جنتلمان في ورشة عمل

حُكم علي بالإقامة الجبرية ليس من أجل قتل غير متعمد كنت قد ارتكبته، ولكن لكوني ولدت أرستقراطيًا، قبل قيام الثورة في بلدي كانت الألقاب تصطف قبل ذكر اسمي بعدها أصبحت أنادى بأقل أحرف من الممكن أن تقود الشخص إلى اسمي الأول، لا يهم من أنا و ابن من كل ما يهم هو ذلك الأسم والذي نادرًا ما كنت استمع إليه في سنواتي عيشي الأولى. أغلب من أعرفهم كانوا قد تسللوا إلى خارج البلد إلا أنا كنت قد قررت العودة إلى الوطن لمحاولة انقاذ بعض الممتلكات لأجد نفسي و قد أصبحت من ممتلكات أشخاص آخرين يقررون مصيري. لعل حظي كان سعيدًا إلى حد ما كوني لم أرسل إلى مشنقة الإعدام فمحكمة الوطن والشعب كانت قد قررت أن ترسلني للإقامة الجبرية داخل فندق المتروبول، طبعًا ليس داخل أروقة أجنحتها الفاخرة بل في العلية في غرفة مساحتها تسعة أمتار مربعة، كانت بالنسبة لي رغم صغرها العالم بأكمله. 

الحياة داخل الفندق لم تكن مملة بل على العكس قد شَغلتُ أوقات فراغي بالعمل داخل المطعم كنادل وأصبحت الأب الروحي لأبنة اعتز بمنادتها لي “بابا”، وصديق الدراسة كان يزورني بين الحين والآخر ليطلعني على أحوال البلاد في الخارج أو لعلي كنت أستشف من هيئته ومزاجه الوضع العام للوطن وللأسف لم تكن التكهنات مبشرة. أصبح لي مجلس رئاسي داخل أروقة المطبخ مع مساعدي الشيف والخادم المسؤول عن الحجوزات  كنا نقرر مصير ضيوف المطعم واللذين دائماً ما يصادف أن يكونوا أحد أكبر رجالات البلد فهذا المبنى القديم المنتمي للعهد الأرستقراطي وجد له مكانًا داخل دولة البلاشفة رغم الاختلافات الجذرية كليًا فيما بينهما، لكن تلك هي غرابة الحياة تندد بشيء وتنهى عنه ثم تجد نفسك متتبعًا تلك الخطوات القديمة والتي سبق لك انكارها. 

لن أكذب مرت علي لحظات عديدة كرهت فيها ذلك المكان وشعرت بأنه يخنقني رغم وجود المشتتات والتي من الممكن أن تنقذني، قد حاولت الهرب من الحياة مرة ولكن شاء القدر بأن لن تحدث. عمري نصفه قضيته في الخارج ونصفه الآخر قضيته داخل المتروبول، حدثني صديقي ميشكا ذات مرة وفي عينيه غبطةً للحياة التي أعيشها هنا قائلًا “”من كان يتخيل عندما حُكم عليك بالإقامة الجبرية مدى الحياة في المتروبول قبل كل تلك السنين، أنك قد أصبحت أكثر رجل محظوظ في عموم روسيا”، كان جدار الفندق وأن بدأ بكونه مانعًا لي من رؤية الحياة في الخارج أصبح على غير العادة حاجزًا حاميًا لي من كل تلك التحولات الجذرية في البشر والأبنية. أصبح كل شيء غريبًا لا ينتمي لما كانت عليه الحال في أيام حريتي.


يمكن اعتبار “جنتلمان في موسكو” رواية كلاسيكية بروح عصرية، لأواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين مع كل التحولات الموجودة في ذلك الوقت على عموم أوروبا مع التركيز على بلد الراوي للقصة روسيا. تشعر أن كاتب الرواية وهو أميركي كان متأثرًا بشكل كبير بأدباء روسيا فتقمص منهم القصص والأحداث وانتقاء الكلمات. هي رواية طويلة ستجعلك تنغمس جدًا في شخصياتها، فكل شخصية رُسمت بطريقة تفصيلية رائعة لتتداخل مع بطل قصتنا بطرق لا يمكنك تصورها مضيفةً أحداث مشوقة لرواية من المفترض أن تتخذ من مكان واحد مركزًا لأحداثها. ستثير تلك الأسطر الفضول بداخلك وتطرح تساؤلات عديدة عن الحياة وحتمية الخيارات وماذا لو فعلت كذا ولم أفعل كذا، التفاؤل المغلف بتقبل سوء الأقدار التي وُضعت أمام بطلنا. قصته لن تكون مختلفة عن أي شخص في هذا العالم في أي بقعة جغرافية وزمنية ينتمي إليها كلهم يشتركون مع الكونت روستوف تأمل الحياة ومحاولة تجاوز العقبات الواحدة تلو الأخرى.

أراد الكاتب أن يسلط الضوء على تلك الطبقة الأرستقراطية والتي تم إزاحتها بفعل الثورات على امتداد قارة أوروبا، يمكن اعتبارها وجهة نظر مختلفة ورؤية للجانب الآخر لأولئك الأشخاص المنتمين للطبقة، مثلًا طريقة تعاملهم مع الآخرين، وطريقة تثقيفهم لأنفسهم بجمع أكبر قدر من المعلومات الثقافية من هنا وهناك وتجنب افتعال أمور سيئة والابتعاد عنها قدر الأمكان. وكأن الكاتب أراد إيصال فكرة أنهم ليسوا مجرد جامعي أموال معزولون عن بقية البشر (والذي يمكن القول أنه صحيح نوعًا ما)، بل توجد بهم صفات تستحق أن يشاد بها قد نفتقدها في عصرنا الحالي. كل تلك الأمور تتجلى وتتضح في شخصية ألكسندر روستوف.

 

يوم السبت الماضي شاركت في ورشة عمل بسيطة تم الإعلان عنها في تطبيق meet up، تتحدث الورشة عن ليلة تنكرية أدبية، على الراغب في المشاركة أن يتقمص شخصية من أحد الروايات، ويفضل لو كانت كلاسيكية ومشهورة، ويخبر بقية الحاضرين عن تلك الشخصية من خلال نص يتم كتابته من قِبل الكاتب نفسه وله كامل الحرية في اختيار الأسلوب. عند قرائتي للأعلان كنت للتو قد انتهيت من قراءة الرواية وما زلت تحت تأثيرها فأحسست برغبة الحديث عن الكونت روستوف، رغم أن الرواية حديثة فلم يتجاوز عمرها ثلاثة أعوام والترجمة العربية صدرت العام الماضي، لكن تلك الحماسة التي كانت تغمرني لم تمنعني من الكتابة عنها والحديث مع أشخاص غرباء كليًا عنها. فخرج النص الظاهر في أعلى المدونة وكما توقعت لم يستطع أحد التنبؤ بشخصيتي الروائية لكن تلمست حماسة الكل لأقتناء الرواية وقرائتها.


“لكن عندما تنفي رجلًا داخل بلده، فلا وجود لبداية جديدة. فبالنسبة للمنفيَ داخل وطنه، لن يُصبح حب الوطن أمرًا غامضًا أو مكفنًا بضباب الزمن. في الحقيقة، ولأن جِنسنا قد تطور على نحو جعلنا نولي أكبر اهتمامنا للأشياء التي تقع بعيدًا عن متناول أيدينا، فإن هؤلاء الرجال، على الأغلب، سيظلون التفكير في مباهج موسكو أكثر من أي موسكوفي لديه حرية التمتع به”

-ألكسندر روستوف