مناخ استوائي

أصبح خوان بونثي دي ليون على قرار كان قد تمخض داخل رأسه طيلة الليلة السابقة، سيبلغ الملك بهدف حملته راجيًا منه أن يوفر المال الكافي لسفن تلك الرحلة، هو يملك المال الوفير وبمقدوره أن يقوم بالأمر من تلقاء نفسه لكن رغبة ملحة تتغلغل بداخله في تلقي دعم الملك ومباركته.

 “البحث عن ينبوع الشباب” ستكون تلك العبارة مفتاحًا لجذب انتباه الملك لعلها تحلق بخياله بعيدًا داخل حلم يقظة يرى الملك نفسه وقد غدا شابًا من جديد. تلك الأسطورة المتناقلة عبر الأجيال والتي ظل الأوروبيين لقرون يرددونها طويلًا أملًا في الالتقاء بماء الحياة، ألا أنها ما فتأت أن تضمحل لعدم ثبوت صحتها في كل الرحلات المنجزة لذلك الغرض والتي ابتليت بالفشل في عدم حدوث أي أمر يذكر داخل تلك الينابيع المستكشفة. إلا أن الأسطورة عادت للبروز مع اكتشاف العالم الجديد، بسبب همسات السكان الأصليين أمام المستعمرين الأسبان عن تواجد ينبوع يحمل ذات الصفات المتعارف عليها بما تقدمه من خدمة جليلة للبشرية بالإبقاء على نسلهم شابًا للأبد. قد تصدق تلك الأحاديث وقد تخطئ، فمن يعلم قد تكون لعبة أراد السكان الأصليون لعبها مع أولئك الغزاة لإصابتهم بالإعياء نتيجة التوهان داخل القارة الجديدة. ألا أن الأمر الغريب الذي يبرز هو تعلق خوان بونثي دي ليون بذلك الينبوع وفي إشتهاء طعم تلك القطرات المجددة للجسد والتي لا تتواءم كليًا مع فكرة أنه قد بلغ للتو عامه الأربعين. لماذا الهوس في أن يعود شابًا وهو لم يبتعد كثيرًا عن تلك المرحلة. لعلها رؤية مستقبلية تم استبصارها عن قرب رحيله والذي سُجل في عامه السابع والأربعين. 

رست سفينة دي ليون في 27 مارس من العام 1513 على شواطئ أرض لم تطأها قدم أوربي من قبل، رغم أن الأولويات باتت غير ذي أهمية نظرًا لتضخم عدد الأقدام المغروسة في تلك الأراضي، ألا أن هذه الأرض ينظر لها دي ليون نظرة المتعطش لرشفة ماء من فم الينبوع المنتظر، ولم لا رفقة القليل من الذهب. قبل أن يبدأ في مهمة البحث، تفكر دي ليون في إسم يلائم هذه البقعة، تفحص الظروف المحيطة ليتذكر وقوع هذه الأيام ضمن الأسابيع المقدسة والمصادفة لعيد الفصح، وبالنسبة لدي ليون والأسبان المرافقين له تترسخ صفة التدين والرغبة الملحة في القيام بأفعال مرتبطة بالدين في كل شؤونهم اليومية، فما كان من القائد دي ليون إلا أن اختار اسمًا دينيًا يتلاءم مع هذا الحدث. وبلغة إسبانية هي جل ما ينطق به لسانه أطلق على تلك الأرض مسمى “La Pascua de las Flores”  وهو المصطلح الذي اعتاد الأسبان تسميته على أسبوع عيد الفصح والذي يعني مهرجان الزهور، ألا أن دي ليون أردته صفعة خيبة أمل من “فلوريدا” فلا ينبوع حياة قد وجد ولا التماع قليل من ذهب يساهم في إضفاء بريق على تلك الرحلة الخائبة. 

بعد خمسمائة عام وبضع سنين وطأت قدمِي بلدة سانت أوغسطين في فلوريدا داخل  كاستيلو دي سان ماركوس أو قلعة القديس ماركوس. في مكان ليس ببعيد عن آثار أقدام المخفق في تحقيق هدف إطالة الشباب المستكشف دي ليون، لا أعلم يقينًا أين حط لكن المصادر تشير إلى البلدة المتواجدة بها والتي أُنشئت بعد رحيله بخمسين عامًا. أحمل المنشور التوضيحي وشمس حارقة ترسل أشعتها بسرعة هائلة لتتمركز داخل رأسي جاعلةً من رؤية الكلمات المطبوعة على المنشور ضبابية يصعب التقاطها، هي حتمًا إعلان تم إرساله من قِبل جسدي عن احتمالية الإصابة بضربة شمس. من المثير للرثاء أنِ قد قدمت من مكان تسطع فيه الشمس بكامل طاقتها طيلة أيام السنة ولم تدون ذاكرتي أية إصابة باعتلال في توازني ضريبة التعرض المباشر لها، وهأنذا في منطقة تعد أقل توهجًا في إشعاعها الشمسي بيد أن الجسد بدأت تخور قواه في محاولة بائسة منه لإضفاء صفة عدم الاعتياد على الحرارة العالية. نتج عن هذا الوضع خطأ في انتقالي بين قاعات القلعة والمدون بداخلها الخط الزمني لحكامها وما أعقبها من أحداث، فعلى ما يبدو أنِ قد سلكت الطريق الخطأ. تلك الغرف لم تكن مرتبة على التوالي كما افترضت، بل عليك أن تسير في خطوط أفقية للقاعة ونظيرتها المواجهة لها، لأجد نفسي وقد قلبت بعض التسلسل الزمني برؤية البريطانيين أولاً ثم الأسبان لمرتين متتاليتين لأنهيها مع القوات الأمريكية، بيد أن السجل التاريخي الفعلي لهذا المكان كان أسبانيًا، بريطانيًا ثم إسبانيًا مرة أخرى لينتهي كما هو معروف تحت راية العلم الأمريكي. على الرغم من كل تلك التحولات فكل ما تلمحه العين في تلك البلدة يمكن اعتباره إسبانيًا، المباني المشيدة على طراز نشأ في شبه الجزيرة الإيبيرية، أسماء الشوارع والأبنية الأثرية كانت بلغة إسبانية واضحة للمستمع. ستجد صعوبة بالغة في إستقطاب روح إنكليزية أو أمريكية لتلك البلدة عدا العملة المعترف بها داخل المقاهي والمحلات الصغيرة والمطبوع على واجهتها صور الآباء المؤسسين للولايات المتحدة.

بعد انتهائي من صراع الأمم المتناحرة على أحقية امتلاك تلك الأرض، كان لابد من زيارة المحيط المتكأ بثقله على شاطئ البلدة، ذلك المحيط المهيب في حجمه وقوة الدفع لأمواجه والتي ما هدأت أبدًا رغم وقوعي في يوم يُعد صحوًا لا تعتريه منغصات من شأنها أن تثير غضب تلك المياه الجائعة. تيقنت الآن السبب الرئيسي في عدم نجاة أي راكب من حملة بانفيلو دي نارفاييث من تلك العاصفة الهوجاء التي ألمت بها غير بعيد من هنا، باستثناء الثلاثة المحظوظين رفقة مملوكهم المغربي والذي أسهب في سرد روايته المنسية في كتاب “ما رواه المغربي”. 

تصفع الرياح القادمة من المحيط كل ذرة في جسدي، ورغم سرعتها العالية والتي تجعلك تصاب بثقل في الحركة أن أردت أن تدخل جسدك في غياهب مياهها، رغم ذلك فأن نشوة تعتريك عند قدوم موجة مندفعة لا يفصل بينها وبين رفيقتها سوى ثواني معدودة تجعل من عملية التقاط النفس مستحيلة، هي حتمًا ستؤلمك ان كنت في وضع مخالف لما عليه حالك الآن، إلا أن السعادة وجدت لها بابًا أطلت من خلاله على ثنايا روحي وغمرته بما يتواءم  مع ما أشعر به. 

في غمرة كل تلك الأحاسيس لفتني منظر لأم وابنتها أنهكها كثرة اللحاق بها في محاولات مستميتة لمنع الصغيرة من دخول الماء، ظل بصرها متعلقًا بساقي الابنة لاهية بذلك عن جمالية المنظر المحيط بها. كانت مرتبكة في تلك اللحظات القليلة وقلقة تترقب حدوث أمر سيء اُبتُدِع داخل رأسها، تُرى هل قدر الأم أن تَرقُب بحذر خطوات أبنائها طوال حياتهم لتنسى معها وقع خطواتها؟ 

في الناحية المعاكسة يقف أب وابنه حاملًا بيده صنارة في مشهد يوحي بمحاولات متعددة صدرت من قِبل الأب لتعليم الأبن حرفة صيد السمك، ناول الأب الصنارة للأبن، يلتقطها منه دون حماسة تذكر وفي خضم عملية الانتقال مازال الأب يصدر كلمات غير مسموعة متأملًا  أن تفضي في إتقان ابنه تلك المهارة. أدركت حينها امرًا لا أعلم صحته، وهو أن الأب يقضي مع ابنه عطلة نهاية أسبوع كانت قد حُددت له من خلال المحكمة بعد الانفصال عن زوجته، لعله ظل طوال الأيام السابقة يعد العدة لهذا اليوم المنتظر متصورًا حماسة الطفل ناحية ما رتب له. المشهد القائم أمامي يوحي بعكس ذلك تمامًا. 

أردت أن أبعد  نظري بعيدًا عنهما بعد أن أحسست بضيق لم أرغب في قدومه الآن. كانت صورة منفرة للمراقب من الخارج لكن قد تبدو ممتعة لهم من الداخل.

بقرة السيدة أوليري

في إحدى ليالي شهر أكتوبر الباردة، وفي مرعى السيدة أوليري، كانت إحدى البقرات تعاني ألمًا حادًا داخل جسدها. وبطبيعتها الحيوانية لم يكن منها ألا أن تقاوم هذا الألم بالتحرك يمينًا و يسارًا، مع محاولات حثيثة في رفع باطن القدم إلى الأعلى في آملًا منها في ركل شخص متخيل تجسد لها في صورة الألم. بالطبع لم تصب تلك الركلات المسبب الحقيقي لتلك الأوجاع التي تأن منها، لكنها في المقابل أصابت فانوسًا مشتعلًا كان قد وُضع بالقرب منها. فما كان من هذا الفانوس إلا أن لبى مطالب البقرة معلنًا نشوب حريق ألتهم كل ما يصبو أمام عينيه. 

ظلت مدينة شيكاغو مضاءة ليومين متتاليين في حادثةِ قلما ظهرت. لم تكن تلك هي الإضاءة المنشودة والتي يرغب سكان مدينة الرياح في قدومها حتى تملأ لياليهم بالدفء، بل على العكس تمامًا كانت قد اتصفت بكونها مدمرة ومهلكة لكل ما يملكونه من أماكن إيواء، وعتاد مخزن. وبعد انطفاء الحريق أُهلكت أرواح أو ذبُل بريقها.

36 ساعة كانت كافية لتغير مظهر المدينة الصاعدة لتتحول بعدها إلى خشب مكوم وأجساد ملقاة وطرقٌ قُطعت أوصالها حتى ما عادت تفي بالغرض الرئيسي من تشييدها. عُمم اللون الأسود على كافة أرجاء المدينة بشكل قسري ومن دون استشارة لقاطنيها ومعها خيم الحزن على جميع ساكنيها.

كان لا بد من إلقاء اللوم على أحد وجعله المسبب الرئيسي للكارثة، صحيحٌ أن المدينة ظلت معرضة بشكل متواصل لحرائق متفرقة، حيث تم تسجيل ثلاثة حرائق في الأسبوع الذي سبق الكارثة، إلا أن أحدًا منها لم يصل للنتائج البشعة التي توصل لها حريق شهر أكتوبر. نُقلت الأحاديث بين الأفراد عن إصابة السيدة أوليري بالاكتئاب الشديد نتيجة إحساسها بالذنب لما فعلته بقرتها داخل المزرعة والذي عُد ضمنيًا الشرارة الأولى للحريق الهائل. كان هذا الفعل كافيًا لإلقاء اللوم الكامل على السيدة متناسين الفوضى التي تعم المدينة من أكوام الخشب الملقاة والمستعدة دومًا لأن تخدم أي حريق مفتعل مهما كان بسيطًا. لكن كعادة بني البشر حين تتملكهم الرغبة في جمع كل الأسباب وتكويمها على هيئة كرةً ثقيلة وإلقائها على ظهر الشخص الأول ومن تشير إليه أصابع الظنون.

بدأت العقول تصطنع قصصًا حول حقيقة ما جرى تلك الليلة لتتمكن بعدها من محاكمة السيدة أوليري، فأحدهم ذكر أن السيدة كانت هي المسؤولة عن إلقاء الفانوس على الأرض بسبب حالتها الغير مستقرة نظر احتساءها كميات كبيرة من الكحول، ومتحدث آخر يجزم أنها أخفت جميع الأدلة التي تربط تورطها بتلك الحادثة. أحد الجيران ادعى أنه رأى الدليل القاطع على إحداث ذلك الحريق والذي كان الفانوس المحطم لكنه أقسم أنه سُرق بواسطة رجال آخرين.

ومن أجل الدفاع عن نفسها و لتزيح عن كاهلها ذلك الحمل الثقيل، أوضحت السيدة أوليري أن الحريق قد يكون مفتعلًا لكن ليس من قِبل بقرتها بل بواسطة جماعة إرهابية مرتبطة بكومونة باريس حتى أن قصيدة نُشرت في صحيفة الفضائح النيويورك بوست تدعي اعتراف ذلك الشخص بافتعال الحريق الضخم:

خرج هذا الطائر من رماد باريس

ليحلق بقمة مشتعلة فوق المحيط

آتيًا بالبلاء لملكة الغرب.

 

في العام 1997 تم تبرئة السيدة أوليري من الذنب الملصق بها حول افتعال بقرتها حريق شيكاغو العظيم، لكن لا السيدة أوليري ولا بقرتها كانا من ضمن حضور جلسة التبرئة في مجلس مدينة شيكاغو.

كونت مونت كريستو وجمعية الصداقة والسلام

Processed with VSCO with hb1 preset

-يقدم الرجل نفسه باعتباره رجلًا خيرًا. حتى أن قداسة البابا نصبه فارسًا للمسيح وهو منصب لا يتكرم به إلا على الأمراء لما أسدوه من خدمات جليلة لمسيحي الشرق؛ وكذلك يملك خمسة أوشحة أو ستة حصل عليها بفضل ما أسداه من خدمات إلى أمراءِ أو دول.

-ويحملها؟

-كلا، لكنه فخور بها، ويقول أنه يفضل المكافآت التي يحصل عليها المحسنون إلى الإنسانية على تلك التي يحصل عليها مدمرو البشر.

-صاحبنا إذًا من الكويكرز؟

-تمامًا، إنه من الكويكرز، غير أنه بالطبع لا يلبس قبعتهم الكبيرة وزيهم البني.

هذا حوار من رواية ألكسندر دوما “كونت مونت كريستو” لرجلين يتحدثان فيها عن شخصية مونت كريستو نفسه، وفيها استنتج المتحاوران انتماء مونت كريستو لجماعة الكويكرز لأنه ببساطة شخص يعشق السلام.

روبنز المختلف

عاش روبنز في القرن الثامن عشر في إنجلترا ويمكن اعتباره مثالًا يحتذى به في تكوين نفسه بنفسه أو ما يعرف بمصطلح الشخص العصامي، كانت الوسائل المتاحة له والتي تمكنه من الالتحاق بالجامعة محدودة، فقرر استبدال ذلك بالتعليم الذاتي في تخصص الرياضيات حتى أصبح متمكنًا منها. ذاع صيته وما لبث أن حاز على شهرة كمعلم خصوصي لها، تلك النجاحات لفتت انتباه الجمعية الملكية البريطانية لتنتخبه عضوًا فيها وهو ما يزال في الحادية والعشرين من العمر. 

أول إنجازات روبنز وإبداعه كان في الرياضيات والتي مكنته من حل مشكلات تتعلق بدقة المدفعية، عندما استخدم المعادلات التفاضلية من أجل تقديم أول توصيف حقيقي لتأثير مقاومة الهواء في مسار القذائف ذات السرعات العالية (وهي مشكلة عجز غاليليو عن حلها). نشر روبنز ملاحظاته الدقيقة في كتاب أسماه “مبادئ جديدة للمدفعية” لتتزايد معها دقة تصويب المدفعيات ولينال معها تعيينه في شركة الهند الشرقية البريطانية كضابط مدفعية ومهندسًا عسكريًا. أمر الملك فريدريك الكبير حاكم بروسيا بعد مرور ثلاث سنوات من إصدار كتابه بالترجمة الألمانية وقام المترجم ليونارد يولر بإضافة تحسينات من خلال ملحق شامل من الجداول التي تحدد السرعة والمدى والارتفاع الأقصى ووقت الطيران بالنسبة إلى قذيفة أُطلقت بسرعة وزاوية معلومة من فوهة المدفع. وتم إلحاق الترجمة الألمانية بترجمة فرنسية لتتمكن من الظهور في العام 1751، ومع تطبيقها أعطت الغرب سلاحًا قاتلًا بالفعل: المدفعية دقيقة التصويب.

جورج فوكس:

عاش جورج فوكس في القرن السابع عشر وترعرع وأحداث حرب أهلية داخل بلاده إنجلترا تحدث تحت ناظريه، تلك الحرب المروعة التي راح ضحيتها العديد من المواطنين بما فيهم رأس الملك تشارلز الأول خلفت ندبات واضحة في روحه جعلت منه باحثًا عن الطمأنينة والسكون. قرر اعتزال عائلته ومغادرة بلدته والذهاب من أجل البحث عن تلك الطمأنينة. ظل مرتحلًا في أنحاء البلاد في مهمته الروحية، مع الأخذ بالاعتبار أن تلك الفترة شهدت اضطرابات دينية داخل إنجلترا فالجميع أراد إصلاح الكنيسة الإنجليزية أو تأسيس كنائس منافسة لها. على مدار رحلته ألتقى فوكس مع العديد من الباحثين عن تجاربهم الروحية ليصل معها إلى خلاصة مفادها أن الله موجود داخل كل إنسان ولا حاجة للكنائس من أجل التواصل معه على حسب اعتقاده. أسس حركة عُرفت بجمعية الأصدقاء الدينية والتي سميت لاحقًا بالكويكرز، تؤكد تلك الجمعية على رفض الطقوس الخارجية والخدمة الكهنوتية ، مع الحث على العمل النشط من أجل السلام ومقاومة الحرب. 

كسب فوكس أتباعًا في مقاطعات ليك ديستريكت في ويستمورلاند و لانكشاير وبعد ذلك في يوركشاير ولندن ومناطق أخرى. عانى هو ورفاقه من العداء العام والقيود الرسمية، وغالبًا ما تم القبض على فوكس ورفاقه وسجنهم. في الواقع ، تم إيداع فوكس في السجن في الفترة الواقعة بين عامي 1649 و 1673.

أدت استعادة الملكية في عام 1660 إلى تشريع خاص ضد الكويكرز واتخاذ إجراءات واسعة النطاق ضدهم. شجع جورج فوكس مجموعات الكويكرز المحلية على تنظيم اجتماعات عمل شهرية وربع سنوية منتظمة إلى أن تم تخفيف الضغط المستمر عليهم بشكل متقطع حتى أُصدر قانون التسامح في العام 1689، قبل وقت قصير من وفاة فوكس ، ومع ذلك القانون أعطيت الراحة للكويكرز. تأثير جورج فوكس وصل إلى الطبقة الأرستقراطية الإنجليزية فإبن الأدميرال  السير ويليام بن  أعتنق تلك المبادئ التي ينادي بها جماعة الكويكرز، وبالطبع كان هناك غضب من ناحية الوالد تجاه تلك الخطوة لكن الأب توفي تاركًا ثروة هائلة للأبن ويليام بن من ضمنها ديون يدين بها الملك تشارلز الثاني لوالده. كمعتنق لفكر جديد ولرغبته بممارسة الشعائر بحرية في أرض جديدة بعيدة عن أعين الكنيسة الإنجليزية خطرت على ويليام بن الأبن فكرة والتي عرضها بدوره على الملك تشارلز الثاني، تتضمن الفكرة أن تعطى له أرض في المستعمرات الإنجليزية داخل أراضي القارة الأميركية، دون مزايا كبيرة لها، فلا يوجد بداخلها ميناء يصلها بالمحيط، بل على العكس تمامًا ستكون أرضًا داخلية مليئة بالغابات. سعد الملك تشارلز الثاني بالفكرة فطالما كان معانيًا من كثرة الديون التي خلفتها الأوضاع السيئة في إنجلترا في العقود الماضية، وأن يتخلص من جزء بسيط منها بتلك الطريقة السهلة إضافة إلى ابتعاد جماعة الكويكرز عن أنظاره لهو انتصار لم يحلم به. تحقق الحلم لويليام بن ليؤسس مستعمرته بنسلفانيا (والمأخوذة من كلمة لاتينية معناها غابات بن). وكعضو في جماعة كويكرز برز اختلاف واضح في تعامله مع السكان المحليين مقارنة بنظرائه من البريطانيين المستعمرين في تلك الأراضي، ففي البداية وقع على معاهدة معهم وطلب الإذن منهم لبناء المدينة التي كان يرغب في بنائها والتي تعرف اليوم بفيلادلفيا والقادمة من كلمة يونانية معناها مدينة المحبة الأخوية. أسس بن لقوانين تدعو إلى الحرية الدينية، تلك الأفعال مرتبطة فعليًا بالكويكرز والذي تعبر دومًا معتقداتها عن رفض الممارسات الإجبارية للآخرين تحت أي ذريعة سواءً كانت بالسلاح أو بالأجبار على الدخول في تلك الجماعة.

قصة تأسيس مستعمرة بنسلفانيا تبين مدى تأثير جماعة الكويكرز في أفعال معتنقيها لكن هل فعلًا كان أتباعها محبين للسلام رافضين لجميع أشكال الحروب؟

دعونا نعود إلى روبنز صاحب اختراع المدفعية دقيقة التصويب وخلفيته التي ظلت ملازمة له،  سنجد أمرًا مثيرًا للاهتمام كونه قد ولد في أسرة تنتمي إلى الكويكرز وظل معتنقًا لمبادئها والتي عرفت بشعاراتها المنادية بالصداقة والسلام، والرفض التام لخوض الحروب، لكن هل تطوير عمل المدفعية لتكون أكثر دقة والتي عكف عليها وكُتب لها النجاح وكنتيجة لذلك استعملت في الحروب التي ظلت تقام طوال العقود القادمة داخل الأراضي الأوربية تتناسب فعلًا مع تلك المعتقدات؟

مونت كريستو بطل روايتنا الشهيرة والذي عُرف بفعل الانتقام لكل من تسبب في سجنه، وهو في طريقه لتحقيق ذلك ذهب العديد من الضحايا قصدًا أو من غير قصد، تلك النتائج لا تتلائم مع ذلك المعتقد والذي يبدو لوهلة خيال محض يصعب تحقيقه في عالم تسوده الصراعات والشرور والتي يجد كل طرف مبررًا صالحًا لها ليتولد منها انتقامات لا تقل فظاعة عن ما حدث.

اللقاء الأول

تخيل معي لو قدمت الكائنات الفضائية، بعد كل تلك التساؤلات عن وجودها من عدمه. تلك الصور المتخيلة لهيئتهم، طريقة تحدثهم، والأسئلة الملحة التي تنتظر الإجابة: هل يملكون عقولاً كما نملك، هل يعيشون وفق أنظمة وبلدان كما هو الحال لدينا؟ ماذا عن مواردهم الطبيعية التي تغذيهم وتمدهم بالطاقة وتمتد حسناتها لتخلق مخترعات تدفع بعجلتهم التنموية سريعًا. 

أحد الطرفين سيكون متقدمًا على الطرف الآخر بسنين عديدة لمميزات توفرت له ولم تتوفر للآخر، جاعلة منه فريسة سهلة يمكن القضاء عليها. لكن هل من الضروري أن يكون التقاء الطرفين حلبة صراع ليبرهن أحدهما قوته وليكتب له الانتصار وتطمئن ذاته بفوقيته. أم أن اللقاء سيكون لطيفًا وودوداً نتبادل فيه خبرات بعضنا البعض ويعجب كل أحد بالآخر وبمدى روعة انجازاته ليصبح التقدير فيما بيننا هو الانطباع السائد لذلك اللقاء.

لندع الخيال العلمي جانبًا ونعود لنغوص في قصصنا نحن في كوكب الأرض فمنذ 500 سنة، كان هنالك قصة شبيهة بقصتنا المتخيلة مع الكائنات الفضائية، قصة التقاء عالمين مختلفين لم يتسنى لهما رؤية الآخر من قبل رغم التواجد في نفس الزمان و تحت نفس السماء. لماذا تأخر هذا اللقاء؟ أحد الأسباب الرئيسية وجود محيط شاسع يفصل بين يابستين، فلا طرق برية يمكن السير عليها، فأن طالت المسافة سيظل الإنسان مطمئنًا لوجود أرض صلبة يطأ عليها بدلاً من قطعة مياه تمتاز بسيولتها مهددةً ثباته ليقع غريقًا داخل عالمها الغامض. دون الإغفال عن  الحاجة الملحة لصنع مركبات نقل تستطيع تحمل السير داخل تلك المياه.

تمكن هذا الإنسان الأول والذي وطأت قدماه تلك الأرض البعيدة من مفاجأة من كانوا يسكنون العالم الجديد. أولًا بسبب اختلاف الهيئة، فذلك الرجل أبيض بشعر أشقر و بلحى طويلة عكس ما اعتادوا على رؤيته. فهم يمتازون بنفس درجة اللون الحنطية وشعر داكن يمتاز بسواده، والمؤكد هو عدم وجود شعيرات كثيفة في وجوههم. يوجد قبائل منهم يعتبرون أنفسهم مختلفين فيما بينهم لكن في الحقيقة هم يحملون نفس السمات الرئيسية. ذلك الضيف الغامض كان مختلفًا واثقًا من نفسه لم تمسه الرهبة من مقابلة هؤلاء المحليين يحمل أدوات غريبة ويرتدي أثقالاً لا يُعرف كيف أمكنه من تحملها. يحمل معه شيئًا لامعًا يضعه حول خصره ويمتطي حيوانًا غريب الشكل.

 “أتراه آلهة، نصف إنسان ونصف حيوان” ظلوا السكان الأصليين يتهامسون فيما بينهم بتلك الأحاديث مضيفين “قد يكون هو الآلهة المخلصة والتي ننتظر قدومها منذ زمن”. على الجانب الآخر ظل الأوروبيين يتسائلون عن ماهية أولئك البشر، في البدء حاولوا إثبات انتمائهم لفئة العقلاء وبالتالي يصبحون أناسًا مهيئين لاعتناق الديانة المراد لها من قِبلهم، ثم تحاوروا بشكل أكبر حول عاداتهم الغريبة فهم يقدمون بعضًا منهم قربانًا للآلهة تقربًا لها وأثاروا بعض الظنون حول قدرتهم على أكل لحوم البشر.  “مستحيل، هؤلاء لا يستحقون البقاء على قيد الحياة أو على الأقل لنستعبدهم”، أقاويل من هنا وأقاويل من هناك رسمت صورًا متخيلة ممزوجةً ببعض الحقيقة وبعض الريبة جعلت كل طرف يتبنى أفعالاً بناءً عليها، النتيجة النهائية كانت انتصارًا كبيرًا لصالح الأوربيين ضد السكان المحليين أو من عُرفوا بالهنود الحمر.

وجد كل من كولومبوس ،و كورتيز ،وبيزارو نفسهم في اللقاء الأول، فمن مهمات للبحث عن خيرات العالم الجديد وتبادل الخبرات لتتحول بعدها إلى قادة مستعمرين امتلكوا الأرض بمن عليها. لماذا حصل هذا التغير؟ تتكرر دائمًا على مسامعنا مقولة العالم قبل حدث ما (بإمكانك وضع ما تراه مناسبًا) ليس هو العالم بعد هذا الحدث، العام 1492 سيتخذ لنفسه موقعًا ملائمًا داخل تلك العبارة.

فبعد أن وطأت أقدام كولمبوس الأرض الجديدة، والتي لا يُعرف موقعها بالضبط في يومنا هذا، اتخذت حياة السكان المحليين منحى آخر لم يتسنى لهم التنبؤ به. فإن كانوا يمتلكون كورة سحرية لتريهم ماذا سيحدث في المستقبل، ستذكر لهم قتل، أمراض، واستعباد وتصرح لهم علانية “ستكونون أقلية في بلادكم ولن تعودوا أصحاب الأرض”.

دخل كورتيز على حاكم الأزتك كضيف مرحب به، ليطمع في مدينة يوكاتان ويدبر الخطط للانقلاب على الحاكم وتحقق له ما أراد. بيزارو الآخر تم إرشاده داخل الطرق الجبلية الوعرة من قِبل سكان محليين ليتمكن في النهاية بالإطاحة بـ مملكتهم، حاضرة الإنكا. كولومبوس الشخص الأول و المسؤول الأكبر عن كل تلك الأحداث ابتدع فكرة استعباد السكان المحليين، لكن السؤال الذي يصرخ عاليًا في هذه اللحظات هو ماذا استفاد الأوروبيون من كل هذا؟ 

رواية البرازيل الحمراء تبدأ أحداثها بعد وصول كولمبوس بستين عامًا ، ولكن هذه المرة في مكان معلوم عند شواطئ ريو دي جانيرو في البرازيل، عندما كانت أرضًا معزولة وخالية من مظاهر الحياة. الأبطال فرنسيون، مع عددٍا لا بأس به من المرتزقة المتعددة الجنسيات، فبعد سنوات من سيطرة الإسبان والبرتغاليين على أتربة العالم الجديد أراد شعب النورماندي تجريب حظه في تلك الأراضي والظفر بقطعة الكعك الشهية وما تخبئه من مفاجئات بداخلها. فيلوغانيون قائد يريد أن يكتب مجده أسوة بمن سبقوه في هذا المجال، كان كورتيز أحد أبطاله الذي أراد أن يتشبه به ويفعل مع فرنسا ما فعله هو مع الإمبراطورية الإسبانية. 

من أبطال هذه القصة أطفال أُخذوا من الميتم ليتمكنوا من اقتباس لغة السكان الأصليين بسرعة ويساهمون في بناء المستعمرة من خلال العمل كمترجمين، من بينهم أخ وأخته تم إقناعهم بالذهاب في هذه الحملة للبحث عن والدهم المختفي منذ سنوات، بسبب سريان إشاعة عن ذهابه هناك للظفر بالكنوز المتوفرة في تلك البلاد البعيدة. 

مع هذه الأحداث الحقيقية والممزوجة ببعض الخيال ولدت لنا قصة ذات تشعبات عديدة، فلا يمكن حصرها أبدًا داخل تلك الشخصيات، فهناك قبائل السكان الأصليين مع عاداتهم المستنكرة ومحاولة التأقلم مع القادم الغريب، وهناك أيضًا صراعات دينية انتقلت من أوروبا لتلتهم تلك المساحة الصغيرة في الأرض الجديدة بين الكاثوليك والبروتستانت، فعلى ما يبدو كل طرف كان يدعي أحقيته في حمل لواء التبشير بين مقيمي تلك الغابات. 

الاستنكار والغربة والخشية من الآخر وظهور العديد من العلامات على جنون أفعال البعض وسمو خُلق البعض المضاد. كل تلك المحصلة تجعل من قصص اكتشاف العالم الجديد ممتعة وشيقة، ومبرزة لهوية الصراعات بين البشر. تجعلك تتفكر في هذا الإنسان وقدراته العجائبية والغرائبية في آن واحد لتحتار في صف من ستنحاز وهل هنالك حقًا من رابح؟

______________________________________________________________

في الماضي وكعادة طفولية في التعلق بأفلام الكرتون، أُعجبت بشدة بمسلسل “الأحلام الذهبية” وقصة رحلة استبيان مع أصدقائه للبحث عن الذهب في أراضي العالم الجديد. لن أدعي فهمي للخلفيات التاريخية والتي بُني عليها هذا المسلسل فقد كُنت ما أزال طفلة لا تعي كثيرًا ما حدث ويحدث في هذا العالم، لكن الأجواء شدتني وأحداثها علقت في ذهني طويلًا. هذا التعلق ظل كامنًا بداخلي إلى أن نما فجأة منذ سنوات بالاهتمام الشديد بقراءة كتب تاريخية متعلقة بتلك الحُقبة، فمن “A Land so Strange” إلى وثائقيات مايكل وود ومنها إلى رواية “ما رواه المغربي” والتي تعتبر سرد شبه خيالي لأحداث تاريخية ذُكرت في كتاب “A Land so Strange” عن طريق الشخصية المنسية من الناجين الأربعة داخل أراضي السكان الأصليين وانتهاءًا برواية “البرازيل الحمراء”. أنا متأكدة من أن رحلة البحث والتنقيب عن قصص ذلك العالم لن تنتهي عند هذا الحد بل على الأرجح أنني ما زلت في بدايتها، وقد تم ايقاد هذه الرحلة الطويلة بفضول وشغف تجاه الكلمات المعبرة والقصص المروية  لذلك الزمان.

العيش في زمن مختلف

تنتابني أحلام يقظة مختلفة من حين إلى آخر متخيلةً نفسي أعيش في زمن مختلف وفي بقعة جغرافية أخرى، غالبًا ما تنتمي لزمان قديم ذو عنوان يشير بسهامه ناحية أوروبا. بالطبع هنالك محفزات مختلفة لتلك التأويلات; من أحدها قراءة كتاب يغدق بالكثير من تلك التلميحات أو مشاهدة فيلم يصور تلك الحياة البعيدة، اما المحفز الحقيقي لكتابة التدوينة والبوح بهذه الأفكار والتي تظل تحوم داخل رأسي هو قراءة لقصة قصيرة حدثت لغوته خلال إقامته خارج مسقط رأسه ألمانيا داخل أجواء إيطالية. لم يكن غوته حاضرًا في حياتي القرائية سوى أن اسمه ظل مألوفًا وحتى لو لم أطلع على أعماله، لكن حظر في ذهني مؤخرًا بعد قرائتي للسيرة الذاتية الخاصة بالمستكشف فون هومبولت وعن الصداقة العجيبة التي جمعتهم، نظرًا لمدى تشابه أرواحهم، رغم اختلاف أعمارهم، فقد اجتمعوا على حب الحياة و الاكتشاف والمغامرات والطبيعة والمتعة القادمة من وراء تلك الأمور والتي ظل كل واحد منهم يصبو للسير خلفها. 

عندما أتم غوته عامه السادس والثلاثين وبعد أن حقق العديد من الإنجازات الشخصية على مستوى الكتابة، ظن أن الوقت قد حان لخوض مغامرة لطالما حلُم بها، ترتكز كليًا على الذهاب والتوجه لإيطاليا وحيدًا ليكون بذلك مبتعدًا كل البعد عما اعتاد عليه من أُناس وطبيعة جغرافية ظل طوال سنواته معاشرًا لها. وهو فعلًا ما تحقق له فبعد تخطيط وإعداد وقراءة بعض المراجع حزم حقائبه وما أحتاج إليه من معدات تلائم عزلته الجديدة ليطلق بعدها لقدميه العنان. 

بلد جديد ذو ثقافة غريبة ولغة تواصل مختلفة كلها كانت تحديات أمام غوته ورغم ذلك ظل متحمسًا لها، وأراد أن يظل اجتماعيًا وأن يتواصل مع أكبر قدر من البشر، فإيطاليا مليئة بالمسافرين و الذين يشبهونه في خوض مغامراتهم الخاصة بهم هناك دون إغفال تنوع الجنسيات والذي مكن غوته من التعرف على أصدقاء جدد من غير الجنسية الالمانية. 

مرت الأشهر وطاب لغوته الأقامة هناك وكل ما أعتقد زملاؤه في أرض الوطن عودته أطال مكوثه أكثر، وظل غوته متحاشيًا خوض مغامرات عاطفية لاعتقاده الجازم بأنها ستؤثر بشكل كبير على حسه الإبداعي وتعيقه عن مهمة كتابة مسرحيات جديدة والتي كانت الدافع الأساسي لرحلته تلك، لكن الإنسان يظل غير مسؤول عن ما يعتري قلبه من مشاعر أن أراد لها القدير الظهور في لحظة ما، وكان هذا ما حصل في شهر أكتوبر بعد إكماله العام على إقامته في روما ومن أجل التمتع بعطلة إيطالية خريفية، قبِل دعوة ثري إنجليزي يملك قصرًا في ضواحي روما ويملك العديد من التحف واللوحات الفنية والتي حتمًا ستكون مفاتيح لأحاديث مع غرباء عدة من مختلف الجنسيات الأوروبية. 

في محاولة له للاندماج مع المدعوين لقصر الثري الإنجليزي لمح غوته سيدة إيطالية مع ابنتها كان قد عرفهما من خلال تواجدهم بالقرب من سكنه في روما إلا أنه لم تتح له الفرصة أبدًا للتواصل معهما إلا الآن في هذا الريف البعيد عن ضجيج العاصمة، ليطيب له الجلوس وقضاء الأمسيات معهم ومع صديقة أخرى قادمة من ميلان والتي تم دعوتها بسبب عمل شقيقها مع ذلك السير الإنجليزي. غوته طاب له الحديث مع تلك النسوة ومع شقيق الميلانية وبدأ في تجاذب الأحاديث عن كل شيء يثير اهتمامه ويطيب لهم الأستماع إليه ولما لا المشاركة فيه، لكن ولأن الأمور السعيدة دائمًا ما تنغص ببعض التوافه التي لا تخطر على البال، قامت والدة الشابة القادمة من روما بعقد محادثات مع غوته حول ما طبيعة العلاقة التي يرغب غوته في تكوينها مع ابنتها، فقد يجهل هذا الشاب الألماني أن الأمور في هذه البلاد قد تكون مختلفة عما هي عليه الحال في بلاده، فبمجرد ما تزداد أحاديثك مع فتاة عزباء يجب على الشاب أن يقدم على الخطوة الجدية ليتمكن من إطالة الجلوس معها والحديث بأريحية أمام الملأ. تلك الحادثة العرضية فتحت عين غوته عن مشاعره الداخلية والتي ظلت محبوسة بإرادته الشخصية رغبةً منه بعدم الأرتباط في علاقات جدية، وأحس أنه أمام الأختيار بين الفتاتين، ومن دون تردد وجد غوته نفسه معلنًا القرار النهائي، والذي أرشده له قلبه بالطبع، بأن الفتاة الميلانية كانت من يطيب خاطره بها وأنه حتمًا يستمتع بالتواجد بقربها للحديث عن مختلف الأمور. تلك الفتاة كانت محبة للأطلاع والمعرفة بكافة التفاصيل التي تحدث من حولها على الرغم من قلة تعليمها كونها حُرمت على حد قولها من الحق في التعليم، كون ذلك الزمان ينظر للمرأة بنظرة مختلفة عما اعتدنا عليه في زماننا الحالية، فما الهدف على حد زعمهم من تعليم المرأة الكتابة؟  لتكتب رسائل غرام للحبيب المحرم،  وما الفائدة أيضًا من تعليمها القراءة؟ فما الذي يجب أن يُقرأ غير التراتيل التي نتلوها في الكنائس. بتلك الجمل الغاضبة عبرت تلك الفتاة لغوته عما يعتري بداخلها لكن هذا الأمر لم يكن ليصيبها بكآبة ذو غمامة سوداء تجعلها مبتعدة تمامًا عن الحياة والتمتع بها، بل على العكس ظلت راغبة بأن تتعلم وأن تشارك من سبقوها في هذا المجال لتتمكن من مجاراتهم. أحد تلك الأمور التي ظلت تشغلها هو اللغة الأنجليزية، فكما هو معروف من يقطنون في ضيافة مضيف إنجليزي، يتجادل الضيوف معه بلغته وأن اختلفت أعراقهم، فما كان من غوته إلا أن هب لمساعدتها لتعليمها تلك اللغة العصية عليها، كونه يمتلك امتياز التحدث باللغتين الإيطالية المفهومة لدى تلك الفتاة والإنجليزية المرغوبة من قِبل نفس الفتاة. 

مرت الليالي الجميلة وظل غوته معلمًا وفيًا للفتاة الإيطالية، ولكن مرة أخرى وكعادة الحياة ما أن تعلن فتحها بابًا من أجلك تركض مسرعةً لغلق نافذةً أخرى، وصدفة وجد غوته نفسه يستمع لحديث نساء عن فتاة تستعد من أجل زواجها وكيفية الأجراءات المتبعة من قِبلها لهذا الحدث الكبير، وأن الزوج متحمس للغاية وقد أعد الكثير والكثير من الأمور لتلك الليلة المهمة في حياته، إلى أن وجد غوته نفسه متسائلًا عن هوية تلك الفتاة ليتفاجأ بأنها التلميذة المجتهدة والتي تتعلم اللغة الإنجليزية على يديه. 

أصبح غوته بعدها متحاشيًا الحديث المنفرد معها دون قطيعة كبرى بينهما بحيث تصبح أمسياتهم ممتلئة بأُناس من حولهم حتى لا يضفي عليها بعض الحميمة والتي لم تظهر حتى قبل تلك الصدمة ولكن قلبه ظل محدثًا له عن مشاعر عديدة كلها لا تصب في صالح أنها مجرد فتاة عادية، لكن عزاؤه الوحيد أنه لم يقم بإطلاق وعود لتلك الفتاة مؤملًا لها بأماني قد لا يكتب لها الحدوث. 

مرت الأيام وعاد كل منهما لمكان إقامته لتأتي بعدها أعياد الميلاد بكل أجوائها الاحتفالية ليتلقى غوته أخبارًا أقلقت مضجعه، فقد تم تبليغه بأن الفتاة الميلانية أصابتها الحمى لتجعلها ملازمةً الفراش، وحدث ذلك بعد أن تم هجرها من قِبل خطيبها. كان غوته يأمل بشدة أن لا يكون لهذا الموضوع صلة به; فقد مضى على وقت تعارفهم مدة ليست بالبسيطة مما يؤكد عدم ربط الحادثتين مع بعضهما البعض.

تلك القصة المتكاملة الأركان من خوض مغامرة في بلاد غريبة واتخاذ قرارات مصيرية تتعلق بالقلب وفكرة الحب المستحيل تجعل منها رواية ملائمة لفيلم أكثر من كونها قصة حقيقة دونها غوته في مراسلاته لأصدقائه والتي نُشرت في كتاب “رحلة إيطالية”. هذا الأمر يجعلني أعيد رسم أحلام اليقظة مرة أخرى في أمنيتي أن أنتمي لذلك العصر وبقعته الجغرافية، لكن سرعان ما أتراجع عندما أتذكر المشاكل الصحية الكثيرة المتعلقة بالرعاية الطبية السيئة في ذلك العصر، وصعوبة التنقل بسهولة من مكان إلى آخر دون أن اغفل عن المعيق الأساسي الأول وهو أن تلك المغامرات محصورة على فئة قليلة من المجتمع لا تزيد نسبتهم عن الثلاثة بالمئة من مجموع الشعب. فها أنا هنا أطرد تلك الأحلام لأعيش الواقع الصعب لكن المقبول نوعًا ما على حسب معاييري الخاصة.

هدسون، أول من رأى نيويورك

في القرن السادس عشر، كانت السيطرة الكاملة للطرق الجنوبية المؤدية للهند والمشرق لصالح إمبراطوريتين هما الإسبانية والبرتغالية، ومن جانب آخر كان طريق الحرير مغلقًا بالكامل من قِبل الأمبراطورية العثمانية. مع تلك المسببات بدأ ولع الأوروبيين وخصوصًا ممن يقطنون في الجانب الشمالي الغربي بإكتشاف طريق شمالي يصل المحيط الأطلسي بالمحيط الهادي ليتأسس معها  خط تجاري مع الصين. مع تعدد المحاولات لشق الطريق الجديدة بزغ اسم هنري هدسون، وفي أيامنا الحالية مازال لقبه يتداول في قارة أميركا الشمالية في ثلاثة تضاريس مختلفة أولها في النهر المار من الجهة الغربية لجزيرة مانهاتن وثانيها الخليج الشاسع الواقع في الأراضي الكندية والمضيق المؤدي لذلك الخليج هو المعلم الثالث، إلا أن رحلة البحث الأخيرة لهدسون انتهت بالخيانة وتخلي المرافقين له لتنتهي قصته بغموض يلتف حول مصيره.

كانت المحاولة المسجلة الأولى للإبحار من أجل قطع المسافة من خلال قمة العالم المتجمدة من قبِل الإيطالي جون كابوت في العام 1497 وتحت رعاية الملك الإنجليزي هنري السابع. فشلت المحاولة للوصول لقارة آسيا لكن سجل التاريخ لكابوت بأن يكون أول أوربي يطأ القارة الأميركية الشمالية بعد الفايكنج. أتى بعد ذلك المستكشف البرتغالي إيستيفاو غوميز والذي أُرسل في مهمة مشابهة تحت دعم إمبراطور إسبانيا في العام 1524، وصل إلى منطقة نوفا سكوشا قبل أن يضطر للتراجع لصعوبة التأقلم مع الأجواء القارسة. في العام 1530 وفي محاولتين لقطع نهر سانت لورانس، والذي يربط المحيط الأطلسي مع البحيرات العظيمة، لم يستطع الرحالة الفرنسي جاك كارتييه إكمال الرحلة لتعرضه لمنحدرات خطيرة أعاقت تقدمه، أطلق عليها اسم لا شين وكان على قناعة تامة بأنها من وقفت حاجزًا بينه وبين الصين. 

في العام 1551 تم تأسيس شركة التجار المغامرون إلى الأراضي الجديدة (ومسماها الكامل هو شركة التجار المغامرون من أجل اكتشاف المناطق والجزر والأماكن الغير معلومة) من قِبل 240 مغامرًا ساهموا بمبلغ وقدره 24 باوند، وتم إعلان البحث عن مسار شمالي مؤدي لقارة آسيا كأولوية أساسية لها. السير هيو ويلوبي ترأس أولى رحلات الشركة في المسار الشمالي مروراً من فوق روسيا و بمعاونة من مساعده ريتشارد تشانسلر. غادرت الرحلة في مايو من العام 1553، والمكونة من ثلاثة سفن، العاصمة لندن إلى أن هبت عاصفة قوية بعدها بأربعة أشهر في مكان ما شمال النرويج لتتفرق السفن. غادر ويلوبي مع سفنتين ودار حول الرأس الشمالي ليبحر شرقًا من خلال بحر بارنتس إلى أن وصل لأرخبيل نوڤايا زمليا ثم انعطف عائدًا إلى شبه جزيرة كولا ولم تستطع السفن بعدها التحرك بعد أن علقت في الجليد في منطقة تعرف في وقتنا الحاضر بمورمانسك. على الجانب الآخر كان تشانسلر محظوظًا حين أبحر داخل البحر الأبيض لكونه طريقًا غير محفوف بالمخاطر واستقرت السفينة عند مصب نهر دفينا، ثم ارتحل برًا إلى أن وصل لمدينة موسكو والتقى القيصر ايفان الرابع الملقب بايفان الرهيب والذي من خلاله بعث برسالة إلى ملكة إنجلترا ماري الأولى مرحبًا بالتبادل التجاري بين الشعبين. عندما عاد تشانسلر إلى أرض الوطن كان قد تم تغير مسمى شركة التجار المغامرون إلى شركة موسكوفي، في تلك الأثناء ظل ويلوبي وطاقمه يصارعون من أجل البقاء إلى أن هلك أغلبهم أما نتيجة لظروف البرد القارسة أو بالتسمم بغاز أول أكسيد الكربون ونتيجة لذلك عُدت تلك الحادثة الأولى من ناحية الضحايا في سبيل اكتشاف الطريق الجديد المؤدي للصين من جهة الشمال. 

ظل اكتشاف الطريق الشمالي المؤدي لآسيا صعب المنال في القرن السادس عشر بإستثناء ثلاث محاولات من قِبل المستكشف الإنجليزي والقرصان مارتن فروبشير في عقد 1570 (لا أحد منهم ذهب أبعد من جزيرة بافن)، هنالك أيضًا مغامرة فوضوية تمت من خلال شخص يدعى همفري جيلبرت في العقد 1580 أدت لاستعمار انجليزي للأراضي جديدة ولم ينتج عنها فتح الطرق الشمالية. تلت تلك المحاولات ثلاث محاولات فاشلة أخرى في عهد الملكة اليزابيث من خلال المستكشف جون ديفيس والذي التحق لاحقًا مع توماس كافنديش في طواف عالمي لاكتشاف طريق شمالي غربي ينطلق من الشرق وانتهت بالفشل.

ممر سري:

القليل من المعلومات التي عُرفت عن أيام هدسون الأولى لكن من المرجح أنه تدرج من صبي للمقصورة إلى قائد السفينة في بضع سنوات مارس خلالها الملاحة داخل البحر. توجد مخطوطة يذكر فيها البحار هدسون وتعود للعام 1607 مرتبطة بمهمة يُحضر لها من قِبل شركة موسكوفي لأكتشاف طريق في اتجاه الشمال الغربي، وترجو انجلترا أن تتوصل لذلك الطريق قبل أن يتم اكتشافه من قِبل منافسهم اللدود البحارة الهولنديين. تم ترشيح هدسون للشركة بواسطة القس ريتشارد هاكلويت، والذي كان جغرافيًا متميزًا، وقد أكد لهم القس مهارات وخبرة هدسون والتي تؤهله ليقود الحملة بالإضافة لمعلومات اكتسبها قد تكون معينة له في اكتشاف الطريق الجديد. اقتبس هدسون تلك المعلومات السرية من كتيب قديم كُتب منذ أكثر من 80 عام بواسطة تاجر من بريستول قد سمع أخبارًا عديدة من رحلات قديمة لاكتشاف ذلك الطريق من خلال والده والذي قد سافر مع القائد جون كابوت منذ قرن مضى. في الأول من مايو من العام 1607 ومن طاقم مكون من عشرة رجال بما فيهم ابنه جون انطلق هدسون من بلدة جريفسيند على سفينة صغيرة يطلق عليها “هوبويل” والتي سبق لها خوض مغامرة سابقة فيما مضى تحت قيادة القائد جون نايت في العام 1606 كُتب لها الفشل وعدم اكتشاف طريق شمالي يوصل غرب أوروبا بآسيا. أبحر هدسون من خلال جزر شتلاند وبعد مرور ستة أسابيع وصل لجرينلاند، ظل هدسون ملازما للساحل الشرقي للجزيرة لمدة أسبوع قبل أن يتجه شرقًا داخل عاصفة ضبابية في بحر جرينلاند، بعد مضي خمسة أيام تم رؤية جزيرة سبيتسبرغن والتي تم اكتشافها من قبل الهولنديين في العام 1596 وستصبح فيما بعد مكان مميزًا لصائدي الحيتان و حيوان الفقمة. عند حلول منتصف يوليو بلغت سفينة “هوبويل” أرض نورأوستلانده وتعتبر ثاني أكبر جزيرة في أرخبيل سفالبارد وتوجد في أقصى الشمال. قطع الجليد الضخمة جعلت من التقدم أمرًا مستحيلاً مجبرةً هدسون على العودة إلى أرض الوطن، وبعد اتخاذ ذلك القرار تم وصول سفينة “هوبويل” إلى بلدة تيلبري في إنجلترا في الخامس عشر من شهر سبتمبر.

تراجع قسري:

بعد مرور سبعة أشهر، ارتحل هدسون مع طاقم بحارة السفينة “هوبويل” والتي تضم زميله روبرت جوه في مهمة اكتشاف ثانية وبتمويل من ذات الشركة موسكوفي أملاً في العثور على الطريق المستهدف هذه المرة، المسار المقترح كان الشمال الشرقي إلى الأعلى من روسيا. اخترقت السفينة “هوبويل” الدائرة القطبية بعد قطعها مسافة 2500 ميل ووصلت بعيدًا إلى نوفايا زمليا، الطريق حول بحر كارا كان مسدودًا بواسطة كومة ضخمة من الجليد، التقارير كانت تشير عن عزم هدسون الأتجاه غربًا لكن مع ازدياد حالات العصيان والتمرد بين طاقم البحارة اضطر للتراجع إلى انجلترا. في العام 1609 تخلى الإنجليز عن دعمهم لهدسون ليتجه لشركة الهند الشرقية الهولندية لتجهز له سفينة سميت “هاف مون” وتكون مهمتها البحث عن ممر شمالي لصالح الهولنديين، ومع طاقم بحارة مختلط من إنجليز و هولنديين ستنطلق الرحلة الأستكشافية مرة أخرى في الاتجاه الشرقي وإلى الأعلى من روسيا. غادرت السفينة ميناء أمستردام في شهر أبريل وفورًا شعر هدسون بعدم نجاح المهمة نتيجةً للبحار المتجمدة وكان قد سمع أقاويل تتحدث عن مسار غربي من خلال قارة أميركا الشمالية وأبحر من خلال المحيط الأطلسي ليصل نيوفاوندلاند في بداية شهر يوليو. رست السفن في بلدة لاهاف في منطقة نوفا سكوشا من أجل الإصلاحات والتزود بالإمدادات الغذائية. الرحلة الأستكشافية ظلت لعشرة أيام وفي تلك الأوقات داهم البحارة قرية يقطنها السكان الأصليون ليلحقوا بأهلها الدمار ثم أبحروا بعد ذلك باتجاه الجنوب حتى بداية شهر أغسطس ليبلغوا “كيب كود”. استمروا في الإبحار جنوبًا داخل المياه المفتوحة قبل أن تعطف السفينة في اتجاه الغرب بالغين بذلك خليج تشيزبيك وبالقرب من المستعمرة الإنجليزية جيمس تاون، والمعروفة بكونها أول مستعمرة انجليزية في أميركا. ومن دون أن يعلم هدسون عن المجاعة الموجود في مستعمرة جون سميث أكمل طريقه شمالاً بمحاذاة الساحل حتى تمكن من الوصول إلى ساندي هوك في أول أيام شهر سبتمبر عابرًا ما يعرف اليوم بخليج نيويورك. في الحادي عشر من سبتمبر من العام 1609 وبعد أن دخل هدسون الخليج العلوي ظل بعدها عدة أسابيع محاولاً اكتشاف المنطقة والممرات المائية التي تصب في الخليج وأطلق عليه مسمى نهر الجبال، لكن كلنا على علم بأنه اتخذ هدسون مسمى له فيما بعد، وقد ظن بأنه على بعد أميال بسيطة من اكتشاف المسار الكبير والذي يمكن أن يصل للمحيط الهادئ فبالتالي تتم الرحلة إلى الوجهة النهائية آسيا خصوصًا مع اتساع النهر بشكل كبير عند منطقة تابان زي لكن كل الآمال تبددت عندما انتهى بهم الحال في ألباني وكان من الواضح أن لا وجود لمسار في القادم من الأميال.

معارف جديدة:

استمرت المواجهات بين شعب جونكوين (السكان الأصليون) والأوربيين  أسابيع عدة نتج عن إحداها إصابة عضو من أعضاء طاقم البحارة جون كولمان في عنقة بواسطة سهم أطلق من قِبلهم وبناءً على هذا تم إعتقال العديد من السكان الأصليون، لكن الصورة لم تكن قاتمة دائمًا فيما بين الشعبيين قفد تمت بعض أنواع التبادل التجاري فيما بينهم حتى أن هدسون بنفسه قد قبل دعوات عشاء عديدة وضعت له من خلال زعماء القبائل. أُعلنت المنطقة الجديدة تابعةً للهولنديين وتم أمر ببناء مدينة نيو أمستردام على جزيرة مانهاتن (عُرفت لاحقًا بنيويورك) وأصبحت هذه المدينة بعد خمسة عشر عامًا عاصمة للمستعمرة الهولندية في الأراضي الجديدة. أبحرت سفينة هاف مون في رحلة عودتها لكن بدلاً من الذهاب للوجهة المتوقعة إلى أمستردام توقفت في دارتموث. هناك بعض التكهنات التي تعتقد بأن هدسون كان يعبث مع الهولنديين وأن الرحلة ما هي إلا حيلة منه للاستيلاء على خرائطهم وقد ذهب عن عمد جنوبًا خلال الرحلة الأستكشافية، وكدليل على صحة هذه الادعاءات كان الأنجليزي غاضبًا و نتج عنه احتجاز قائد المركبة وأسره من أجل الاستيلاء على مخطوطاته.

متاهة لا نهاية لها:

سرعان ما غُفر لهدسون حول احتمالية كونه يعمل بازدواجية أثناء خدمته للهولنديين وتم التعاقد معه من قِبل تجار بلده (تعاون بين شركتي الهند الشرقية البريطانية وموسكوفي) لرحلته الأستكشافية القادمة. هذه المرة مع طاقم أكبر ضم فيها أحد أهم صانعي المشاكل بين البحارة والحديث هنا عن هنري جرين، غادر هدسون ميناء لندن في شهر أبريل على متن سفينة ديسكفري، تم الإبحار من خلال جزر الفارو و إيسلندا قبل التوجه غربًا إلى الحافة الجنوبية من جرينلاند عبر من خلالها بحر لابرادور لتقطع السفينة بعدها مضيقًا كان هدسون قد أسماه  “فيريوس اوفرفلو” ويقع بين نيوفاوندلاند و جزيرة بافن. حدثت ظروف خطيرة في خليج أونغافا جعلت السفينة عالقة هناك لعدة أسابيع. تم جرف السفينة بعيدًا بناءً على محاولة أخرى منها لعبور مضيق “فيريوس اوفرفلو” إلى داخل خليج شاسع (عُرف فيما بعد بإسم خليج هدسون) ظن طاقم السفينة بعد رؤيته بأنهم توصلوا أخيرًا للمسار الذي سيؤدي بهم للوجهة النهائية وهو الوصول لقارة آسيا بطريقٍ شمالي. بعد مضي أشهر في محاولة الوصول للمحيط دب اليأس داخل الطاقم وقد كتب أحدهم في عبارة تصف حالهم “متاهة من دون نهاية” أعاق الجليد مسيرة السفينة ليضطروا بعدها قضاء الأجواء القاسية  في خليج جيمس. أدت تلك الأحوال إلى أن يعلن جوه العصيان على القائد ومع بداية تدهور أعضاء الطاقم ومصارعتهم مع الجوع أصبح تكوين مؤيدين له ليس بالصعوبة البالغة. عندما بدأ الجليد في الذوبان محررًا السفينة ديسكفري في ربيع العام ١٦١١ ظل هدسون متمسكًا بإكمال الرحلة مما ولد غضبًا لدى البحارة، وبعد وصولهم لحافة الانهيار الجسدي تحديدًا في شهر يونيو وبتخطيط من جوه وجرين قرر الجميع إرسال هدسون وأبنه الصغير جون مع سبعة من رجاله المخلصين أو من أصبح جسده غير قادر على الاحتمال لمواصلة رحلة العودة للوطن في قارب مفتوح مع بعض الأدوات والأطعمة اللازمة تاركين القارب يطفو في خليج جيمس ولم يبقى لهم أثر بعد ذلك اليوم تاركين نهاية المستكشف هدسون مجهولة.


*هذه المقالة نشرت في مجلة BBC History Magazine في عدد خاص عن المستكشفين

*خريطة تفاعلية توضح رحلات هدسون الأربعة