ديسمبر – يناير

عندما استفاقت اجتاحتها نفحة الملل ذاتها، والتي ظلت ملازمة لها في اليوم السابق، واليوم الذي يسبقه، واليوم الذي يسبقه، حتى نصل معها لليوم الأول. طرحت التساؤل الملح، والواجب قوله، من جلب كل تلك الجزيئات المتراصة والمسؤولة عن تركيب مركب الملل. وهو مركب شديد التعقيد يصعب التعرف على عناصره حتى يصبح من السهل على الملولة فك روابطه وإعادة كل عنصر منهم لمسقط رأسه، بعد أن تربت عليهم، مستحلفةً إياهم بأن لا يعاودوا الارتباط معًا حتى وإن كانت لديهم الرغبة الجامحة لفعل ذلك. 

أحاطت جسدها بذراعيها حتى توضح لي أن الطقس بارد جِدًا، وفي تبرير لطلب أوصت به لعامل المقهى بإطفاء جهاز التكييف. أشفقت عليها بسبب تلك الرعشات التي ظلت تجسدها أمامي لأوافق على برودة الهواء داخل المقهى، رغم اعتراضي على هذا الأمر. مصيبة الخجل.

في لعبة التنس لا بُد من أن تتقن عدة ضربات، فاللعب هنا ليس عَشوائِيًا يبدأ عند رؤيتك للكرة وينتهي بضربة قاسية لها بهدف الخلاص السريع وإيصالها إلى الخصم المباشر. يجب عليك أن تضع أطراف جسمك الأربعة في أماكن محددة وبزوايا مختلفة قبل أن تنوي ضرب الكرة حتى يتسنى لها الانتقال بأمان للبقعة المقابلة. ولعبة التنس جاحدة، ما أن تبتعد عنها قليلًا حتى تعاملك كغريب لم يُكتب له ممارستها من قبل. إحدى تلك الضربات التي تنكرت لي هي ضربة الفورهاند أو ضرب الكرة بالجهة الأمامية للمضرب. يؤلمني أن أعاود التدريب عليها من الصفر، كون وضع القدمين مقابل بعضهما البعض مع ميل الخصر إلى الخلف رفقة الذراع، والتي ينبغي عليها أن تحلق من الأسفل إلى الأعلى دون مبالغة في عملية الطيران أمرُ لا يأتي من تلقاء نفسه. في المقابل هنالك ضربة الباكهاند والتي لم أجد صعوبة في العودة إليها، فما أن أنوي الرحيل حتى أعود مسرعةً لنقطة الانطلاق، وهو فعل أملك الكثير من الخبرة فيه. ثالث تلك الضربات هي  السماش والتي أستبعد حدوثها من قِبلي كون الفعل يتطلب رقمًا معينًا في الطول أوقن بعدم حصولي عليه. أحاول التركيز لضبط الزاوية. كيف يمكنني ذلك؟. سأستعمل النظر حيث لا أملك أداة غيرها. الأقدام في موضعها والأيدي مستعدة لبدء العمل. يجب علي الآن تحريك اليد بشكلٍ نصف دائري من الأسفل إلى الأعلى دونما عجلة. ممتاز السرعة ملائمة، حتمًا ستتحقق معها ضربة الفورهاند المكتملة. إلا أن الشخص الماثل أمامي والذي يمدني بالكرات الواجب إرجاعها لم يتوقف عن الكلام حول السمك وأنواع السمك وأفضل البحار المربية للسمك. “سمك الإسماعيلية أطيب سمك ممكن تذوقيه في حياتك”. لو علم أني لا أطيق رائحة السمك وحديثه عنها يجعلني أشمئز أكثر وأكثر. السمك والكثير غير السمك. الخضار المحتشدة داخل السلطة. حلقات الزيتون. القهوة، شربها لا المقشر المستخلص منها. التمر ومشتقاته من أطباق تشيء بأن من ابتدعها كان مُضطرًا لعدم توفر مكونات أخرى. فلا رغبة لديه في كسب إعجاب المتذوق. ولن أغض الطرف عن الفواكه غير المحببة، لنرى: أكره المنجا والبطيخ والفراولة والعنب. ربما اختصارًا للوقت سأذكر ما أستسيغه منهم وهما اثنان قد يصطف معهم ثالث في أحيان، وأحيان أخرى يبقون منفردين دونه؛ البرتقال والتفاح والمتردد الموز. رغم عدم تذكري لآخر مرة تناولت فيها قطعة من التفاح إلا أن مجرد ذكر اسمه لا يجلب معه الرغبة في الغثيان كما هو الحال مع الحليب. الحليب كيف لي أن أنساه وهو المتصدر في الأطعمة المنبوذة، المسببة أيضًا لأمور لا أنوي التطرق لتفاصيلها. أين كنت؟ نعم في محاولة إتقان ضربة الفورهاند. تفاجأتُ بمرور الكرة من جانبي قابعة هناك في الخلف دون أن ترتطم بالمضرب. هذه المرة كان الإخفاق كبيرًا والذي كان في السابق متشكلًا على هيئة إرجاع الكرة لكن بطريقة خاطئة لتحل محلها معضلة  عدم اللحاق بالكرة. سألقي باللوم على رائحة السمك البغيضة. 

خفض سقف التوقعات كما صرح به محمد عبده “وش اللي عاد أرتجي”

محذرًا إياها من خطر السفر داخل الغرب الأميركي، قبل مئة عام، نبه رجل قبيلة باوني المنتمي إلى السكان الأصليين تلك المرأة المنتقمة بأن عليها أن لا تكتفي بالقوس والسهم في لحظة الدفاع عن النفس، إذا ظهر القاتل، ولكن يجب أن يكون السكين أقرب لها. وأن تستغل لحظة وقوف القاتل لتسبقه بالطعنة. تساءلت لماذا قد يقف القاتل قبل أن يقتلها، أجابها “ليتأمل وجهكِ”. كانت عبارة غزلية في غير موقعها، خطفتها من لحظة عدم الأمان لمنطقة أخرى واضحة المعالم. وهذا ما جعلها جذابة، لاذعة. تشبه لسعة الليمون في الطعام حين تباغتك في أكثر الأوقات انشغالًا.

The English 2022

مواقف الحافلات لمترو الرياض مارست الحياة بشكل عكسي؛ جربت الهجر قبل الأُنس.

لعنصر اليورانيوم عدد نيوترونات كبير تقبع داخل نواة ذرته، مقارنة بـ بروتوناته، وهذا ما يجعله ذو نشاط إشعاعي ضار بغية الوصول للاستقرار. ألا أن هذا الأمر كلفه عمرًا مديدًا يقارب الملايين من السنين، حتى يصل إلى لحظة الاطمئنان تلك. سيصيبك لفحة سكون بأنك لن تضطر في حياتك القصيرة الانتظار كل تلك المدة بغية المكوث في بقعة تفوح طمأنينة، والانتهاء كُلِيًا من رحلة الركض اللامتناهية للحاق بِالسُّكْنَى. هي سنوات قصيرة مقارنةً بذلك العنصر المسكين والذي يُعرف باليورانيوم.

“مفتاح السيارة بطاريته منخفضة” تنبيه يعاود الظهور في كل مرة أهم فيها للخروج من السيارة. وفي كل مرة مفتاح السيارة يعمل دون أي مشكلة.

امتطت سيارتي ظهر رصيف للمرة ….، ألا أنه في هذه الحالة أرادت تلقيني درسًا يسهم في دب الذعر بداخلي. أبت العجلات أن تستجيب لضغطة البنزين التي ما فتئتُ أزيدها قوة عبر قدمي اليمنى. حققت مرادها لأجدني مذهولة من رؤية المنظر بعد نزولي من السيارة، أربع عجلات تلامس الأرض دون أن تبدي رغبة بالحركة. أطلقت كافة الشتائم المسموحة حتى استفزها فتبادر بالتحرك. لأنهي معها هذا الموقف العصيب، بيد أن لاشيء من هذا قد حدث. داخل المواقف الخالية برز رجل أسمر كان يتأمل البدر الذي ظهر هذه الليلة بعد غياب قسري طيلة الأيام الماضية والتي كانت مصحوبة بهطول غزير للأمطار. ولعلي قطعت خلوته ومناجاته عندما صرخت صوبه بأن يخلصني من تلك الورطة. لم يتوانَ عن القدوم مسرعًا رغبةً في المساعدة. أمرني أن أركب السيارة واضغط على دواسة البنزين. استشطت غضبًا فماذا عساي كُنت فاعلة قبل قدومه. ألا أنه أصر قائلًا “تتسهل إن شاءالله”. عملت ذات الفعل الذي قمت به من قبل، وعادت ذات النتيجة للظهور، لا حِراك. أبتعد الرجل قليلًا وكأنه لمح شيئًا يعرفه حق المعرفة. خفت بأن يبتعد هربًا من تلك المسؤولية. تخيلت أن ذلك الحمل قد أرهقه فما عاد قادرًا على التحمل ليبتعد بجسده بعيدًا دونما نية في العودة. ألا أنه سرعان ما تبددت شكوكي حين رؤيتي له عائدًا ناحية السيارة حاملًا بيده قطعة خشبية مهملة من مبنى في طور البناء. قام بوضع القطعة الخشبية ناحية العجلة العالقة، مع صعوبة في رؤية المشهد كاملًا لفهم ما يجري . ما أن أنهى ذلك الفعل الغامض حتى أطلق زفرة الانطلاق “الآن”. عدت لعمل ذات الفعل للمرة الثالثة. وللمرة الثالثة لا حِراك.  أعاد فعل الفعل الغامض مضافًا إليه صوت طرقات أحسب أنها قدِمت من القطعة الخشبية وهي تنهال بالضرب على العجلة العالقة كعقوبة حازمة تجاه ما ارتكبته من تهور. أعاد إشارة الانطلاق مرة أخرى لأعاود الضغط على دواسة البنزين ومعها أحسست بارتفاعَ في السيارة، ليصاحبها ارتفاع في هرمون الأدرينالين ضاربًا مستوى قياسي أظنني قد تخطيت قمته ومعها اجتزت عتبة الرصيف. انهلت بكلمات الشكر والثناء على الرجل مع ذكر مديح طفيف عن تلك الشهامة ليقابلها بكلمات مبهمة احسبها تدل على تواضع رجل اعتاد فعل ذلك الأمر. ركنت السيارة قريبًا من موقع الحدث، لم أستعجل الخروج للحاق بموعدي داخل البناية إلا أني هممت بفعل الخروج في النهاية. كان السكون يحف المكان في وشاية كاذبة عما ضُجَّّ به قبل قليل. أشحت بعيني في كافة الاتجاهات إلا باب العيادة، باحثةً عن العناصر المكونة لمشهد “إنقاذ السيارة”. جميعها اختفت، لا الرجل الأسمر ولا القطعة الخشبية. حتى البدر الذي أضاء لنا الليلة، والمرتبط بتحريك أمواج البحار لأعلى مستوى دون الإغفال عن علاقته الغريبة مع قصص الأساطير، عاد لاحتجابه خلف الغيوم المحتشدة. كأنهم جميعًا أدوا الغرض المنوط منهم في هذا الوقت داخل هذا المكان، لينتقلوا بعدها مكملين مشهدًا آخر يحدث تحت سماء أخرى.

وضع ارهينيوس مفهومًا يفسر سلوك الأحماض والقواعد. آمن بأن المركب الذي يحمل ذرة هيدروجين ويهبها عند تفاعله مع الماء هو حمض والمركب الذي يهب جزيء الهيروكسيد عند خوض ذات التفاعل هو قاعدة. بيد أن النشادر أصابه في دهشة لقدرته على وهب جزيء الهيدروكسيد واحتوائه على ذرة هيدروجين بداخله. امتعض بشدة نتيجة مخالفة ذلك المركب توصياته. أشعر بأن ارهينيوس باح لنفسه معبرًا عن استيائه من النشادر مطلقًا كافة الشتائم المقبولة والمنبوذة، بل وتملكته الرغبة الملحة بإخفاء ذلك المركب عن الوجود خوفًا من أن يدمر نظريته الفتية. لكن لا شيء من هذا حدث كل ما قام به هو أن تجاهل هذا الأمر واضعًا جملة من كلمتين عن سلوك النشادر بقوله: “لا يمكن تفسيره”. 

منبوذًا مثل الكربون. يبنون مدنًا خالية منه، ووقودًا لا يلفظه إلى الخارج. ذلك الخارج الذي عُد مسكنًا لشكله الغازي والذي يأبى الجميع في استنشاقه. 

لحظة سعيدة تتحول إلى ذكرى يتم التحسر على ابتعادها وكلما طالت المدة الفاصلة بين وقت حدوثها والوقت الذي تم فيه استدعاؤها يزداد معها حجم الحسرات. أما الحزينة أو الغليظة فتهرول مسرعة ساعة نشأتها مبتعدةً في قاع لا يُعرف مكان تواجده، فلا يرغب صاحبها في استرجاعها أو حتى تذكرها. باتت آمنة رغم قبحها. 

أصبحت تفضل الاستماع للموسيقى الخالية من الكلمات، تكفيها تلك السيناريوهات المحتشدة داخل رأسها. ولا تملك أدنى رغبة في إضافة المزيد منها عبر الأغاني.

تبرز في لوحة The Souvenir للرسام الفرنسي جان هونوري فراغونارد ملامح فتاة يافعة تحفر حرفًا على جذع شجرة أُخذا عمدًا من اسم عشيقها، تحت مرأى وترقب كلب الفتاة الشابة، رفيقها في تلك الخلوة مع الطبيعة. إن أردت أن تطيل النظر بتلك اللوحة رغبةً في الوصول لأدق تعبير يليق بها، فسوف تتراكض من فمك دون عناء صفات تنتمي إلى الحب الصادق والشاعرية العذبة. إيحاء فاضح يسهل التقاطه عند التأمل في معالمها. بيد أن أردنا العودة بالزمن إلى الوراء لوجدنا أن المحفز الأول لفراغونارد لنسج تلك القطعة كانت شخصية خيالية أبتُكرت ملامحها عبر مخيلة جان جاك روسو. فقد كانت “جولي” شابة حُرمت من الزواج بأول حب لها بسبب اختلاف الطبقات المنتمي لها كلا الطرفين. بيد أنها لم تقاوم ذلك الرفض عندما رضخت بعدها للزواج من رجل آخر يفوقها غِنى، لتنسى معها لحظات التلهف نحو من ظن تعلقها به. القصة لم تنتهِ عند هذا الحد بل كانت تلك البداية لعلاقة مختلفة بين الإثنين انعطفت نحو منحى آخر تم عن طريق التراسل. ظلت تراسل العشيق السابق لها قبيل زواجها، والذي أُعيد تقديمه إلى حياتها عن طريق الزوج المطمئن. صار الحب فيما بينهما محرم وغير مشروع، انتُزع منه صبغة الرومانسية الجذابة. عبارات قد تمحي جمالية تلك اللوحة وتنزع منها هيأتها المقدرة لها. مع ذلك ما زالت تترك أثرًا داخل كل من يغطس في قسماتها متناسيًا لبرهة أخلاقية تلك العلاقة.

The Souvenir – Jean-Honore Fragonard

أحبت جولي شخصًا غامضًا، ما برح أن يتخفى معظم الوقت داخل أمكنة وأزمنة مختلفة. ربما لو لم يتجلَ لها في أيام متفرقة داخل الشقة لجزمت أنه من صنيع خيالها. لا تعرف هويته، تعلم اسمه بالطبع، لكن نوع عمله والأبدان المختلفة التي يقضي معها جل لحظاته لحين انقضاء الوقت وقبل أن تحين ساعة لقائه بها، كانت أمور مبهمة بالنسبة إليها. تصورت أنه يعمل في وزارة الخارجية، أو هكذا صرح بالأمر. بدأت في رسم تخيلات عن شخصيته، ففي النهاية هي مخرجة أفلام ومهمتها الأساسية خلق الشخصيات تلو الشخصيات. آمنت بانتمائه للعمل ضمن سلك الاستخبارات، وبأنه عميل مزدوج لبريطانيا، البلد الأم، وإحدى الدول الشيوعية. فما من تفسير آخر لكل ذلك الالتباس تجاه هويته سوى تلك الخلاصة. تساءلت مرات عدة عن حقيقة مشاعرها تجاهه، أهو الحب فعلًا، أم حب الغموض الذي يرمي بها في عالم التوهمات المستجدة في كل مرة تفتح حديثًا معه، جاذبًا إياها ناحية اكتشافات جديدة في كل مرة. هي لا تسأله كثيرًا عما يجري في حياته أو ماذا يفعل خلالها، هي تظل مستمعة لما يود هو في إخبارها عنه. علها بهذه الطريقة ساهمت في إخفاء هويته، او ربما راق لها ما بدر منه من سحر الغموض. أم هي المتعة في وجود رفيق بجانبها عند الحاجة، ليس جل الوقت، بل في هنيهات توائم مزاجها في أيام متفرقة من الشهر. الغريب عند اختفائه من المشهد يطل بكامل أناقته داخل أحلام يقظتها، وجل وقت صحوتها. أصبح مرضًا متفشيا بعدوانية داخل جسدها و يصعب اجتزازه. أرادت صرف تلك الغشاوة بإنتاج عمل ملموس. ركزت على جعله بطلًا لقصة فيلم عُمل من قِبلها. رسمته بطريقة تلائم تخيلاتها عنه، على الرغم من حقيقة وجوده أو ربما احتجابه. 

The Souvenir 2019

اشتركت في تطبيق DailyArt، وهو تطبيق يعنى بإرسال لوحة لكل يوم، يتذيلها معلومات بسيطة عن الرسام رفقة لوحته. في البدء طرح تساؤل عن الوقت المفضل لدي والذي أرغب فيه بتلقي تلك التنبيهات، اخترت التاسعة صباحًا لا لسبب مغرِ بل لكوني شعرت بأنه ملائم. الغريب أن التطبيق قرر أن يرسل تلك الرسائل عند التاسعة وأربع دقائق. ظننت أنه خطأ يبرز عند البداية إلا أن التطبيق التزم بهذا الوقت دونما حيود، وكأنه قد تلقى أوامر عسكرية بهذا الأمر أن هو أخل بها سيتحصل على عقوبة قد تنهي تواجده الألكتروني. خيالي المحض سرح بي نحو التفكير بتلك الدقائق الأربعة المفقودة. ماذا بوسع تلك اللوحة السابحة أن تفعل داخل الفضاء الإلكتروني؟ وماذا بوسعي أنا أن أفعل خلال دقائق الانتظار الأربعة؟

❞ لو وَقّت كلّ شيء بشكل دقيق، فلربما تزامنا بهدوء في موعد وصولهما. ❝

أحد الأمومة – غراهام سويفت

هذا الفيلم ليس من اختياري

أحببت منذ زمن ليس بالقريب مشاهدة الأفلام المختلفة، الأمريكية منها تأتي دومًا في المقدمة دون منافس يذكر لها، لتلحقها على خجل بمسافة ليست بالقريبة الأفلام الأوروبية. كانت تصلني تلك الأفلام بأشكال عدة، في البداية اتخذت هيئة أشرطة فيديو يتم عرضها على شاشة التلفاز أو أفلام تبث عن طريق بعض القنوات والتي كانت لا تتعدى أصابع اليدين، مرورًا بالمرحلة الأعظم الانترنت وعالم تورنت لتصبح شاشة الكمبيوتر السينما الفعلية لي، لنصل معها إلى آخر ما توصل إليه هذا العالم مع منصات البث الرقمية.

كنت طوال تلك الأعوام أكبر وتكبر معها ذائقتي الفنية، لتتشكل معها شخصية تتذوق نوعًا معينًا من الأفلام، فبعد مشاهدات عديدة لإنتاجات مختلفة أصبحت على دراية نوعًا ما بالفيلم المثير للأهتمام بالنسبة لي، أو لنقل مثلًا مخرج أو كاتب لفتتني أعماله مرات عدة، سأكون على ثقة أن المرة القادمة سأعجب بفيلمه حتى وأن لم ينل الدعاية اللازمة أو التواجد على ساحات السينما القريبة.إذاً لا وجود هنا لعمل فرض علي، أنا أبحث عن ما أريد واستمتع بالمشاهدة.

كعادة سنوية، أجهز قائمة في بداية كل عام بالأفلام المتوقع أن تلفت انتباهي، شبيهة بنقاط أهداف العام المنسية بعد بضعة أشهر، ألتقطها من أماكن مختلفة: مواقع، مدونات سينمائية، أشخاص تتبعتهم على تويتر يملكون أفضلية مشاهدة الأعمال قبل الجميع، أُناس أتوق لرؤية أعمالهم، وهكذا إلى أن أجد نفسي مع قائمة تزيد عن سبعين فيلم بعد مرور شهرين. كان عالم تورنت جميلًا حيث لا حدود فيه، فمتى ما رغبت في رؤية فيلم قديمًا كان أم حديثًا ومن أي بقعة جغرافية ينتمي لها كنت ستجده حتمًا، أستطيع القول بأنه مارد سحري في كل مرة يطرح ذات التساؤل عن ما تريد لتجيبه بالأفلام المطلوبة، لكن الفرق هنا ان لا حدود لعدد الأمنيات. أنا هنا لا أُرغب بعالم السرقة الفكرية، لكن يجب الأخذ بالاعتبار أن تلك الفترة كانت من دون سينما بالجوار ولا لوجود لأعمال تصل لمكتبات الفيديو اليتيمة داخل المدينة. 

مع هذا العالم تشكلت شخصيتي السينمائية بعيدة عن التدخلات، كنت أنا المسؤولة وحدي عن اختيار ما يعجبني وما لا أريده، لينتهي بي المطاف في نهاية الأمر بشعور السعادة الذي يرغب به الجميع. مع تقدم السنين بدأت منصات البث الرقمي في الظهور والبداية كانت مع نتفليكس، اتذكر جيدًا حين كثُر الحديث عنها وترغيب ممن هم حولي بالاشتراك بها، رددت بشكل قاطع بعلامة نفي كبيرة، معللةً ذلك الخيار بأن ليس لدي الرغبة بحصر مشاهداتي بالأفلام الموجودة على تلك المنصة فقط. إجابة معقولة لشخصية تشكلت مع تراكم السنين واعتادت على حرية الاختيار دون فرض ما لا تريده. قدِمت بعدها قاعات السينما في بلدنا لتصبح الخيارات الصحيحة والقانونية متوفرة بشكل أكبر، بالطبع كانت لحظات سعيدة تخللها عدم وصول كافة الأفلام التي أرغب في مشاهدتها والتي تستريح طويلًا على قوائمي السنوية. بدأ عالم تورنت يصبح موحشًا وغير مرغوب فيه من قِبلي، فالأسباب التي كانت تدعم قيامي بتلك الأمور بدات في التلاشي ليصبح معها النية فقط باستعماله محرمًا في معجم القوانين الخاصة بي. 

مع ضيق الخيارات اتجهت للأشتراك بنتفليكس أخيرًا، لتظهر معها مكتبة أفلام ومسلسلات مهولة لا حصر لها، معظمها كنت قد شاهدتها فيما مضى، أتحدث هنا عن الأفلام التي ليست من إنتاج المنصة، أما الجديدة علي فقد تكفلت نتفليكس بكافة مراحل إنتاجها. أُعجبت ببعضها وكرهت بعضها الآخر كما هو الحال مع أي مشاهد لتلك الأعمال الفنية، لكن مراحل تعرفي على تلك الأعمال كان مختلفًا. في البداية كان المسمى يظهر على الشاشة بشكل كبير وجذاب لافتًا انتباهي لهذا الفيلم، لأقوم بعدها بالبحث عنه في موقع IMDB المتخصص بتقييم الأعمال حتى اتمكن من تحديد ملائمته لي من عدمه. قد لا تكون صفحة التقييم مشجعة لكن الرغبة الملحة في مشاهدة فيلم الآن تجعلني أضغط على زر المشاهدة، ففي النهاية لا يعد هذا أسوأ قرار قد تتخذه في حياتك. تبدأ معها المشاهدة ويبدأ معها مرور الوقت بشكل بطيء، وتزداد معها الرغبة في الانتهاء منه سريعًا لكن دائمًا يحضر الأمل بأن القادم أجمل، ومع حرقِ كبير للأحداث لا يأتي الأجمل. أصبحت دائمة التواجد في محطة الأنتظار  للقادم الذي سيأتي،  من دون ضمانات لحضوره في القريب العاجل أو البعيد المستبعد، وهذا أمر لم اعتد عليه. أنا هنا لا أحدد إذا ما كان العمل جميلًا أو قبيحًا، فطالما آمنت أن الأعمال الفنية وجدت للمتعة الممزوجة أحيانًا بفائدة على المستوى النفسي أو المعلوماتي، فالعمل الذي أُعجب به قد يعتبر قبيحًا عند آخر والعكس صحيح، انا هنا اتحدث عما يعجبني واختاره بنفسي دون تدخل لوغاريتمات نتفليكس. منصات البث الرقمي قد لا تكون هي المشكلة لكن مكتباتها في محيط الشرق الأوسط هي المعضلة الحقيقة، فتنوع الخيارات وتواجدها كاملة عند دول العالم الغربي يؤكد كلامي جيدًا.

مؤخرًا اطلعت على قائمة الأفلام التي ستنال على اعجابي من العام الماضي لأبحث عن أمكنة بثها داخل مختلف المنصات، القليل جدًا منها وصل لمحطة متجر آبل لبيع وتأجير الأفلام أما الكثير منها فكان لا يتواجد في أي مكان قريب واقعيًا كان أم افتراضيًا. الحياة تتغير وتتغير معها خيارات الشخص لكن ما يسع قوله هو أن يحاول بشتى الطرق أن يظل متمسكًا بروحه وشخصيته والتي حتمًا هي أغلى ما يملك والمسؤول الوحيد عن سعادته.

العيش في الظل

فان غوخ لم يكن معروفًا أثناء عيشه، ظل متخبطًا في حياته وفي حاجة ماسة للآخرين من أجل دعمه. الكثير منهم أعتقد بعدم أهمية ما يقدمه من فن، بل تم نعته بأقبح الألفاظ حين تم تقيم أعماله من قِبل أناس مختصة. هذا الأمر كان له التأثير الجلل على روح فان غوخ، فظلت الكآبة رفيقة له في درب الحياة التي عاشها. عاشر فان غوخ الكثير من الأناس المحرومين والذي ظلوا يغذونه بالمزيد والمزيد من النظرة السوداوية رغم واقعيتها على حد زعمه. تلك الضبابية نتجت عنها أعمال حين يراها المرء للوهلة الأولى وتحت تأثير الألوان الزاهية سيتلمس شيء من السرور والسعادة، على الأقل بالنسبة لي. تلك المعادلة المتناقضة تمثل تعقيدات الحياة التي نعيشها فحرمان شخص هو إبداع يجلب الفرح لمتذوقه، وتلك القصيدة والتي حُرم كاتبها من رؤية عشيقته هي حلقة الوصل بين محبوب وصاحبته في الليالي المقفرة. السؤال المشروع هنا، هل لو عايش فان جوخ تلك الشهرة التي حصدها بعد وفاته ستتغير معها طبائعه ليعدل عن قراره و الذي  اتخذه  بإنهاء حياته؟

بيزيل براون منقب انجليزي تم استدعائه من قبل سيدة أرملة تمتلك العديد من الأراضي، إحداها أرضُ ظلت منذ الصغر وبمعية والدها الراحل تعتقد بأهميتها التاريخية، سَخِر براون قليلًا منها، فالحدس لا يعتد به كأداة في التنقيب فهناك العديد من الأمور التي يترتب عليها الشروع في البدء عن تنقيب تلك الآثار المزمع إيجادها. مرت الأيام والأسابيع ليتم تأكيد شعور السيدة بريتي، ليخرج معها حطام سفينة انجلوساكسونية من القرن السابع الميلادي أو ما يعرف سابقًا بالعصور المظلمة، ليكتب لهذا الأكتشاف النجاح الباهر كونه أحدث نقلة كبيرة في قراءة التاريخ الإنجليزي لتلك الحقبة. القصة لم تكن وردية على الأطلاق فمع حدوث اكتشاف بهذا الحجم كان من الضروري تدخل المتحف البريطاني لتبني ذلك الركام، نظرًا لأهميته القصوى للشعب الأنجليزي كافة، فمن غير المعقول أن يظل حبيس متحف محلي والذي ينتمي إليه المنقب براون، مكتشف تلك السفينة. تم الأمر فعلًا بعد قرار من السيدة بريتي والتي اعتقدت بأهمية رؤية ذلك الحطام لكافة الجمهور والذي يسهل توفيره من خلال المتحف البريطاني. النتيجة كانت متوقعة بطمس اسم المنقب براون وربط الاكتشاف بعلماء آثار ومنقبين متمرسين، على عكس مكتشفنا والذي كان هاويًا. من المؤكد أن براون لم يكن سعيدًا بتلك التطورات وأن أمور عديدة حالت بينه وبين سلم المجد والشهرة، لعل اهمها أن ممارسته للتنقيب لم تكن يومًا مبنيةً على دراسة مختصة بل كهواية ظل مطورًا لها بالقراءة والعديد من الرحلات مع والده الخبير بأنواع التربة. 

النظرة المسبقة ذلك الحائط الصلب والذي يصلب على أحدى جانبيه طموحات العديد من أصحاب المواهب والاكتشافات، ففان غوخ ظل قابعًا في داخلها نطرًا لأعماله المختلفة عما هو سائد و عدم انتمائه لمدرسة الرسامين المتخصصين و الذين امتهنوا الرسم من خلال الدراسة وداخل الأبواب المغلقة، فرسامنا كان مغايرًا لذلك وجعله ذلك الاختلاف بعيدًا عن مجتمع الفنانين العظام خلال حياته، براون الآخر حُرم من إنجازه كونه اتى مغايرًا لمواصفات أُعدت من قِبل أشخاص آخرين لم ترق لهم سيرته الذاتية، فهي حتمًا لا تلائم أكتشافًا يعد مؤثرًا في التاريخ الإنجليزي فيصعب معها أن تربط بهاوي تنقيب أمتهنها من خلال ذهابه في رحلات عديدة مع والده.

الشخصية الثالثة والتي سأتناولها في هذه المقالة عايشت ظروفًا معاكسة لما اختبره كلًا من براون وفان غوخ. المستكشف ألكساندر فون هومبولت عاش حياة مليئة بالمغامرة والتطلع لاكتساب معلومات جديدة حول حقيقة المخلوقات الحية من حولنا وعن تلك الأرض التي نسكنها،  فقام بتسلق جبال لم يجرؤ احدًا من قبل على الأقتراب منها، وحدد مناخات ملائمة لنباتات مختلفة حتى أنه توصل لفكرة أن قارة أمريكا الجنوبية كانت متصلة بالقارة الأفريقية، تلك النظرية التي أُكدت حديثًا، فكم يعد جنونًا أن يؤمن شخصُ بها في ذلك الزمان ومع قلة الأجهزة والمعدات الدقيقة. كل تلك الروعة والتي كانت تغلف وجوده في هذا الكون ذهبت أدراج الرياح بعد وفاته فبعد أكثر من مئة سنة لم يعد أحد يذكر فون هومبولت ولم يصبح ذلك الشخص الذي يشار له بالبنان والتطوير في مجال العلوم بل أصبح منسيًا، ولعل من الأمور المضحكة في قصته أن نابليون كان على معرفة كبيرة به وظل مترصدًا لتحركاته نظرًا لما يمتلكه من علاقات مع مختلف الأطياف والأعراق، وإذا صح لنا القول فقد كان نوعًا ما يصاب بالغيرة ناحيته نظرًا لرغبته الجامحة في امتلاك كل من حوله لينال نصيبًا عاليًا من المديح والثناء كما كان يتلقى فون هومبولت بنفسه، لكن في زماننا الحاضر أصبح نابليون معروفًا بشكل أكبر للعامة من فون هومبولت فالسنين كانت كفيلة بإبراز أحدهما مع الإطاحة بالآخر.

ملاحظة تلك الشخصيات الثلاثة برزت لي من خلال قراءة كتابي “اكتشاف الطبيعة” و “فنسنت فان غوخ: الرواية الكلاسيكية لحياة عاشها بين الشهوة والحرمان” ومشاهدة فيلم “The Dig”، قد تكون الصدفة المحضة في قرب الفترة الزمنية لرؤية وقراءة تلك الأعمال جعلتني اربط فيما بينهم، وقد يتواجد هناك فيما بينهم بعضًا من التشابه يجعل حياتهم قريبة إلى حد ما. أم من الممكن استنتاج أنها الحياة بتعقيداتها وتناقضاتها الكبيرة والتي ظهرت جلية في حياة أولئك الثلاثة ليصح القول معها أنها بارزة في جميع حيوات البشر.

هاملتون

20130816_161817

في أيامي الأولى من الدراسة الجامعية والمحاولات العديدة للتأقلم معها، كنت في قاعة الانتظار عند بوابة الخروج أعد الدقائق والثواني لحين قدوم السائق، فالوقت يمضي ببطء ومحاولات تضيعه بفتح الهاتف النقال والاستمتاع به لم تكن ميزة موجودة في أيامنا تلك فقمت بأبسط فعل يساهم في عملية تزجية الوقت، الإستماع لأحاديث من بجانبي. صديقات من أربع فتيات يبدو من هيئتهن وكثرة الأحاديث فيما بينهن أنه  قد مضى زمن ليس بالقليل على تلك الصداقة التي تجمعهم، إحدى تلك الفتيات تتوسط موقع الجلوس وقد استلمت دفة الحديث فيما ظل البقية بهيئة مستمعات مع بعض التعليقات البسيطة والأسئلة الملحة بين الحين والآخر، كانت الفتاة تتحدث عن رحلتها الصيفية إلى نيويورك حيث ذكرت الأماكن المميزة والمطاعم الرائعة والتسوق العجيب، الذاكرة هنا لا يسعها تذكر التفاصيل فالموقف حدث منذ زمن بعيد لكن ظلت جملة نطقت بها الفتاة ظلت راسخةً في بالي حين ذكرت بأنه لا يمكن لها أن تنسى حضور مسرحية في برودواي فهو نشاط اعتادت عليه هي وامها منذ زمن بعيد. مسرحية؟ أتذكر حالة الاستغراب التي طرأت علي عند سماعي لتلك الكلمة، ففي ذلك الوقت والعمر الصغير لم أكن أعي كثيرًا عن كيفية قضاء عطلتك الصيفية، أو حتى الاهتمامات التي كانت تعنيني وقتها فقد كانت مختلفة عما هي عليه الآن، لم أكن أتصور أن يضيع شخصًا ما وقته الثمين في الإجازة بالذهاب لمسرحية.

بعد عشر سنوات من تلك القصة كتب الله لي زيارة إلى نيويورك من دون تخطيط مسبق حيث أُتخذ القرار على عجل قبل العودة للرياض من واشنطن، تم تأخير العودة يومين إضافين لنجعل نيويورك آخر محطة لنا في الولايات المتحدة ولكن فقط لثمانِ وأربعين ساعة. الوقت القصير وعدم الحجز المسبق أدى إلى إلغاء فكرة حضور مسرحية، والاستفادة من تلك الساعات لرؤية أهم معالم المدينة. تمضي سنوات قليلة و كمتابعة جيدة للفن بدأ يلفت انتباهي اسم مسرحية هاملتون، حيث تكرر ظهوره في الأحاديث الفنية أما بالحديث عن روعته، أو باستضافة فناني المسرحية نفسها في برامج التوك شو، اتذكر جيدًا ففي وقتها زاد شغفي بالأعمال الموسيقية أو ما تعرف بالميوزيكال حيث تكون الحوارات فيما بين الشخصيات بطريقة غنائية والفضل يعود لفيلم لا لا لاند. حينها دفعني الحماس لمشاهدة العرض التشويقي الخاص بالمسرحية في اليوتيوب، لتظهر معها طريقة الغناء من نوع الراب لأوقف المشاهدة سريعًا ويتوقف بعدها بحثي عنها، لأنِ ببساطة لا أستسيغ هذا النوع من الفن.

المحب للقصص التاريخية دائمًا ما يُعجب بقصة تأسيس الولايات المتحدة، ففكرة تأسيس البلاد و استقلالها من بريطانيا والإعلان الخاص بها ملهمة من نواحي عديدة. حكاية الآباء المؤسسين وأول رؤسائها عُرضت كثيرًا في الكتب والوثائقيات والأعمال الفنية سينمائيةً كانت أم متلفزة. أسماء ظلت راسخة في بالي مثل جورج واشنطون جون آدامز وتوماس جيفرسون، لن أدعي على علمي الكامل بما قاموا به لكن توجد لمحات من حياتهم السياسية ظلت في ذاكرتي. قد يكون هاملتون أقل اسم من بين تلك الأسماء ذكرًا وتداولاً، ليس بمعنى عدم المعرفة التامة به لكن بعدم معرفة الأعمال التي كان خلفها، فهذا الرجل كان وراء العديد من القرارات التاريخية والمصيرية للولايات المتحدة، هذا الجانب الدرامي جذب صناع المسرحية لعمل مقتبس عن حياته لأنه وببساطة تتواجد بداخله الخلطة الكاملة لقصة درامية شيقة، رجل قدم من دون نسب كافح لبناء نفسه حتى أصبح من ضمن علية المجتمع، كأنه تطبيق فعلي لما يود الدستور الأمريكي في وقتها الاستناد عليه.

في العام الماضي تقرر عمل فيلم للمسرحية بنسخة خاصة للمشاهدين في كل مكان، وكأنها رسالة محبة لكل من لا تسمح ظروفهم برؤيتها في مكان عرضها داخل مدينة نيويورك، وأتت جائحة كورونا وعجلت بإصدار تلك النسخة وتوفيرها رقمياً. أصابني فضول لرؤية العمل رغم علمي بموسيقى الراب الموجودة فيها والمكروهة من قِبلي لكن يمكن حسابها كتجربة جديدة لن أخسر الكثير فيها. منذ بدء المسرحية إلى نهايتها ظللت بتركيز عالي دون أي تشتيت، جميع ما ذكر في المسرحية والأسطر الغنائية المذكورة ظللت مشدودة لها دون أن أفقد تركيزي، الموسيقى كانت معبرة ومختلفة وحماسية بشكل لا يمكن وصفه في أحرف بسيطة، ستستشعر بطاقة هائلة بعد الانتهاء من مشاهدة المسرحية لتظل معك فترة غير بسيطة. قد يكون نوع موسيقى الراب هي السبب رغم أن المسرحية ليست بالكامل ضمن هذا النطاق فيتواجد ضمن مقطوعاتها الغنائية أنواع أخرى من الموسيقى وكما أعتدنا عليه في أعمال موسيقية أخرى. العمل ممتع فقد احتوى على القليل من اللمحات الكوميدية ولعلها خاصية اكتسبتها المسرحية وجعلتها تتفوق على غيرها أو لنقل تميزها كون الموضوع المطروح هنا تاريخي وغالبًا ما يتسم هذا النوع من الأعمال من الجدية مع إضافة مشاهد ملحمية. وأن استمرينا في حديثنا عن التميز والمختلف في هذا العمل يجب علينا التطرق إلى أبطال المسرحية فقد تم اختيار الممثلين من أعراق مختلفة كليًا عن هوية الشخصيات التاريخية الأصلية فترى جورج واشنطون قد مُثل من قِبل ممثل ذو ملامح مكسيكية وأرون بور قد اختير لأداء دوره ممثل أمريكي/أفريقي، هي رسالة أراد صناع العمل إيصالها بأنها قصة الولايات المتحدة تُروى من خلال أبناء هذا الجيل باختلافاتهم العرقية. 

لكل منا قائمة أمنيات في هذه الحياة تزداد أعدادها مع تقدم السنين قد تتحقق بعضها وقد لا تتحقق أخرى المهم هنا هو السعي وراء تحقيقها وبذل كل ما في استطاعتك لرؤيتها واقعًا. أعرف الآن أنه قد تمت إضافة واحدة إلى قائمتي وهي مشاهدة مسرحية هاملتون في برودواي، وأعلم أنه الآن تقام من دون الطاقم الأصلي لكن حتمًا روح العمل ستكون حاضرة بقوة داخل أرجاء القاعة وهو كل ما يهم. 

 

.Dying is easy, Living is harder

Another Day of Sun

20130718_084607

Taken By me 2013

أواخر شهر مارس من عام 2013 أخبرني أخي بإقتراح وهو قضاء فترة الصيف في الولايات المتحدة بسبب ترشحه من قِبل عمله لدورة مدتها شهر مع 10 أيام أضافية بإمكانه قضائها هناك, اتذكر حالة الجمود التي أصابتني, سعادة مع استغراب, استغراب لأنِ كنت دائماً مستبعدة فكرة السفر لأمريكا لأسباب عديدة أحدها عدم وجود قريب هناك لأقوم بزيارته, بعد المسافة والتي دائماً ما يتعذر بها والدي إذا ذكرت لهم اسم البلد فقط, فأصبحت زيارة أمريكا مثل الحلم لا أعلم أن كان سيتحقق يوماً ما أم لا, ولأكون أكثر صدقاً كنت مستبعدة هذا الأمر كثيراً, نعود لتلك اللحظة تصوروا رغم معرفتي التامة بالرغبة الشديدة بالذهاب إلا أنني قلت سأفكر, في اليوم التالي وأنا أقوم بعملي المعتاد وهو الشرح للطالبات عن مكونات التربة وعوامل التجوية والتعرية عقلي كان في مكان آخر يعرض صوراً عديدة عن كاليفورنيا ونيويورك ولقطات بانورامية لمدن أخرى طُبعت في ذاكرتي من أفلام كنت قد شاهدتها مراراً وتكراراً. في داخلي قلت بصوت عالي أنتِ مجنونة لما لم تقبلي بالعرض مباشرة لكن هذه الصرخة لم يتمكن من سماعها أحد. عدت مسرعة من بعد العمل لأتصل بأخي وأخبره بموافقتي الأكيدة للذهاب, المضحك في الأمر أنني وافقت ولم أكن أعلم أين هي الوجهة بالضبط في الولايات المتحدة والمعروف عنها المساحة الشاسعة هذه النقطة إلى يومنا هذا عندما استعيدها من الذاكرة أجد نفسي غارقةً في الضحك أكلم نفسي وأقول: ماذا لوكانت الوجهة ولاية صغيرة في الوسط الغربي الحمدالله أن الوجهة كانت كاليفورنيا في مدينة مونتري وتقع بالقرب من سان فرانسيسكو, الأحتيار كان موفق.

شاهدت الأسبوع الماضي فيلم “LA LA Land“, أن كنت من عشاق السينما حتماً اسم الفيلم لن يبدو غريباً عليك, استمتعت جداً بالفيلم, استمتعت لا أعلم اشعر بأن الكلمة مجحفة بحق الفيلم نوعاً ما, دعوني أبحث عن كلمة أخرى تستطيع وصف هذا الجمال؟ للأسف لم أستطع إيجادها. سأحاول قليلاً أن ابسطها أكثر يكفي عندما شاهدت الفلم قمت بإعادة المشاهدة مباشرة, أعتقدت بأنِ وفقت هذه المرة. لن أكتب سرد عن القصة سأذكر وأعبر بالكلمات عن الشعور الذي انتابني مع مشاهدة الفيلم وعند الأنتهاء منه, الفيلم ينقلك لعالم آخر تشعر بإن العالم الحقيقي توقف من حولك ونقلك لقصة واقعية ممزوجة بالقليل من الخيال, كل مشهد هو لوحة فنية رُسمت بعناية, الألوان المختارة, مكان التصوير الذي اقتصت منه تلك المشاهد, تلك اللوحة الفنية ليست جامدة كما هي الحال دوماً, بالعكس هنا مليئة بالحركة والرقصات الخفيفة مضافة إليها موسيقى عظيمة أجزم أنها ستظل عالقة في ذهنك لفترة طويلة (أكتب هذه التدوينة ومازالت تلك الموسيقى والأغاني تصدح في رأسي) عند انتهائك من مشاهدة الفيلم ستشعر بالحنين بسرعة وهو شيء غير معتاد لأنه وكما هو معلوم نحن نحن للأشياء التي حدثت لنا على الأقل منذ سنوات وليس منذ ساعتين, وربما هذا يفسر سبب أعادة تشغيل الفيلم بعد انتهائي من مشاهدته مباشرة. أعجبني أيضاً أن الثيم الأساسي للفيلم هو المكان, كانت لوس انجلوس, دائماً هذه النوعية من القصص تجذبني كثيراً, في الأفلام أو الكتب التي أعشقها أجدها تندرج تحت هذا البند. أشعر بأن من أفضل النعم هو تعلقك بالمكان الذي تسكنه حتى تجعله يسكن بداخلك. آه أشعر بأنِ تكلمت كثيراً عن الفيلم, طوال الأيام الماضية حديثي مع الأهل والصديقات والتغريدات في تويتر في أي مكان أجد نفسي أتحدث عنه. أنا متأكدة بأن الفيلم سيظل أيقونة سينمائية لفترة طويلة وأنا محظوظة كونِ عشت في تلك الفترة عند ظهوره.

يوم الأربعاء السابع عشر من شهر يوليو من عام 2013 كانت المصافحة الأولى لي مع أرض أمريكية وكانت من نصيب مدينة لوس أنجلوس, عندما فُتح باب المطار الزجاجي لتهب معه نسمات لطيفة مع رطوبة منعشة وشمس شارفت على الغروب كانت الساعة تقارب الثامنة مساءً هذه المصافحة أتت بعد رحلة شاقة مدتها 13 ساعة من الرياض لواشنطن ثم توقف لمدة ساعتين ونصف لنحلق بعدها مرة أخرى بإتجاه الغرب ولمدة 5 ساعات, اختصرها الكابتن على حد زعمه وجعلها 4 ساعات ونصف, منظر لوس انجلوس من شباك الطائرة كان جميلاً تلال مرتفعة وخضرة بسيطة مع صخور جبلية وأشجار النخيل الشاهقة, بالتأكيد بعد هذا اليوم الطويل في السماء وبين المطارات جرعة كبيرة من النوم كان لا مفر منها فأجلت المصافحة الفعلية إلى اليوم التالي, صباح الخميس اخترت رحلة بالباص داخل مدينة لوس انجلوس وضواحيها من موقع Trip Advisor صاحب الباص كان ظريفاً جداً عرف عن نفسه بأنه ممثل وكاتب وبالطبع يجب عليه العمل كنادل في أحد المطاعم ليوفر لقمة العيش بالأضافة لهذا الباص السياحي. كانت نقطة الأنطلاق من منطقة سانتا مونيكا الشاطئية أجمل مناطق لوس أنجلوس إلى هذه اللحظة مازالت الصور الرائعة باقية داخل رأسي من جمالها وجمال الطقس فيها, أخذ السائق يدور بنا على مناطق عديدة هوليوود, بيفرلي هيلز ومنازل النجوم والذي بالطبع تحدث عنها بإسهاب لعلاقته بهذا المجال وماليبو المزدحمة والبعيدة نوعاً ما عن لوس انجلوس, ومنتزه غريفيث ومرصده الفلكي حيث المقعد الذي جلس عليه كلاً من ميا وسباستيان وأدوا بجانبه أحدى رقصاتهم الجميلة.

داميان شيزيل مخرج الفيلم أحب بشدة أن يذكرنا بأن السينما هي فرصة جيدة للأنسحاب قليلاً من الحياة والتحليق في عالم الخيال الممزوج بالواقع أو دعونا نصفها بالأحلام, في الفترة الأخيرة قلت هذه النوعية من الأفلام والدليل تسميتها بالكلاسيكية. الجميل أن المخرج من مواليد عام 85م أي أكبر مني بعام ومازال عقله متعلق بتلك الحقبة, شخص من جيلنا, الجيل الذي أتى معه عصر الفضائيات والأنترنت وعالم التقنية ومازال متمسك بهذه الأمور بل وأضاف عليها بعض اللمسات العصرية لتجعلها تبدو أكثر حداثة  ولا يظهر الفيلم مجرد حنين للأفلام الكلاسيكية, أعتقد أنه سيثري السينما بقادم أفلامه حتماً, شيزيل أصبح من المفضلين عندي مع  وودي آلان و ويس أندرسون وريتشارد لينكليتر.