكي من تلك الهوة، لتنعمي بعدها بأيامِ ظننتي استحالة حدوثها. كنتي تسيرين خلفها لاهثة في جري محموم وكلما اقتربتي من خط النهاية أدركتي مسارًا جديدًا.

لكن لماذا لم أنتبه لصمته المهيب، ونظرة عينية الصارمة تجاه ساعة الحائط. كدت أجن من الغيرة من تلك الساعة. فأنا أن جمعت عُشر نظراته لها غلبتني في جل لحظات التقاء أعيننا. امتهنت من حيث لا أدري، كيف أتحول من شخص إلى آخر. تنكرت لهويتي حتى بت أتوق لها في فترات متباعدة. قد نسيت بأني “جوزفين” ذات الجسد الضئيل. غديت امرأة شقراء طويلة في لوحته “New York Movie”، واتقنت فن الاغراء بالرقص داخل عمله “Girlie Show”. أجد نفسي محتشمة في أحيان، ومتعرية بالكامل في أحيان كثيرة. أضحيت ظلالًا لشخوص نساء لا أقوى على مجاراتهم في الحيز الملموس. عندما أتمعن في الأمر أكثر أجد أن إدوارد تمتع في تشكيلي حسب رغبته وبما تملي عليه شهوته. لعله بتلك الطريقة أراد إيصال أمر لم يقو على النطق به، في لحظات صمته الطويلة، صدى صوته في القول بأنه ما عاد راغب بي. يطبع تهيؤات على تلك الأقمشة لمن أراد المكوث معهم في الحقيقة.

حيرني إدوارد باتخاذ الوحدة رمزًا للوحاته. أتُراه يلمح دون وعي منه عن المشاعر المترسبة فيما بيننا. ألم نكن سعيدين في بداية زواجنا. كيف لرجل مرتبط بامرأة أن يصرح علنًا بأنه وحيد. تلك الحالة لا تحمل إلا تفسيرًا واحدًا، أنه لا يرغب بالبقاء إلى جوارها. وعلى ما يبدو أن ذات الشعور بدأ يتسلل إلي.

إدّ

بت لا أطيق صوتها، أصاب بالحيرة عندما لا يضنيها التعب جراء التحدث دون توقف. من أين أتت بكل تلك الكلمات؟ تهم بإطلاق بعض الجمل البسيطة لتستمر معها رحلة لا نهائية يستحيل فيها إغلاق العضو المسؤول عن كل تلك الضوضاء. ذلك الفم، وددت لو امتلكت قوة خارقة لاقتلاعه من موقعه حتى يتسنى لي التركيز فيما أنوي القيام به. العالم على شفا الانهيار وحرب مجنونة تدق أبوابها بالقرب من نيويورك وهي حزينة بأني ما عدت أتواصل معها بالشكل الكافي. ألا ترى انكبابي على رسم تلك اللوحة اللعينة العالقة في غباب عالم مجهول لم أتمكن من استقصائه. حتى الرغبة المتكررة في رسمها داخل اللوحة لم تقدِم إلي هذه المرة، لن تكون ضمن الشخصيات المتواجدة بداخلها.

تؤلمني قدماي من كثرة الصعود والهبوط عبر تلك السلالم جالبًا الفحم حتى نمنح الشقة بعض الدفء. تلك الشقة التي بُهرت بها وبنافذتها الواسعة المطلة على ميدان واشنطن. إطلالة تجعلني أتحمل بعض المساوئ الجلية من عدم احتوائها على حمام أو حتى ثلاجة، لكن من عساه أن ينشغل بهما في خضم إنتاج عمله الإبداعي. كم هي باردة نيويورك، أحبها لكن ما تفتأ أن تجلب لي المتاعب كلما حل الشتاء. تلك البرودة القارسة القادرة على تجميد كل طرف متصل بجسدي وأهمها تلك اليدين.

أذكر اللقاء الأول لي مع جو. حين كنا مجرد فتيان يافعين نخطو خطواتنا الأولى في هذه الحياة. وبسبب جرأتها غير المعهودة في ذلك الوقت، اختارها الأستاذ روبرت هنري في مدرسة نيويورك للفنون لتكون العارضة من أجل تطبيق رسم البورتريه. لن أنسى نظرتها الثابتة والتي تضيء بعزيمة قوية، وثوبها المنزلق من كتفها. بالطبع لم أجرؤ على الحديث معها أو حتى الاقتراب منها ألا إن دروبنا تقاطعت في وقت ظن كل واحد منا أن الوحدة ستكون ظله الملاصق والرافض للانفصال عنه حتى وإن احتجب الضوء المسبب في وجوده.

الخوف من الوحدة، أظنه الدافع الرئيسي لارتباطي بها، لم يكن حب ذو طوفان من مشاعر ترغب في الالتصاق بالشخص الآخر دون ترك فرصة تمنحه القدرة على التنفس. صدفة، لا يُفهم مغزاها، جمعتنا في ذات المكان. ألقيت نظرتي الأولى لأتعرف عليها على الفور رغم مرور العديد من السنوات عن آخر لقاء لنا. في الحقيقة كان لقاءً يتيمًا بعد ما حدث داخل غرفة الصف في مدرسة الفنون. إن حسبتها رِيَاضِيًّا ستكون ثلاثة لقاءات بالمجمل. ذلك العدد كان كافيًا لاتخاذ قرار الارتباط والتي قبلت به جو على الفور.

أراها الآن عبر المرآة، وهي تتلصص علي في غمرة انحنائي تجاه اللوحة. لن أنكر تنامي الرغبة بداخلي في استدعائها حتى يتسنى لي إكمال هذه اللوحة من خلال رسمها. سأجد لها مكانًا داخل هذا المقهى، أجلسها بجانب الرجل الممسك بالسيجارة وأجعلها ترتدي الفستان الأحمر. لن يتبادلا أطراف الحديث كون الغرض الأساسي من اللوحة هو شعور كل فرد منهم بالوحدة حتى وإن وجدوا في موقعِ ينبئ بعكس ذلك.

أخيلة حقيقية (2): مايفلاور ووادي السيليكون

استجمع قواه لمواجهة ما كان يؤرقه طيلة الأشهر الماضية، عقد العزم لبذل ما في وسعه تحقيقًا لمبتغاه. مضت فترة زمنية طويلة بعد اتخاذ ذلك القرار، فالعمل لدى السفير لم يكن كما كان متوقعًا من قِبله. قدِم ويليام بروستر إلى هولندا وكله حماسة تجاه العمل الدبلوماسي داخل السفارة البريطانية. ألا إن اعمالًا روتينية وأساليب لم ترق له كانت سببًا في اتخاذه القرار الحاسم. 

عدل من هندامه، وانتصب للحظات مضت كساعات، ليفقد معها حساسيته تجاه الوقت. ألقى نظرة خاطفة على مقعد السفير، ليجده كما اعتاد أن يكون عليه متمللًا يطالع السقف بتمعن فلكي يأمل في اكتشاف جرم يستحيل تحديد هويته. أقدم على الخطوة التالية بتحريك قدميه إلى الأمام، تلك الحركة كانت كافية لإزاحة بصر السفير عما كان يتأمل، ليجتذب كافة انتباهه ناحية بروستر.

  • “ويليام، منذ متى وأنت تقف هنا”
  • “للتو سعادة السفير”

بدأ بعدها بروستر في شرح ما رغبت به روحه، معللًا قرار الاستقالة بالشوق للعودة إلى البلاد ورؤية والده المريض، والذي يعد سببًا مقنعًا من وجهة نظر السفير. ألا أن الأسباب التي ذُكرت على مسمعة لم تكن الحقيقة التي أدت إلى لقطة الختام للبطل بروستر. بيد أن العادة جرت على تحريف الأسباب الواقعية لصالح أخرى متخيلة ذات طابع إنساني. نتج عن ذلك الاستجداء إعفاء ويليام بروستر من ذلك المنصب أواخر العام 1589.

 لم يكن بروستر يومًا يشبه من هم حوله وظل منذ سنوات دراسته في كامبريدج متأثرًا بأفكار دينية ثورية تدعو للانفصال عن الكنيسة الإنجليكانية الحاكمة في إنكلترا، جعلت منه غريبًا في أكثر الأماكن ألفة بالنسبة إليه. تلك الحركة وهي مشتقة من البروتستانتية تدعو إلى إنشاء كنيسة غير خاضعة لشخص أو حكومة، بل على العكس من كل ذلك ستعد مستقلة يميزها الالتزام بتعاليم الدين المسيحي الصافية من دون تدخلات تُقدم من أي شخص. 

وطئت قدما بروستر موطنه بعد غياب دام ست سنوات. تلمس الأرض بعناية فتلك التربة المسودة تميز أرضه عن يابسة الأراضي المنخفضة. لم يتوهم شوقًا اُعتبر مندثرًا، فعلى النقيض من ذلك أحس بضيق يجتره صوب موضعِ ظن زواله. كانت قد لازمته  في الأيام اللاحقة للدارسة الجامعية قبيل المغادرة ناحية بلاد الطواحين الهوائية، ولعل تلك الضائقة حدته  على قبول تلك الوظيفة الدبلوماسية.   وجد نفسه بالقرب من والده المريض يعيله ويرقب حالته. وفي خضم الأوقات الصعبة تتجلى فرص لم يكن لها أن تنشأ لولا تلك الظروف.  أتيح له العمل داخل مكتب والده البريدي، ليسير بلا كلل ولا ملل ممتطيًا المناصب الواحدة تلو الأخرى.  وتمضي السنون به جاعلةً منه رئيسَا للمكتب البريدي. 

سلم زمامه رهنًا لتلك الوظيفة، آنس وضعه الجديد رغم عدم توافقه مع ما كان يشغل باله دومًا. وعلى الضفة المقابلة لذلك الاستكنان بدأت تبرز ملامح تحول تعصف بملامح المجتمع الأنجليزي، فتلك المعتقدات والتي ظلت حبيسة داخل قضبان قفصه الصدري، بدأت في الظهور شيئًا فشيئًا للعلن. لم يعد المنتمين لتلك الطائفة الدينية يهابون التعبير عن هويتهم وأن ظل محظورًا من قبل السلطات الإنجليزية. أُقيمت التجمعات داخل المنازل وأُنشئت على إثرها الجماعات الانفصالية، وجد بروستر نفسه منتميًا لإحداها دون تردد منه، فما انفكت تلك الأجواء إلا أن تعيده لسابق عهده وتعلقه بتلك الأفكار الثورية.

كونهم جماعة انفصالية، وُجد على الطرف المناقض لهم أوامر باعتقالهم وإيقاف دعوتهم واتهامات عدة بالخيانة، شعر بروستر بالخوف على حياته وأنه لم يعد في مأمن داخل موطنه فقرر الهجرة والذهاب مرة أخرى إلى هولندا، ففي اعتقاده يوجد هناك تسامح ديني أكثر مما هو عليه الحال في إنجلترا. تمت له الهجرة بمعاونة من جون روبنسون رفقة العديد ممن رغبوا في البحث عن موطن جديد لهم. ظل كل من بروستر وروبنسون ينقبون بحثًا عن مكان يلائم حاجتهم الملحة في الابتعاد عن أعين المتربصين من بني جلدتهم و المتواجدين على الأراضي الهولندية . عُدت أمستردام خيارًا مستبعدًا لازدحامها بأولئك المراقبين، لتتجه الأنظار ناحية المدينة الأخرى ليدن. مرفأ يعج بسفن شحن تجوب المحيطات الشاسعة قاطعةً مسافات يضيع معها العد عند الربع الأول، إذا كنت قبطانًا لسفينة ومتطلعًا إلى التجارة في المنسوجات، ستبحر حتمًا إلى ليدن. ألا أن بروستر لم تستهوه تلك الأعمال بل رغب في التقاط رصيف يعجل في رحيله ساعة وقوع الخطر. فقد ظل القلق قرينًا يتكئ بكامل ثقله على ظهره جاعلًا منه يترنح وأن ظهر على عكس تلك الحالة. 

اضطر بروستر لقبول العمل كمعلم للغة الإنجليزية سعيًا في كسب بعض الأموال التي استثمرها رفقة توماس بروير في طباعة الكتب الدينية، ليعمل على تصديرها وبيعها داخل الأراضي الإنجليزية في تحدي واضح للحكومة والتي حظرت أنشطة جماعته. بعد أن أطال مدة المكوث في مدينة ليدن، أستشعر بروستر قرب الكارثة بحدس أم ناحية تبدل حال أبنائها، فتلك الأعمال التي تصنف عدائية من قبل حكومة بلاده لن تتوانى في التقصي عن هوية المتسببين لها، لتنشأ معها حلقة تحري تتعقب خطوات المتهمين ملاحقةً إياهم  أثناء هبوط الليل وبزوغ ضوء النهار في نهم كبير وشهية مفتوحة لأصطياد المتمردين.  لتقضم الفريسة ما هُيأ لها ويسقط  بروير في شباك مُهدت من السلطات الهولندية تم تحريكها بواسطة خيوط لُفت حول أصابع السفير البريطاني.لاذ بروستر بالفرار ليجد نفسه عائدًا لمدينته الأم، مختبأً بين أزقتها يترقب نزوحه في أقرب فرصة. ألتقى برجلِ يقطن في ذات الأوضاع. مواقف الرجلين المتشابهة جعلت فكرة المغادرة تتخذ طريقًا سريعًا لا عودة فيه. قرر كل من ويليام بروستر وروبرت كوشمان تملك صك أرض من شركة فرجينيا والتي عُرفت بمهامها الاستيطانية في العالم الجديد وتحديدًا بمحاذاة الساحل الشمالي الشرقي منه. 

صباح شهر سبتمبر من العام 1620، وفي الوقت الذي بدأت فيه سرعة الرياح بالتبدل ودرجات الحرارة بالهبوط معية انقلاب درجة لون أوراق الشجر، انكشفت السفينة “مايفلاور” عند ميناء بلايموث والمطلة على المحيط الأطلسي، مستعدة لخوض مغامرة يستحيل التنبؤ بخاتمتها. لن تسير وحيدة ففي معيتها ركاب آمنوا برغبة العيش في أمان دون مضايقات من أي شخص. هنا أصبحت أمريكا في نظرهم هي الأرض الموعودة والتي من المفترض أن يسود فيها العدل بعد أن يتم تطبيق عقيدتهم. 

أمواج تلطم ميمنة السفينة ومقدمتها، وظلام كالح يجعل من الرؤية معدومة. بيد أن المنغصات تلك لم تحرك ساكنًا لدى ويليام بروستر، لأن روحه شعرت بالخلاص من مقيدها والأرض المقبلة تُنبأ بأيام يسودها السلام والطمأنينة.

1958 –  كاليفورنيا:

أخرج قلمه، وراح يسطر الكلمات المتراصة داخل عقله. استشعر أهمية اللحظة ولم يرغب في تفويت فرصة تدوينها. وكونه يشغل منصب مدير الأبحاث في مؤسسة فيرتشايلد لأشباه الموصلات، والتي أسسها العام الفائت، أراد أن يطلع الجميع على تلك الملاحظة. ليبدأ روبرت نويس في الكتابة على ورقته بتلك الكلمات:

” حبذا لو استطعنا إنتاج أجهزة متعددة على قطعة سيليكون واحدة، وذلك لإجراء ترابطات بين الأجهزة كجزء من عملية التصنيع، وبالتالي تخفيض حجم العنصر النشط ووزنه وما إلى ذلك، إضافة إلى خفض التكلفة”

ولدت تلك الكلمات منتجًا غير من مفهوم التقنية في العالم. ليقدم معها الشريحة الإلكترونية ذات الإسم الشهير Chip. تلك الرقاقة المشغلة للأجهزة الألكترونية والتي ما انفكت أن تمارس التطور منذ تلك اللحظة الفاصلة، فاتحةً المجال لعصر يختلف كليًا عن سابقه مسهلةً بذلك حياة قاطني كوكب الأرض.

ليس من السهل أن تترعرع داخل محيط يتسم بالتشدد، بيد أن نويس وجد نفسه عالقًا تحت رعاية قس من ولاية أيوا، القابعة في الغرب الأوسط، والمنعزلة معية ماكثيها عن بقية الولايات الأمريكية. ذلك الاختلاء ولد رغبة جامحة  في جوف نويس للأبداع بُغية الرحيل بعيدًا لأماكن خلق الفرص. لم يكن الأمر مستحيلًا ولم يحتج نويس لجني أزرق حتى يلبي رغبته الملحة، فخلايا دماغه تكفلت بأداء المهمة الصعبة فاتحة له الطريق نحو شهادات علمية في أفضل الجامعات الأمريكية. ذلك  التميز لفت أنظار الجميع ناحيته، من ضمنهم ويليام شوكلي والحائز للتو على جائزة نوبل لاختراعه الترانزستور. أراد شوكلي أن يستقطب الخريجين حديثًا للعمل معه في مختبره الناشئ “أشباه موصلات شوكلي” وذلك بعد أن رفض العديد من زملائه العمل تحت إمرته. تحدث شوكلي مع نويس وقد كان الآخر ملتزمًا الصمت فرحًا برؤية أحد أبطاله يقدم عرضًا وظيفيًا لإعجابه بتفوقه العلمي. لم يصدق عيناه بأن هذا الرجل نفسه يطلب منه الانضمام إلى مختبره الناشئ والذي يطمح من خلاله إلى تأسيس شركات أكبر في عالم أشباه الموصلات. تمت المصافحة  بين الرجلين موثقةً الموافقة الغير مقيدة بأية شروط سوى شرف العمل تحت تصرف ويليام شوكلي. 

أقبل نويس على مقر عمله في ماونتن فيو، ليشهد على وجود عدة أشخاص يشابهونه في العديد من الصفات، وكأن العالم شوكلي قد خاض رحلة في البحث عن النظراء. ذلك الأمر جعل من مهمة الاندماج مع الزملاء سريعة دون أية معوقات منطلقين معًا في خوض مغامرة تُعد سابقة لشباب بمثل أعمارهم.  جرى داخل المختبر نقاشات تقود لنظريات قد تخلق منتجات من شأنها أن تُحدث تحولًا في عالم التقنية. كان لابد من نقل تلك الحماسة للمسؤول الأول عن إشعالها، فما فائدة التواجد تحت مظلته إن كان غائبًا عن تلك الجدالات. ذهب نويس بنفسه إلى مكتب ويليام شوكلي، جامعًا أكبر قدر من الكلمات والتي بإمكانها أن تصف الشرارة المتقدة داخل جوف كل واحدِ منهم. التقت عيناه مع اعين شوكلي، والتي برزت من خلف النظارة الزجاجية السميكة. ينتاب نويس رعب مستنكر كل ما اقترب من ظل المدير، شعور وأن حاول إغفاله إلا أنه ما انفك أن يتجلى على هيئة قشعريرة تضرب جسده.

 أشاح شوكلي ببصره بعيدًا بعد فراغه من الإستماع لنويس. ليجد نويس نفسه  في حالة استغراب من ردة فعل مدير المختبر. أنتظر دقائق أخرى متطلعًا لرد فعل أوضح، ألا أن شيئًا لم يتغير بل على العكس من ذلك أطلق شوكلي جملةً كان لها كبير الأثر في نزع الثقة المبنية داخل روح نويس حين قال:

  • “أتمنى أن لا تعيدوا التفكير في الأمر مرة أخرى. فمن يحدد العناصر المشكلة لتلك الرقاقات داخل هذا المختبر شخص واحد يدعى ويليام شوكلي”

خرج نويس مذهولاً بما شهده للتو. عجل في خطواته حتى يتمكن من الالتقاء بزملائه، إلا أنه وعند منتصف الطريق شعر بانقباض شديد جعل من عملية إدخال الأكسجين وإخراج الغاز السام عملية مميتة. اضطر للتوقف ممدًا ساقيه على بلاط الممر، والذي كان لامعًا لحداثة تدشينه، فلم تمضِ سوى ستة أشهر على إنشائه. تأمل حاله تلك وآمن أن الوضع خاطئ إذ لا بد من اتخاذ قرار جريء يمكنه من النهوض مرة أخرى. فكرة المغادرة لاحت له من العدم، ألا أنه أراد استشارة الرجال المتواجدين بقربه. عزم ضخم كهذا بحاجة ماسة لمعاونين يمكنونه من الوصول إليه، ولن يجد أفضل منهم للقيام بنجدته.

أشرق صباح صيفي من العام 1957 لتضيء أشعته قاعة ريدوود في فندق كليفت داخل مدينة سان فرانسيسكو. لم تكن القاعة العتيدة خالية، بل ضُجت بثمانية رجال تحيط بهم شكوك يتبعها حماسة لما هو قادم. توسط هذا الجمع روبرت نويس ليبدأ معها في إلقاء خطابه المحفز لما هو قادم : 

  • “جميعنا ضقنا ضرعًا من تصرفات شوكلي، أصبح انعدام الثقة صلة الوصل معه. كل ما أرجوه أن نتفق جميعًا على المغادرة الفورية من مختبر “أشباه موصلات شوكلي” لنُنشئ معها مؤسسة “فيرتشايلد لأشباه الموصلات”.    

 اعتبر الاجتماع كوثيقة لإعلان إنفصالهم عن شوكلي. والشاهد على ذلك الحدث ورقة دولار خُطت عليه تواقيع “الثمانية الخونة”، ليتم بعدها إنشاء شركتهم الخاصة. قرر الجميع تعيين روبرت نويس رئيسًا لتلك الجماعة الانفصالية، والبدء من خلاله في وضع أسس وتشريعات تنظم سير الأعمال داخلها.  تلك الجماعة الإنفصالية كان لابد لها من مستوطنة جديدة تؤسس وفق ما يؤمنون به  ليتم وضع “فيرتشايلد لأشباه الموصلات” في منطقة أصبحت فيما بعد نقطة الانطلاق في عالم التقنية وتمثل قبلة الحجيج المتعلقين بتلك العوالم والذي عُرف فيما بعد بـ “وادي السيليكون”.

استعاد نويس تلك الصورة الملتقطة مع زملائه السبعة في أول أيام التمرد. تلك التفاصيل الصغيرة. تأمل لحظة الانتصار التي تحققت له، وتذكر شكل البداية المربكة والمجهولة قبل عام مضى. ألا أن هذا الأمر جعله يستذكر مقولة لأبيه، رغم افتقار نقاط الالتقاء بينهما، حين ظل يذكره بهوية أجداده وصراعهم الذي خاضوه أبان القرن السابع عشر لغرض ممارسة معتقداتهم الثورية بسلام. “لم يهابوا ولم ييئسوا وبالأخص جدك الأعظم ويليام بروستر” كان غالبًا ما يرفع إحدى يديه عاليًا عند ذكر اسمه لضمان تعظيم أهمية هذا الرجل داخل عقل الأبن. إلا أن نويس في وقته الحاضر أضاف على حديث والده استطرادًا أعتقد أهميته:

“بروستر حتمًا يشبهني، وأن اختلفت توجهاتنا، فكلانا قرر الانفصال عن ما ظل يؤرقه في رغبة جامحة لتحقيق النجاح في مكان آخر”.

أخيلة حقيقية (1)

طليطلة-أسبانيا، أبريل العام 1528

على تل مرتفع تكسوه الخضرة وتغلفه سُحب مثقلة بحبات المطر تقبع مدينة طليطلة. ذلك الأسم الذي يشير إلى وجهة بعيدة لا تنتمي للغة ساكني تلك الأرض، ولكنها تذكر بعابرين قد استقروا فترة طويلة من الزمن وبات وجودهم لا يذكر. 

أعلن المالك الجديد لتلك الأرض الإمبراطور شارل الخامس إقامة استقبال ضخم في قصره المشيد حديثًا على أنقاض قصر آخر كان قد شُيد حديثًا في زمن مضى، وكله رغبة في التعرف على قادة ووجهاء المجتمع الإسباني، واختيار المناسب من أفعالهم واللتي يجب أن تلتقي مع تطلعاته الشخصية للأمور المرتقب حدوثها مستقبلًا. عُين امبراطورًا حاميًا لمعظم أراضي أوروبا، وهو نتاج تزاوج بين ابنة ملك إسبانيا وابن ملك النمسا، وترعرع في بلجيكا. تشكلت على لسانه لغات مختلفة نظرًا للأعراق المتحدة والممزوجة داخل دمه والأراضي التي نشأ بها والأرض المملوكة له حديثًا. سيكون لزامًا عليه اتخاذ الإسبانية كلغة تخاطب في هذا المساء لكن قد يكون الأمر مربكًا إلى حد ما، بسبب بعد مفرداتها عن لسانه وأذنه لفترة طويلة من الزمن. 

بخطوات مرتبكة وعينان تملأهما الرغبة في إقناع الإمبراطور، وصل فرانسيسكو بيزارو إلى صالة الأستقبال ليمعن النظر في الحضور المهيب من رجال ونساء. لوهلة ظن أن جميع سكان أسبانيا في شبة الجزيرة والعالم الجديد قد تم دعوتهم بمعيته. 

“اللعنة، لن يكون هنالك وقت كافي من أجل التحدث مع الملك كارلوس” (هو ذات الأمبراطور لكن في إسبانيا يلقب بهذا الاسم ليصبح أكثر قربًا من أهل البلد عن طريق تقليد أسمائهم). أصيب فرانسيسكو بالإحباط وهو الرجل الملتحي بشعيرات غزاها الشيب بمقدار سنواته الطويلة التي قضاها في خدمة الأمة الأسبانية عن طريق امتلاك أراضي جديدة في العالم الحديث المتواجد غرب الأطلسي، والتي ينوي إكمال تلك المسيرة هذه الليلة من خلال إلقاء خطبة يتمنى أن تؤثر في نفس الأمبراطور حتى ينال شرف الدعم المالي لخلق مستعمرات جديدة داخل البيرو. تلك الحماسة تصيبها شكوك من شائعات كانت قد تنامت إلى مسمعه عن رغبة الملك كارلوس في التخلي عن انشاء مدنًا جديدة لامبراطوريته مترامية الأطراف في الهند الغربية، فعلى ما يبدو أن روح الأمبراطور لم تعد مستقرة وأصبحت مملوءة بالذنب تجاه ما يحدث من استعمارِ لأراضيِ يمتلكها أُناس آخرون، متوحشون نعم، لكنهم هم السكان الأصليون لتلك الأرض، ومن الواجب على الحاكم أن يتحلى بالعدل في كل أفعاله ولعل فكرة احتلال موطن وإحلال شعب بشعب آخر لا تتماشى مع تلك الصفة إطلاقًا. 

على الرغم من كل هذا ظل بيزارو متفائلًا حول مجريات اللقاء المرتقب بينه وبين الملك، فمع عبور كل دقيقة تمضي بالجميع نحو المستقبل، يتحرى فرانسيسكو اللحظة المناسبة لبدء الحديث مع الإمبراطور المقدس. 

“هل أطلعت على الهدايا التي جلبتها من المكسيك”

كان وقع تلك الكلمات سريعًا كخطوات الناطق بها والذى ما انقضت جملته حتى انتصب أمام فرانسيسكو حاملًا معه سلاسل ذهبية ضخمة لم تكن عيني فرانسيسكو قد التقطتها من قبل. “كورتيز” قالها بيزارو بصوت يشوبه قلة الحماسة مع خليط من حسد تجاه هذا الشاب المنتشي بانتصاراته الأخيرة، والذي أصبح محور حديث الجميع، فمن هارب من خدمة الملك إلى مؤسس لمستعمرة جديدة على أنقاض إمبراطورية الأزتك، كل تلك الأفعال جعلت منه شخصًا عظيمًا يهابه الجميع، ولعل عين بانفيلو دي نارفياس المفقودة تعلم جيدًا جنون هذا الشخص. 

“أرى أنك قد تكبدت عناء السفر تاركًا مستعمرتك الجديدة بلا قائد يقودها” 

أراد بيزارو من خلال طرح هذا التساؤل أن يهبط قليلًا من حماسة كورتيز المتقدة، فهو على ما يبدو سيصبح منافسًا شرسًا لتطلعاته القادمة كون أن القائدين مشتركان في ذات الرؤى. 

“لا عليك، تركت المكسيك برجال يهابون كورتيز وكأنه متواجد بينهم، حتى وأن كان جسدي يحضر في هذه اللحظة داخل شبه الجزيرة الإيبيرية”

توالت الكلمات الخارجة من فم كورتيز لتصل لأذن بيزارو الغير مبالية بعنجهية هذا الشخص الماثل أمامه، وكأنه بهذه الطريقة ينال عقابًا على ذنب كان قد ارتكبه فيما مضى ليحاول صابرًا ومحتسبًا أن تنقضي تلك الدقائق بسرعة. المستغرب أن كِلا الرجلين ينتمي لمدينة تتواجد كل منها بالقرب من الأخرى. فلا مسافة تذكر بين مديين و تروخيو، حيث تتشابه معالمهما وحالتهما الطقسية وسجلاتهم التاريخية بطريقة يصعب معها التفريق فيما بينهم، لكن على ما يبدو أن العالم الجديد صنع شخصيات مختلفة لا صلة لها بتلك المتواجدة على الأراضي الإسبانية، ومن المؤكد أن الصراع على السلطة وامتلاك أكبر قد من الأراضي هو على رأس أولوياتها. 

بعد الانتهاء من سماع الخطبة العصماء الملقاة على مسمعه، أراد فرانسيسكو أن يبتعد قدر الإمكان عن هذا المتحذلق والاقتراب أكثر من الملك الموقر ليبدأ معه في فتح المحادثة المصحوبة بطلب شخصي يتمنى غاية المنى ان يرق لقلب جلالته حتى يتمكن من الإبحار مرة أخرى إلى البيرو وبدأ عملية الاكتشاف داخل أراضيها الوعرة والتي يعلم شديد العلم انها تحمل الكثير من المفاجآت على الصعيدين البشري والموارد الملازمة لها. بحديث باسم انطلقت معها ضحكات الإمبراطور شارل صحبة مجموعة أخرى من القهقهات المنطلقة من أفواه المجتمعين حوله، أقترب بيزارو أكثر ليساهم في إعلاء صوت الضحك ويُقدِم بعدها على بدء خلق الكلمات المعنية بموضوعه المستعجل. 

 “جلالة الإمبراطور، خادمكم المطيع فرانسيسكو بيزارو في أراضيكم المقدسة داخل العالم الجديد” 

نطقها بيزارو بجسمِ منحني باتجاه الملك لكن هذا الانحناء زاد من انحناء ظهره المتواجد مسبقًا لينتج عنها قوسًا محدبًا تحدق به النظرات المختلفة باستغراب عن ماهية هذا الجسد. 

“بالطبع، بالطبع أيها القائد بيزارو. كلي معرفة بأفعالك الجزيلة والتي نذرت نفسك في فعلها من أجل خدمة الرب والإمبراطور، كن على ثقة أنِ أحمل لك الكثير من التقدير والإجلال والذي أنوي أن أرده لك من خلال أي متطلبات تريدها”

 أُصيب بيزارو بالدهشة لسرعة ردة فعل الإمبراطور ناحية الخوض في الموضوع سريعًا، بل كان مستغربًا أكثر بأن الأمبراطور على معرفة بما ينوي بيزارو طرحه امامه. 

“بالطبع مولاي فأنت تعلم أن العالم الجديد غني بالموارد الطبيعية مثل الذهب والتي من شأنها أن تثري الإمبراطورية الإسبانية وتجعلها متسعة بشكل أكبر مما هي عليه الآن، ليتحقق لها السيطرة التامة على معظم أراضي كوكبنا ويتسنى لنا خدمة نشر رسالة الرب الحقة وننال معها شرف هذا الفعل المجيد”

 بعد أن أنهى بيزارو من سرد تلك المفردات، أحس بنشوة المنتصر، كل ذلك القلق السابق لتلك اللحظة تلاشى على عجل بخفة سقوط رمش العين الغير ملاحظ اختفائها. تهافتت على نفسه رغبة ملحة بأن يمتطي السفينة المغادرة إلى أعماق المحيط الأطلسي لتلقي به في أحد الأراضي المحاذية له دون التمعن في أي بقعة كانت، لأن بعدها يعلم جيدًا أي طريقِ سيتخذه للوصول إلى دهاليز البيرو. 

“اعلم جيدًا رغبتك الملحة في انجاز ما تأمل إليه، وأنا أؤكد على مسمعك بتشابه ما ترغب به مع ما أطمح إلى تحقيقه في مملكة إسبانيا، ولكن هنالك أولويات يجب علي الالتفات لها أولاً حتى يتسنى لنا تقنين المصارف المبذولة في عالم اكتشاف الأراضي الجديدة دون أن نجد أنفسنا مصابين بهدر لا معقول ينتج عنها غضب شعبي في الداخل القريب، والذي على ما يبدو أن العديد منكم كان قد تناسى وجودهم”

أحس بيزارو بشلل في استخراج الحروف ليشكل معها كلمات مناسبة لوضع رد مقنع تجاه الرأي الملتف حول حقيقة أن لا رغبة لدى الملك في خوض المزيد من المغامرات في العالم الجديد، وفي ذات اللحظة أقتربت من عينيه صورة كورتيز الماثل في الخلف وهو محاط بالعديد من الوجهاء، غالبيتهم من النساء، وهم يستمعون بحماس لحديثه المتكلف حول مغامرات فتح الأزتك و الإطاحة بالقائد مونتيزوما. للحظات عابرة كان يرى نفسه في مكان كورتيز، فهو يؤمن أشد الإيمان أنه أفضل منه في القيادة العسكرية، وملتزم أشد الالتزام بالفضائل الأخلاقية ناهيك عن الفارق العمري الذي يرجح كفته، فللأقدمية أهمية كبيرة عند فتح الأحاديث أمام الملوك. لكن كل تلك التفضيلات تأرجحت ناحية الحافة تاركةً بيزارو وحيدًا وصامتًا أمام الملك. 

“هل لديك ما تضيفه أيها القائد بيزارو” 

قاطع الملك خيالات فرانسيسكو المحلقة بعيدًا عن جنبات القصر. أمن المحتمل أن يُخيب بيزارو ظن المستكشفين الذين وعدهم قبل مغادرته بنما بأن يجلب أموالًا تمكنهم من العودة مرة أخرى للإبحار جنوبًا والغوص أكثر في المدن الرائعة والتي مروا بمحاذاتها العام الفائت. أيكون الإقدام على فعل عصيان أمر حاكم بنما بالعودة من جزيرة الديك، والتي أصاب فيها الجوع والمرض رجالات بيزارو حتى أرسلوا نداءات استغاثة للحاكم من أجل أن ينقذهم من هذا المتهور، غير أن هذا المغامر لم يأبه بأمر الحاكم راسمًا خطًا رمليًا على شاطئ الجزيرة ليعلن فيها اعلانًا للناجين مفاده أن لا بد من أن يختاروا مصيرهم، الشجاع حتمًا هو من سيختار التواجد بجانبه والذي سيلوذ بالفرار كالقط إلى الجانب الآخر سيتسم بالجبن طيلة حياته، (يبدو أنها عادة لدى القادة العسكريين المتمركزين بالقرب من سواحل البحار والمحيطات رسم خطوط مفصلية وتهديد الجنود المنهكين).

“لا أعلم أن كنت قد أطلعت على الأحداث الحاصلة في الأراضي الجديدة، لكن أؤكد لك أني تركت خلفي رجالاً شجعان لن توقفهم أية مخاوف، جميعهم خاضوا أمورًا كان من الممكن أن تودي بحياتهم، لكن ها هم باقون ومصرون على خوض غمار الأكتشاف العظيم، فأنا على ثقة بأن ما حصل في المكسيك مع القائد المبجل كورتيز ما هو إلا البداية لانتصارات أعظم بكثير سيكتب لها الحدوث على يدي بعد أن أنال مباركتكم ودعمكم السخي يا صاحب الجلالة”  

“الحقيقة أن كورتيز قد يكون العائق الوحيد لتلبية رغباتك، فقط اعطيته وعدًا بدعمِ ماليِ سخي لرغبته الملحة بالتوسع أكثر ناحية الأراضي الغربية”

 صمت آخر أصاب القائد الطموح العجوز مرة اخرى، لم يكن يعلم بيزارو الحقيقة الكاملة خلف تلك القصة المحكية من قِبل الملك، أكان يريد أن يدخل القائدين داخل ساحة معركة مفتعلة حتى يقضي أحدهما على الآخر، وبالتالي تتقلص المساحات المراد التوسع داخلها في الأراضي الجديدة ليفضي الأمر إلى تحقيق رغبة الأمبراطور المخفية من دون بذل أي مجهود من ناحيته، أو أنه من الملائم لفرانسيسكو أن يتقبل أن الملك يفضل كورتيز عليه، لأسباب يجهلها او يعلمها ولا ينوي الاعتراف بها، ويثق ثقةً عمياء بأن الأموال المرصودة له ستعود بالنفع للإمبراطور وللأمة الإسبانية. 

ارتئ بيزارو التنحي جانبًا بعد أن ألقى كلمات الشكر والثناء على مسامع الملك، وبذلك يضمن التفكير بهدوء في خبايا الحوار الذي دار بينه وبين جلالة الإمبراطور فلعله بتلك الطريقة يلتقط قشة ضئيلة تتيح له العودة لنيل مباركة جلالته. لكن من الصعب على المرء الاختلاء في مكان مكتظ كهذا، ليجد بيزارو نفسه مرة أخرى وقد حُشر مع كورتيز وقادة عسكريون آخرون. كانت محاور النقاش المطروحة تدور في فلك العالم الجديد وكمية الثروات الغير مقدرة المراد تحصيلها، دون الإغفال عن الجانب الروحاني بإرشاد تلك الأرواح التائهة للطريق الصحيح. 

“ما الذي تنوي تحقيقه أيها القائد بيزارو والذي جعلك تطيل في الحديث مع الملك؟” 

قذف كورتيز بالتساؤل مأملًا أن يجعل المتلقي بيزارو طريحًا عاجزًا عن الإجابة.

“لعلك على معرفة تامة بمجرى الحديث الدائر بيني وبين جلالة الإمبراطور فمثلك لابد أن يكون حاضرًا في جميع الأحاديث المتعلقة بالعالم الجديد” 

 قالها بيزارو بصيغة تهكمية حتى وأن كان المعنى المراد لتلك الكلمات يدل على عكس ذلك. 

“أنا” قالها كورتيز بتعجب شديد تبعتها ضحكات مصطنعة، “الجميع هنا على علم بأني لم أبرح هذا المكان لمدة طويلة، فجسدي ظل واقفًا في محاولة مني لتسلية من هم حولي وأنا على ثقة بأني قد أديت المهمة على أكمل وجه، أليس كذلك؟” 

طرح كورتيز التساؤل الأخير في نفس اللحظة التي بدأت فيها رقبته بالالتفاف على المتجمهرين من حوله رغبةً في حشد تأييد متوقع في اللحظات القادمة. لم يطق بيزارو ذلك المتعالي منذ البداية، لكنه رغب في تحاشي خلق صراع لا مبرر له، حتى لا يتبادر إلى ذهن كورتيز أن الغيرة والحسد تفتك به لشدة إعجابه بما حصل عليه في العالم الجديد ونيل رضا الملك ودعمه السخي المقرون حتمًا بالتقدير ناحيته. 

“لقد عزمت على نيل رضا الملك لدعمي في ما أنوي القيام به وهو التوسع داخل أراضي البيرو، بعد أن تجاهل حاكم بنما طلباتي المتكررة حول ذات الغرض. اعلم أن الأموال لا يمكن لها أن تخرج من خزينة الدولة دون تقديم ضمانات بعودتها مضاعفة حتى لا تصاب بلدنا المباركة بإفلاس على المدى البعيد. وهذا بالطبع يعد عاملًا مساعدًا كون البيرو ثرية بالموارد الطبيعية من الذهب والفضة والتي من شأنها جعل خزينة البلاد فائضة لسنوات عديدة قادمة” 

أراد بيزارو أن يجعل الثقة سمةً بارزة له، وأنه لا يوجد ما يؤرق نفسه تجاه تلبية متطلباته. في المقابل كان كورتيز يعلم أن الملك وعده بالدعم السخي لحملته التوسعية القادمة باتجاه الغرب، ويعلم أيضًا أن جلالته لن يهدر اموالًا اخرى على حملةِ مجهولة في أراضي تحيط بها قلة المعرفة بطرقها وتضاريسها لتصبح مغامرة متهورة لا طائل من خوضها. أراد من بيزارو أن يستشعر هذا الأمر وألا يعلق آمالًا واهنة بحيازة ثقة الملك لاستكشافه الغامض. هو يعلم أنه قادر على تأدية هذا الدور، فطالما كان المحطم لمن هم حوله حتى يتسنى له تسلق سلم المجد وحيدًا لينال مبتغاه في النهاية. ألم يخون قائده ووالده الروحي دييغو فيلاسكيز دي كويار بالإبحار بالسفن ناحية المكسيك دون علمه، وهو الذي اقتلع عين حامل رسالة الملك بالقبض عليه لكونه خارجًا عن القانون بعد فعلته الحمقاء بتحريك الأسطول من دون قائدها الفعلي، ذات الملك الذي يغدقه اليوم بالرضا والألقاب المبجلة وتعينه حاكمًا لأسبانيا الجديدة في الهند الغربية. كل تلك الأحداث خلقت من كورتيز رجلًا لا يقهر، وينظر لنفسه بنظرة المتساوي في الإجلال والتقدير مع الملك. هذا الغرور المبرر جعلت أقواله أفعالًا تحدث دون حتى الخوض في غمار كيفيتها، إذن كان من الجلي قبول الملك لعرضه المقترح بشأن التوسع أكثر في الأراضي الغربية من المكسيك واعتباره أمرًا مسلمًا بنجاحه. 

تقلص أعداد الحاضرين وبدأت علية القوم يتسللون داخل أروقة القصر متشبثين بمكانتهم وحسن معشرهم لدى الملك، رافضين المغادرة المبكرة والتي لا تليق بمكانتهم. انخفضت الأصوات وخفت الجدالات وبدأ الجميع في مراقبة تحركات الملك الأخيرة أملاً في نطق حروف من شأنها أن تعد كلمة الختام لهذا العرض المسرحي الباهت، لكنها لم تحضر. على النقيض استدعى الإمبراطور شارل القائد فرانسيسكو بيزارو للحديث معه صحبة الأمبراطورة ليبتعد المتحدثون بمسافة لا بأس بها تعد كافية لعدم اختلاس الحديث من قِبل آذان المتربصين. 

“قد تحدثت في أمرك مع جلالتها، وأرشدتني لبعض المنافع التي غابت عن ذهني والمتعلقة بإنشاء مدنًا اسبانية داخل البيرو. أؤكد لك أنك ستنال الدعم المالي اللازم لتلك الحملة ناهيك عن المرسوم الملكي والآمر بتعينك حاكمًا للبيرو دون الإغفال عن إلقاء حزمة المطالب على السكان المتواجدين داخل الأراضي التي تنوي إنشاء مدنًا إسبانية داخلها. سأغادر طليطلة يوم الغد سأترك مهمة تنفيذ تلك الأوامر لجلالة الأمبراطورة، أرجو منك التريث لحين إكتمال الأمور والبقاء داخل المدينة دون الخروج منها إلا عند الضرورة القصوى مع الإبلاغ عن هذا الأمر للعاملين بالقصر، ستبصح بعدها حرًا في الإبحار إلى الهند الغربية حين يحين موعد تسليم الوثيقة “

كان كورتيز مراقبًا من بعيد ويصعب عليه من مكان تواجده قراءة الكلمات المتلية على مسمع بيزارو، لكن بإمكانه النظر جيدًا في ردة فعل فرانسيسكو المبتهجة، والتي يحاول مرارًا كبح جماحها. ظن كورتيز أنه رأى أجنحة ضخمة مثبتة على ظهر بيزارو تحلق به بعيدًا نحو أمجاده المرتقبة في العالم الجديد. أجنحة ظن هيرنان أنه المالك الحصري لها غير أن المنظر المتمثل أمامه أثبت عكس ذلك جاعلًا أشخاصًا آخرون يحملون ذات المجد الذي سُطر من أجله.