اِنْصِبَاب الحياة:
تغتبط النحلة وتُهلل انشراحًا بارتفاع درجات الحرارة لتتحول معها إلى كائن مقدام يشق الطريق في مهمة جمع الرحيق. مئات الرحلات المقطوعة ذهابًا وإيابًا صوب الزهور والعودة إلى مستعمرة النحل. تلك المهمة تكلفها الكثير، فمعدل المسافة المقطوعة في الفترة الزمنية القصيرة تصيبها بالإعياء الشديد لتهلك في غضون أربعة أيام أو خمس. لعلها ضريبة الإقدام على الحياة بعد الضمور.
من يكتب مذكراتي:
“ما يخصّ المسرّات الصغيرة: أعتقد أن هذا الدفتر ينوس بين الثرثرة النسوية التي أكره والسخرية المحيّرة التي أتجنّب. “
- سيلفيا بلاث
مُؤخّرًا تراودني أفكار عن ما حصل لي من أحداث يومية وهل من طريقة لرصدها وتوثيقها.تتعدد الطرق والسبل نحو تأطير تلك الأحداث والاحتفاظ بسماتها كاملة دون اقتصاص، وإن بدا أمرًا صعبًا، فأحداثنا ما هي إلا قُصاصات مبعثرة تم تجميعها بعناية. يوجد هناللك صور ملتقطة بشكل عشوائي في الجوال على فترات متقاربة وبعض الكلام المبهم والمتلحف بالكثير والكثير من البطانيات في دفاتر مبعثرة داخل غرفتي، دون أن أنسى تواجد فارق زمني ليس بالهين يفصل إحداها عن الأخرى، مما قد يتطلب تدخل رجل شرطة يفوق المحقق رتبة ولا يقل دهاءً عن “شريف” يتجول داخل بلدات لويزيانا وشرق تكساس لفك شفراتها. وأن تم تفكيك أواصر تلك الشفرة فهل هي فعلًا تشيء عن ماهيتي، أما أنها مجرد تهيؤات وأوهام اضطررت لحشرها داخل تلك الأوراق لأصنع منها حدثًا متكاملاً يصعب إيجاد دلائل على وقوعه. أمر آخر قد يساهم في تكوين صورة لا بأس بها عن كينونتي كما يقولون، رغم كرهي لهذا المصطلح، يرقد في جهاز اللابتوب العديد والعديد من النصوص المبعثرة والغير مكتملة لقصص متخيلة و مولودة من رحم أحداث واقعية. لم ترتقي لتصبح قصصًا صالحة للنشر ألا أنها قد تُفكك أمورًا مبطنة لأحداث لم أتفوه بها، قد تحتاج مرة أخرى لمعاونة ذلك الرجل الجوال في بلدات لويزيانا وشرق تكساس ليوضح لك ما وراء السطور، ولعلي سأقوم بمهمة إرسال تلك النصوص له حتى أتمكن من فهم ذاتي.
غرف المستشفى:
“فحاجتُك إلى الطبيبِ والشاعر ِ سواءً بسواء،
فكلاهما يمنحُ الدواء لكلِّ ما فيكِ من داء. “
لعل ما من شيء يبث في النفس الحنّق ويدعو صنوف الكآبة واكتظاظ الوقت كما تفعل غرف المستشفيات. نافذتها الضخمة والمطلة على المدينة على علو يسمح لك بتتبع كافة مساراتها ودهاليز قيعانها. فليس بالأمر الصعب أن تَقْتَصِّي أثر سيارة وهي تخوض رحلتها الكاملة من وإلى نقطة الوصول. بيد أنه لا متعة مرجوة للتعمق أكثر في المنظر المصاحب كما هو الحال مع نافذة أخرى في مطعم أنيق رفقةً من تحب والتي تعد العنوان الرئيس والساحب للموضوعات المرغوب بها والتي من شأنها ملء دقائق وساعات تواجدكم معًا.
داخل تلك الغرفة تبدو ألوان الحيطان، وأن جلبت أسعدها، هزيلة شاحبة. صوت خلفي لا يتغير والقادم من شاشة التلفاز المثبتة على قناة القرآن الكريم بغية تسريع عملية الشفاء. دلال القهوة والشاي وشتى أنواع الأعشاب المستساغ منها وغير المستساغ، والمرتصة بشكل منظم أشبه بفيلق عسكري ينوي المغادرة صوب أرض المعركة، ( معدات الحضور باستثناء المريض). اللوحة المثبتة والمعنية بمعلومات المريض، والطبيب المسؤول عنه والممرض المكلف به خلال فترات التناوب بينه وبين زملائه.
بطل ذلك المشهد، المريض نفسه، غارق في هواجسه الداخلية والتي لن يبوح بها لأحد حتى وإن كان على حساب حياته. تتأمل وجهه الشاحب والغارق في أحزانه، تسمعه يصرخ رغبةً منك في إنقاذه بيد أن الصوت لا يُسمع. يُهيأ لك بأنه وهم صنعته بنفسك حتى تبدد لحظات الصمت المربكة. تتعوذ من الشيطان وتطرد تلك الأفكار بعيدًا بطنينها وصفارات إنذارها لتقنع نفسك بعدم صحتها فالطبيب قال في الزيارة الأخيرة إن الأمور مبشرة وسيحاول أن يعجل في خروج المريض بأسرع وقت.
مصعد المستشفى:
أمر آخر لا يقل شحوب عن غرفة المستشفى، مصعد المستشفى. المصعد في المجمل مكان مربك لا يرتدي هوية ثابتة، تحدث فيه العديد من مساوئ الفهم والحملقة في الآخر. دون الإغفال عن مراجعة القواعد كافة عند الدخول والخروج منه، دون تطبيق أي منها. مكان مكتظ بزوار ينوون مقابلة المريض أو للتو خرجوا من مقابلة المريض. يهبط المصعد مغادرًا الطوابق واحدًا تلو الآخر، القادمون من الطابق السابع يتكبدون عناء الوقوف عند كل طابق تقريبًا مراقبي اختلاف هيئات الزوار المتسمرين عند باب المصعد. الطابق المختص بأمراض القلب وتشعباتها؛ ينتاب رواده قلق وخوف كون المصاب بلغ أعلى درجات المرض، فالأعضاء داخل الجسد ليست سواء وأن تضافرت معًا في مهمة إبقاء الجسد معافى، بيد أن القلب يظفر بالنصيب الوافر من المحافظة على سلامة عائله، فما عساه يكون فاعلًا أن أصابه عطب ما. الباطنية، البعض مطمئن فهنالك تنطوي عمليات بسيطة يحتاج فيها المريض ليومين كحد أقصى ليعود بعدها لحياته المعتادة وتنتظم معها جداول من هم حوله ومن رغبوا في المكوث رفقته حتى لا يصاب بالوحشة في تلك الغرف الكدرة. وقلة قليلة منهم تنتابهم الهواجس عن مدى عافية المُزار. الطابق التالي أشبه بعرس مصغر لكثرة ما يلج فيه من بالونات وهدايا تتزين باللونين أما الأزرق أو الوردي. الأطفال، وهم من نظن أن المستشفى مكان غير ملائم لهم إلا عند الحاجة، تجدهم في هذا الطابق يتوافدون بكثرة فضولًا في رؤية القادم الجديد وخشيةً من أن يسلبهم صُرّة الاهتمام. هدوء وسكون يسود الطابق المخصص بالعناية الفائقة لا حياة تدب فيه حتى أن المصعد يُعجِّل الرّحِيل عِنْد المرور به كأنّهُ استشعر رغبة قاطِنيه في مغادرة الحياة بسلام.
المنزل العجوز:
“البيت كان منظارَ طفولة
البيت كان جلدَ إثارةٍ “
- زبيغنيف هربرت
تكررت على فترات متقاربة قطع لضخ المياه داخل المنزل. ومعها أصبحت زيارات (وايتات) الماء شبه يومية، ولم أعد استغربها. قدِم العمال والمهندسين في أيام متفرقة، وفي كل زيارة تزداد رُتب أولئك المتفحصين في دليل دامغ عن صعوبة استقصاء المشكلة. تشاوروا فيما بينهم واتخذوا قرارات خاطئة لم تنفع في حل المعضلة إلا أنهم في آخر الأمر أقروا تفريغ الخزان وإضافة مادة عازلة لنعيش في المنزل دون أية إمدادات مائية ليومين متتالين. الغريب أنهم ذكروا وجود مستعمرات لا تحصى من النمل الأبيض، أعداد هائلة لسكان كنا غافلين عنهم اقتاتوا على المياه المسربة من الأنابيب. نعم الأنابيب كانت المشكلة أبسط مما تخيلنا. تفحصت الأمر كثيرًا وتعمقت في سبب توافد تلك الحشود واستيطانها لمدة ليست بالبسيطة داخل المنزل،ومتى كان توطينها الأول والمحفز لعملية البقاء دون المغادرة. حقيقة واحدة لا جدال فيها أن المنزل قد بلغ عمرًا أبتعد فيه عن منطقة الحداثة. كيف لا وهو يحتفظ بصورتي أخرج مِنْهُ مُرْتَدِيَةً مريول المدرسة. وَوَدَّع في حُزْن مكبوت أشخاص عدُوّا من سُكانه. إن تأملته من الخارج استشف من ملامحه بهتانًا يتعلق بمرور الزمن لم يعد كما كان في السابق ينبض بالحياة، وهو أمر يصيب العديد من الممتلكات، ليس مختصًا به وحده، ألا أنه من المؤلم أن تكون الشاهد على هذا الأمر تَرَقُّب في سكون دون قدرة على المقاومة.
مؤخّرًا:
“ومن انفرد فكَّر وتوهَّم واستوحش وتخيَّل، فرأى ما لا يُرى وسمع ما لا يُسمع».
- ابن قتيبة
إلتهمت في الأيام الماضية، وما زلت، يوميات سيلفيا بلاث. كتاب ضخم يحوي العديد من مخطوطات كتبتها سيلفيا تدوينًا لأحداث يومية أو محاولات فاشلة لقطع نثرية لم ترغب في نشرها. كنت متهيبة في البدء من قراءة الكتاب، فلا يسعني إخفاء أن مصير سيلفيا بلاث واتخاذها قرار الانتحار في عمر صغيرة تجعلني أصد عن قراءة مذكراتها، فمن الصعب أن تقرأ أقاويل شخص وأنت تعلم النهاية المأساوية لتلك الأحاديث. غير أن الأمر بزغ مختلفًا، وأحب دومًا هذا النوع من التحولات، في كلمات صادقة أصيلة تفيض أحاسيس لم ترغب سيلفيا في كبتها أبدًا، ونطقت بأمور قلما تصدح بها النساء. نعم النساء لأننا كائنات مجبولة على حبس الكثير من الكلمات خشية الفهم الخطأ وعلى الرغم من هذا نُفهم خطأ، لأن مهارتنا في التعبير هي في إخفاء التعبير. لا تأبه هنا سيلفيا بأن كانت كلماتها تفيض غيرة من إحداهن، والله يعلم كمْ تتعدد الأسباب المؤدية لذلك الشعور يوميًا لدى النساء، أو تتمعن في امتداح رجل حاز على إعجابها أو الكيل في شتمه دون أن تخشى من إطلاق أحكام عليها، ” ليس فيها حياء، ولا حِيَل الفتيات القديمة”. ثم استدركت أن سيلفيا كانت تكتب تلك الملاحظات لنفسها ومن هنا أتت الجرأة، خيبة صغيرة، ربما. هذا الأمر جعلني أتساءل عن قراءاتي لكتب كُتبت بواسطة نساء، وهل يختلف تأثيرها علي كما لو كانت قد كُتبت بواسطة رجال؟. لم أعر اهتماما كبيرًا بهوية الكاتب من قبل جل ما أقدره هي الكلمات المكتوبة إلا أن عبارات وتدوينات سيلفيا لمست أشياء كثيرة بداخلي وأضمن أنها ستتعدى غيري. وجدت ايضًا داخل صفحات الكتاب كاتبة تشكك في نتاجها ساعات وتفخر في أخرى بعظمة ما تكتبه، تلك التحولات السريعة بين يوم وآخر وعام بعد عام ليس بالأمر الجلل فحياة الإنسان سلسلة لا متناهية من متغيرات داخلية رفقة الخارجية والمتعلقة بمن هم حوله، فلا أحد يرغب بأن يتحول لمياه راكدة لا حراك فيها. أعود إلى سيلفيا، والفضل كله يعود لها في حيازة التدوين على القطعة الكبرى من كعكة الكتابة لدي في الفترة الماضية ، والعديد من المزايا تلمستها، فلا صوت ناقد على جودة ما أكتب حيث أرقد في ساحة واسعة للتفريغ بالكتابة. أما عن القادم في قراءاتي سأركز أكثر في الكتابات النسائية. جوان ديديون هي المرشحة تتبعها حتمًا إيمان مرسال.