فبراير – مايو

اِنْصِبَاب الحياة:

تغتبط النحلة وتُهلل انشراحًا بارتفاع درجات الحرارة لتتحول معها إلى كائن مقدام يشق الطريق في مهمة جمع الرحيق. مئات الرحلات المقطوعة ذهابًا وإيابًا صوب الزهور والعودة إلى مستعمرة النحل. تلك المهمة تكلفها الكثير، فمعدل المسافة المقطوعة في الفترة الزمنية القصيرة تصيبها بالإعياء الشديد لتهلك في غضون أربعة أيام أو خمس. لعلها ضريبة الإقدام على الحياة بعد الضمور.

من يكتب مذكراتي:

“ما يخصّ المسرّات الصغيرة: أعتقد أن هذا الدفتر ينوس بين الثرثرة النسوية التي أكره والسخرية المحيّرة التي أتجنّب. “

  • سيلفيا بلاث

مُؤخّرًا تراودني أفكار عن ما حصل لي من أحداث يومية وهل من طريقة لرصدها وتوثيقها.تتعدد الطرق والسبل نحو تأطير تلك الأحداث والاحتفاظ بسماتها كاملة دون اقتصاص، وإن بدا أمرًا صعبًا، فأحداثنا ما هي إلا قُصاصات مبعثرة تم تجميعها بعناية. يوجد هناللك صور ملتقطة بشكل عشوائي في الجوال على فترات متقاربة وبعض الكلام المبهم والمتلحف بالكثير والكثير من البطانيات في دفاتر مبعثرة داخل غرفتي، دون أن أنسى تواجد فارق زمني ليس بالهين يفصل إحداها عن الأخرى، مما قد يتطلب تدخل رجل شرطة يفوق المحقق رتبة ولا يقل دهاءً عن “شريف” يتجول داخل بلدات لويزيانا وشرق تكساس لفك شفراتها. وأن تم تفكيك أواصر تلك الشفرة فهل هي فعلًا تشيء عن ماهيتي، أما أنها مجرد تهيؤات وأوهام اضطررت لحشرها داخل تلك الأوراق لأصنع منها حدثًا متكاملاً يصعب إيجاد دلائل على وقوعه. أمر آخر قد يساهم في تكوين صورة لا بأس بها عن كينونتي كما يقولون، رغم كرهي لهذا المصطلح، يرقد في جهاز اللابتوب العديد والعديد من النصوص المبعثرة والغير مكتملة لقصص متخيلة و مولودة من رحم أحداث واقعية. لم ترتقي لتصبح قصصًا صالحة للنشر ألا أنها قد تُفكك أمورًا مبطنة لأحداث لم أتفوه بها، قد تحتاج مرة أخرى لمعاونة ذلك الرجل الجوال في بلدات لويزيانا وشرق تكساس ليوضح لك ما وراء السطور، ولعلي سأقوم بمهمة إرسال تلك النصوص له حتى أتمكن من فهم ذاتي.

غرف المستشفى:

“فحاجتُك إلى الطبيبِ والشاعر ِ سواءً بسواء،

فكلاهما يمنحُ الدواء لكلِّ ما فيكِ من داء. “

لعل ما من شيء يبث في النفس الحنّق ويدعو صنوف الكآبة واكتظاظ الوقت كما تفعل غرف المستشفيات. نافذتها الضخمة والمطلة على المدينة على علو يسمح لك بتتبع كافة مساراتها ودهاليز قيعانها. فليس بالأمر الصعب أن تَقْتَصِّي أثر سيارة وهي تخوض رحلتها الكاملة من وإلى نقطة الوصول. بيد أنه لا متعة مرجوة للتعمق أكثر في المنظر المصاحب كما هو الحال مع نافذة أخرى في مطعم أنيق رفقةً من تحب والتي تعد العنوان الرئيس والساحب للموضوعات المرغوب بها والتي من شأنها ملء دقائق وساعات تواجدكم معًا.

داخل تلك الغرفة تبدو ألوان الحيطان، وأن جلبت أسعدها، هزيلة شاحبة. صوت خلفي لا يتغير والقادم من شاشة التلفاز المثبتة على قناة القرآن الكريم بغية تسريع عملية الشفاء. دلال القهوة والشاي وشتى أنواع الأعشاب المستساغ منها وغير المستساغ، والمرتصة بشكل منظم أشبه بفيلق عسكري ينوي المغادرة صوب أرض المعركة، ( معدات الحضور باستثناء المريض). اللوحة المثبتة والمعنية بمعلومات المريض، والطبيب المسؤول عنه والممرض المكلف به خلال فترات التناوب بينه وبين زملائه. 

بطل ذلك المشهد، المريض نفسه، غارق في هواجسه الداخلية والتي لن يبوح بها لأحد حتى وإن كان على حساب حياته. تتأمل وجهه الشاحب والغارق في أحزانه، تسمعه يصرخ رغبةً منك في إنقاذه بيد أن الصوت لا يُسمع. يُهيأ لك بأنه وهم صنعته بنفسك حتى تبدد لحظات الصمت المربكة. تتعوذ من الشيطان وتطرد تلك الأفكار بعيدًا بطنينها وصفارات إنذارها لتقنع نفسك بعدم صحتها فالطبيب قال في الزيارة الأخيرة إن الأمور مبشرة وسيحاول أن يعجل في خروج المريض بأسرع وقت.

مصعد المستشفى: 

أمر آخر  لا يقل شحوب عن غرفة المستشفى، مصعد المستشفى. المصعد في المجمل مكان مربك لا يرتدي هوية ثابتة، تحدث فيه العديد من مساوئ الفهم والحملقة في الآخر. دون الإغفال عن مراجعة القواعد كافة عند الدخول والخروج منه، دون تطبيق أي منها. مكان مكتظ بزوار ينوون مقابلة المريض أو للتو خرجوا من مقابلة المريض. يهبط المصعد مغادرًا الطوابق واحدًا تلو الآخر، القادمون من الطابق السابع يتكبدون عناء الوقوف عند كل طابق تقريبًا مراقبي اختلاف هيئات الزوار المتسمرين عند باب المصعد. الطابق المختص بأمراض القلب وتشعباتها؛ ينتاب رواده قلق وخوف كون المصاب بلغ أعلى درجات المرض، فالأعضاء داخل الجسد ليست سواء وأن تضافرت معًا في مهمة إبقاء الجسد معافى، بيد أن القلب يظفر بالنصيب الوافر من المحافظة على سلامة عائله، فما عساه يكون فاعلًا أن أصابه عطب ما. الباطنية، البعض مطمئن فهنالك تنطوي عمليات بسيطة يحتاج فيها المريض ليومين كحد أقصى ليعود بعدها لحياته المعتادة وتنتظم معها جداول من هم حوله ومن رغبوا في المكوث رفقته حتى لا يصاب بالوحشة في تلك الغرف الكدرة. وقلة قليلة منهم تنتابهم الهواجس عن مدى عافية المُزار. الطابق التالي أشبه بعرس مصغر لكثرة ما يلج فيه من بالونات وهدايا تتزين باللونين أما الأزرق أو الوردي. الأطفال، وهم من نظن أن المستشفى مكان غير ملائم لهم إلا عند الحاجة، تجدهم في هذا الطابق يتوافدون بكثرة فضولًا في رؤية القادم الجديد وخشيةً من أن يسلبهم صُرّة الاهتمام. هدوء وسكون يسود الطابق المخصص بالعناية الفائقة لا حياة تدب فيه حتى أن المصعد يُعجِّل الرّحِيل عِنْد المرور به كأنّهُ استشعر رغبة قاطِنيه في مغادرة الحياة بسلام.

المنزل العجوز:

“⁠‫البيت كان منظارَ طفولة

⁠‫البيت كان جلدَ إثارةٍ “

  • زبيغنيف هربرت

تكررت على فترات متقاربة قطع لضخ المياه داخل المنزل. ومعها أصبحت زيارات (وايتات) الماء شبه يومية، ولم أعد استغربها. قدِم العمال والمهندسين في أيام متفرقة، وفي كل زيارة تزداد رُتب أولئك المتفحصين في دليل دامغ عن صعوبة استقصاء المشكلة. تشاوروا فيما بينهم واتخذوا قرارات خاطئة لم تنفع في حل المعضلة إلا أنهم في آخر الأمر أقروا تفريغ الخزان وإضافة مادة عازلة لنعيش في المنزل دون أية إمدادات مائية ليومين متتالين. الغريب أنهم ذكروا وجود مستعمرات لا تحصى من النمل الأبيض، أعداد هائلة لسكان كنا غافلين عنهم اقتاتوا على المياه المسربة من الأنابيب. نعم الأنابيب كانت المشكلة أبسط مما تخيلنا. تفحصت الأمر كثيرًا وتعمقت في سبب توافد تلك الحشود واستيطانها لمدة ليست بالبسيطة داخل المنزل،ومتى كان توطينها الأول والمحفز لعملية البقاء دون المغادرة.  حقيقة واحدة لا جدال فيها أن المنزل قد بلغ عمرًا أبتعد فيه عن منطقة الحداثة. كيف لا وهو يحتفظ بصورتي أخرج مِنْهُ مُرْتَدِيَةً مريول المدرسة. وَوَدَّع في حُزْن مكبوت أشخاص عدُوّا من سُكانه. إن تأملته من الخارج استشف من ملامحه بهتانًا يتعلق بمرور الزمن لم يعد كما كان في السابق ينبض بالحياة، وهو أمر يصيب العديد من الممتلكات، ليس مختصًا به وحده، ألا أنه من المؤلم أن تكون الشاهد على هذا الأمر تَرَقُّب في سكون دون قدرة على المقاومة.

مؤخّرًا:

“ومن انفرد فكَّر وتوهَّم واستوحش وتخيَّل، فرأى ما لا يُرى وسمع ما لا يُسمع». 

  • ابن قتيبة

إلتهمت في الأيام الماضية، وما زلت،  يوميات سيلفيا بلاث. كتاب ضخم يحوي العديد من مخطوطات كتبتها سيلفيا تدوينًا لأحداث يومية أو محاولات فاشلة لقطع نثرية لم ترغب في نشرها. كنت متهيبة في البدء من قراءة الكتاب، فلا يسعني إخفاء أن مصير سيلفيا بلاث واتخاذها قرار الانتحار  في عمر صغيرة تجعلني أصد عن قراءة مذكراتها، فمن الصعب أن تقرأ أقاويل شخص وأنت تعلم النهاية المأساوية لتلك الأحاديث. غير أن الأمر بزغ مختلفًا، وأحب دومًا هذا النوع من التحولات، في كلمات صادقة أصيلة تفيض أحاسيس لم ترغب سيلفيا في كبتها أبدًا، ونطقت بأمور قلما تصدح بها النساء. نعم النساء لأننا كائنات مجبولة على حبس الكثير من الكلمات خشية الفهم الخطأ وعلى الرغم من هذا نُفهم خطأ، لأن مهارتنا في التعبير هي في إخفاء التعبير. لا تأبه هنا سيلفيا بأن كانت كلماتها تفيض غيرة من إحداهن، والله يعلم كمْ تتعدد الأسباب المؤدية لذلك الشعور يوميًا لدى النساء، أو تتمعن في امتداح رجل حاز على إعجابها أو الكيل في شتمه دون أن تخشى من إطلاق أحكام عليها،  ” ليس فيها حياء، ولا حِيَل الفتيات القديمة”. ثم استدركت أن سيلفيا كانت تكتب تلك الملاحظات لنفسها ومن هنا أتت الجرأة، خيبة صغيرة، ربما. هذا الأمر جعلني أتساءل عن قراءاتي لكتب كُتبت بواسطة نساء، وهل يختلف تأثيرها علي كما لو كانت قد كُتبت بواسطة رجال؟. لم أعر اهتماما كبيرًا بهوية الكاتب من قبل جل ما أقدره هي الكلمات المكتوبة إلا أن عبارات وتدوينات سيلفيا لمست أشياء كثيرة بداخلي وأضمن أنها ستتعدى غيري. وجدت ايضًا داخل صفحات الكتاب كاتبة تشكك في نتاجها ساعات وتفخر في أخرى بعظمة ما تكتبه، تلك التحولات السريعة بين يوم وآخر وعام بعد عام ليس بالأمر الجلل فحياة الإنسان سلسلة لا متناهية من متغيرات داخلية رفقة الخارجية والمتعلقة بمن هم حوله، فلا أحد يرغب بأن يتحول لمياه راكدة لا حراك فيها.  أعود إلى سيلفيا، والفضل كله يعود لها في حيازة التدوين على القطعة الكبرى من كعكة الكتابة لدي في الفترة الماضية ، والعديد من المزايا تلمستها، فلا صوت ناقد على جودة ما أكتب حيث أرقد في ساحة واسعة للتفريغ بالكتابة. أما عن القادم في قراءاتي سأركز أكثر في الكتابات النسائية. جوان ديديون هي المرشحة تتبعها حتمًا إيمان مرسال. 

نحن نعرف ما سيأتي

في المعركة الخالدة للهروب من المهام اليومية، وجدت نفسي مطلعة على بعض الملاحظات المدونة في هاتفي الشخصي. تبرز جملة غير مكتملة في المقدمة، تتبعها ملاحظة كنت قد أديت المأمول منها، وأخرى أثارت تساؤلًا بداخلي عن مدى أهميتها الآن. إلا أن عبارة أصابت الهدف بشدي بقوة ناحية موقعها دون إمعان، سُطرت حروفها على هذا النحو (رواية “نحن نعرف ما سيأتي” وعن الواقع المحفز للخيال).

لم يستغرق الأمر سوى بضع ثواني حتى بدأت الذاكرة في استدراج بعض الالتقاطات من تلك الرواية والتي بُعثرت بشكل عشوائي دون إخلال في ترتيب قد يفقدها الرونق الخاص بها. الأبرز كان ربطها بلفظ الواقع المحفز للخيال. استأذنت الرجل المحترم عمدة كاستربردج كي أضعه جانبًا لأعيد إستخلاص الرواية ورؤية ما شدني فيها. تتخذ القصة شكلًا من أشكال الخيال التاريخي، حيث أنها تدعي حدوث أمر ما لأشخاص عاشوا في الماضي إلا أنه لم يتم. فهو في مجمله خيال محض ألا أنه حُفز بواسطة شخصيات تم التعمق داخل قصصهم في كتب التاريخ والسير الذاتية، أو من خلال كتاباتهم الأدبية كما هو الحال مع أبطال تلك القصة. 

كلايست وجوندروده رجل وامرأة مارسوا فعل الكتابة بما تملي عليه أرواحهم. هو عَشِق المسرحيات والقصص القصيرة أما هي مارست تلوين الكلمات برقة مشاعرها منتجةً قصائد كانت رفيقة الدرب في الحياة الوجيزة. كلاهما في الواقع أنهى حياته في عمر مبكر بالأقدام على الانتحار، والفاصل الزمني بينهما كان مجرد خمس أعوام تكاد لا تذكر في عداد الزمن والحارس الفطن القاطن بجوارها. لعل الكاتبة استوقفها أوجه الشبه الكبيرة بين الشخصيتين والنهاية الدرامية لحياتهما دون الإغفال عن تقارب فترة تواجدهم على هذا الكوكب، لأجل هذا ابتغت لقاءً لم يكتب له النشوء في وقت حضورهم. أمسكت بسلاح القلم ورسمت وقائع تتحكم فيه وحدها عن طريق إخراج المشاهد.افتعلت حفلًا ادبيًا للكُتاب الألمان يحضر فيه كلًا من الشخصيتين المنكوبتين، ومعها تستدرج كلايست وجوندروده لخارج ذلك الحفل في نزهة طويلة بجانب نهر الراين لتملأها بحوارات وحوارات لا تنتهي، ذكرتني تلك اللقطات بأفلام ريتشارد لينكليتر و وودي آلن حيث لا إبداع يُجمل الفيلم سوى الكلمات المنطوقة والتي ما فتئت تبهرني. هل التقى كلايست وجوندروده في مكان واحد؟ لا أحد يعلم، وهل من الممكن أن يكون قد أقاما حديثًا طويلًا أدى لتأكيد رغبتهما في الرحيل عن هذه الحياة؟ أيضًا لا أحد يعلم لأن الإجابة تكمن داخل جسديهما المتحلل في باطن الأرض. قد يتمكن بعض المتخاطرين بالأرواح من التواصل معهم أو إيهام السائل بمعرفة ما دار في ذلك الوقت، ألا أن المقتنعين بتلك الرؤية لن يكملوا عدد أصابع اليد الواحدة، فلن يأتي التأكيد الحتمي لتلك النظرية من خلال رؤى تتراىء لشخص يدعي امتلاكه قدرات خارقة.

تلك القصة والتي اختلقتها الكاتبة لا تختص بها فقط، فكل واحد منا يسرح بخياله بعد رؤيته لأحداث تقع تحت ناظريه لتبتدع عضلة المخ بعدها مناظرًا لم تطرأ في المشهد الأصلي. وكأن الكتابات المتدافعة في جري محتوم نحو الورق ما هي إلا اقتباسات عن وقائع طرأت بالصدفة في خط حياة ذلك الكاتب. وكدليل دامغ لهذه المعضلة القَسم المتكرر من قِبل الكُتاب قبيل بدء الفيلم أو المسلسل الراوي لتلك الأحداث بعدم استنادها على وقائع وشخصيات حقيقية وان حدث هذا فهو من باب المصادفة لا أكثر (الجميع يعلم انها ليست مصادفة). 

بحبال وثيقة يمتطي الواقع بالخيال متتبعًا ضحكات عمرها مئات السنين أو بضع ثواني. ذلك الصدى يعود منعكسًا بشكل مختلف، يضاف عليه بعض الأصوات المختلقة والتي يؤمن ساردها بضرورة حضورها، ليجد نفسه متعلقًا بتلك القصة أو ما توهمه من تلك القصة. قد تكون مجرد أسطورة وقد تكون واقعًا لا يراد له أن يحدث، في كل الأحوال هي تملأ عليه تفاصيل حياته، حياته الذي ظل محاولًا باستماتة تغير روتينها.

أن نفهم أننا مسودة-ربما تُرفض، وربما تُستكمل مرة أخرى

– كريستا فولف

كتاب “رحّالة”

هنالك دومًا عناوين جذابة ترمز لمواضيع تُشبع فضولًا كبيرًا لدى الإنسان، ودائمًا ما نجد أن الرحلة ومشتقاتها الاسمية تبرز في المقدمة و بمسافة كبيرة عن أقرب منافسيها، إذًا كان من السهل علي أن انجذب لكتابِ يحمل عنوان “الرحالة”.

بعبارة شيقة طُبعت بأناقة على غلاف الكتاب قائلةً “الكتاب الحائز على جائزة مان بوكر والكاتبة الحاصلة على جائزة نوبل”، ازداد معها ارتفاع سقف التوقعات ناحية الرواية، وعادةً ما يرتبط سقف التوقعات بعلاقة عكسية مع مدى الرضا عن المنتج أي كان صيغته. 

وجدت نفسي بعد قراءة الصفحات الأولى من الكتاب أمام قطعِ قصصية لا رابط بينها بالمعنى الحرفي، إلا أن هنالك وِثاق خفي تشعر به عند قرائتها. مثل هذه الكتب القادرة على إيصال شعور يصعب وصفه هي حتمًا كتبُ عظيمة، ولعل هذا الكتاب إحداها. لا أُخفي على الجميع تذكري لإدواردو غاليانو وظهور روحه نوعًا ما داخل صفحات الرواية، إلا أن الاختلاف الوحيد بينهما، أن هناك كان لدينا إدواردو غاليانو واحد أما هنا فنحن أمام قبيلة من إدواردو غاليانو. هنالك أيضًا استراتيجية متبعة في الكتاب، فهناك قصص قصيرة تبدأ وتظن أنها أنتهت لتتفاجئ مع تقدم الصفحات بإكمالها بصيغة قد تكون مختلفة، أو بإسناد المهمة لراوي آخر. وهنالك أيضاً قصصٌ تاريخية حدثت بالفعل لكنها رُويت بطريقة سردية خيالية.

 هذا الكتاب كُتب بلغة عصرنا، عصر السرعة. والذي يعد التنقل فيه من موضوع إلى آخر أسهل من رمشة العين، ناهيك عن اهتماماتنا المختلفة جذريًا عن بعضها البعض ومع ذلك نجد لها متسعًا داخل أرواحنا، هذا الكتاب هو الوصفة التعريفية لطريقة عمل عقول أبناء هذا العصر، أبناء القرن الحادي والعشرين والمرتبط كليًا بإشارات الأنترنت الهوائية. الأمر أشبه بالتنقل من مقطع فيديو داخل يوتيوب لمقطع فيديو آخر لا علاقة واضحة تربط بينهما، لتظل مستمرًا في التنقل من مقطع إلى آخر حتى تجد نفسك وقد أُنهكت برحلة افتراضية أشبعت فضولًا داخلك ظل مشتعلًا لزمن بسيط.

قد يذكر البعض أن الأمر مشتت نوعًا ما فما ان اندمج مع أحداث قصة حتى أجد نفسي قد انتقلت على متن بساط ريح لزمنِ مختلف ومكان متخيل لن يتسنى لي الوصول له بوسائل النقل التقليدية المعلوم مواعيد انطلاقها ووصولها. إلا أن الأمر كان ممتعًا، فتلك الوقفات الاضطرارية العديدة كانت قادرة على شحن روحي بطاقة جديدة مكنتني من إكمال رحلة الخيال والواقع دون ملل يذكر.

كتاب “الرحالة” للكاتبة البولندية أولغا توكارتشوك سيبقى من أروع الكتب التي قرأت ولا أعلم كم من الزمن سينقضي حتى يتبادر إلى ذهني اسمه عند ذكر “ما هو أروع كتابًا قد قرأته”، لكن أنا متأكدة بأنه سيظل زمنًا طويلاً ضاربًا بقوانين سرعة عصرنا عرض الحائط، ليحتل تلك المكانة فترة أطول من رمشة عين.

ما الكون؟

Island Universe by William Hays

“نأتي إلى هذا الكون من دون أن نختار ذلك. وللحظات عابرة، وكأننا يراعات كونية، نسافر برفقة غيرنا من البشر، مع آبائنا و أشقائنا و أبناءنا و أصدقائنا وأعدائنا. كما نسافر مع أشكال الحياة الأخرى، من البكتيريا إلى البابون، ومع الصخور والمحيطات وأضواء الشفق، ومع الأقمار والشهب والكواكب والنجوم، ومع كثير وكثير من الفضاء الخاوي. إن الموكب ثري وصاخب ومتنافر وغامض، ورغم أننا نحن البشر سنتركه في النهاية لا محالة، فسيستمر الموكب في طريقه. وفي النهاية سيتلاشى الموكب، وبعد مليارات لا تحصى من الأعوام، سيخبو وكأنه شبح طلع عليه الفجر ويتحلل في محيط الطاقة التي ظهر منها في بادئ الأمر”

تثيرنا نحن البشر قصص البدايات، نطرح التساؤلات حولها وعن من ابتدعها، من كانت له الأسبقية وكيف تحقق ذلك. في حكايات معينة نجد الأجوبة الوافية وفي أخرى نصاب بالضياع من الإجابات المتداولة، وبين هذه وتلك يبرز لنا نوع آخر من القصص تحاط بالغموض مع تساؤلات مطروحة أكثر بكثير من الإجابات الموثقة، وتلك الإجابات نادرًا ما تجد أذنًا صاغية ومطيعة حيث تظل مجالًا خصبًا للتشكيك وإعلان محاربتها ما استطاع إلى ذلك سبيلًا. 

قبل سنوات مضت، أُصدر كتاب “العاقل” وفي الأشهر التي تلت هذا الحدث، برزت ضجة كبيرة بين أوساط القُراء كونه تناول موضوعًا مثيرًا للشخص العادي. يطرح الكتاب بداياتنا نحن البشر على هذا الكوكب و مراحل تطورنا وتقدمنا مع النتائج الجانبية لتلك العملية ببناء الحضارات والامبراطوريات والدول العظمى، دون الإغفال طبعًا عن المسببات الرئيسية لتلك السيطرة وما لازمها من إنشاء الإقتصاد والأنظمة التي تحكم البشر. كتاب “قصة الأصل” للكاتب ديفيد كريستيان يتناول قصة البدايات لكن هذه المرة من منظور مختلف، فقصة كريستيان تبدأ من بداية تكون هذا الكون بنجومه وكواكبه وثقبه الأسود، وبدء ظهور المعالم الأولى للحياة على كوكبنا (وربما في كوكب آخر) وقدوم الإنسان وما تلى ذلك من أحداث. الكتاب لا يتوقف هنا بل يستمر في السرد واضعًا فرضية لما سيكون عليه المستقبل، مع وضع حلول افتراضية للمشاكل التي من الممكن تفاديها.

يصنف ديفيد كريستيان نفسه كأحد مؤسسي التاريخ الجامع وقد عبر من منظوره بأن إذا أردت أن تفهم تاريخ البشرية عليك أن تفهم كيف تطور هذا النوع العجيب، مما يعني معرفة تطور الحياة على كوكب الأرض وما حولها من نجوم وكواكب وأقمار، دون الإغفال عن الحاضن الرئيسي لهم جميعًا “الكون”. ويعتقد كريستيان أيضًا أننا نعيش في زمن تقدمت فيه القدرات العلمية القادرة على إعطائنا الإجابات الدقيقة إلى حد كبير، فلابد من سرد القصة كاملةً من خلال جميع الأبطال الأحياء والغير أحياء وكنتيجة لذلك خرج لنا كتاب “قصة الأصل”.

قُسم الكتاب لأربعة أجزاء، و بإمكاني وضعها داخل جزئين، جُزء يوضح الوضع قبل مقدمنا نحن البشر وجزء يتحدث بإسهاب عن التغيرات التي حدثت بعد أن ظهرنا على المشهد. في الجزء الأول يبدأ السرد من اللحظة الوليدة، المحطة الأولى لانطلاق هذا العالم “الأنفجار العظيم” وما تلاها من أحداث لمدة مليارات من الأعوام لتأتي بعدها قصة تكون النجوم وما قدمته لنا أثناء احتضارها من هبة العناصر، من جزئية العناصر لفت انتباهي ان عالمنا كان مليئًا بعنصري الهيدروجين والهيليوم فقط، هذه الصورة الدرامية وصلت لي على هيئة وحدة شديدة لا بد أن يكون العنصريين قد أصيبا بها، إلى أن اتى الفرج على هيئة أشقاء آخرين من عائلة العناصر المختلفة لتزيد معها التعقيدات ويصبح الكون أكثر تطورًا. أشهر تلك العناصر الجديدة كان عنصر الأكسجين والذي ظل مصاحبًا للفظ الحياة بقدرته الهائلة على توفير الغاز لعملية التنفس الضرورية في استمرار حياتنا على هذا الكوكب، إلا أن الحقائق أذهلتني مرة أخرى حين ذكرت أن بدايات هذا العنصر لم تكن مرتبطة بالحياة كثيرًا قدر ارتباطه في التدمير، فقد كان المسبب الأساسي لاختفاء الحياة نسبيًا عن كوكبنا بمنعه لتكوين جزيئات أساسية مثل الأحماض الأمينية والتي بدورها تتألف منها جميع البروتينات والنيوكليوتيدات التي تتكون منها المادة الوراثية وغيرها الكثير. تضاد عجيب في جعل هذا الغاز المعطي للحياة صفات تدميرية كان من الممكن أن تهلك عالمنا البدائي، إذ لعله كان مفيدًا وصوله في وقت متأخر.

ظهر الإنسان وظهرت معاها الحكايات والقصص المروية لنا طوال القرون الماضية، والتي ظل أسلافنا يتداولونها من جيل إلى جيل كلٌ على طريقته. بدأ كريستيان هنا في ذكر المعلومات العلمية عن من أين أتينا وكيف تطورنا، مع الإسهاب في تبين طريقة تحولنا من مجتمعات صيد جامعة إلى مجتمعات زراعية وما تبعها من انطلاق الأشكال الحضارية كالمدن والأمبراطوريات وما إلى ذلك. في هذا الجزء لم تذكر معلومات جديدة أو بالأحرى لم تكن مشوقة وموضوعية كحال القسم الأول، تنتابك لحظات أنك تعيد قراءة كتاب “العاقل” وهو أمر ليس بالمستغرب فالجميع يستقصي المعلومات من المصادر نفسها تقريبًا إلا أن طريقة السرد في “العاقل” كانت ممتعة بشكل أكبر مما عليه الحال في “قصة الأصل”. 

عند نهايتك من قراءة الكتاب ستصيبك بعض التساؤلات المحقة، و تقارن ما أنهيته بما كان لديك من معرفة سابقة، ستصدق بعضه وتنفي بعضه الآخر لكن في النهاية هذا هو الغرض الحقيقي من القراءة، الاطلاع على وجهات نظر متعددة ليتشكل معها رأيك الخاص والفريد من نوعه.

كونت مونت كريستو وجمعية الصداقة والسلام

Processed with VSCO with hb1 preset

-يقدم الرجل نفسه باعتباره رجلًا خيرًا. حتى أن قداسة البابا نصبه فارسًا للمسيح وهو منصب لا يتكرم به إلا على الأمراء لما أسدوه من خدمات جليلة لمسيحي الشرق؛ وكذلك يملك خمسة أوشحة أو ستة حصل عليها بفضل ما أسداه من خدمات إلى أمراءِ أو دول.

-ويحملها؟

-كلا، لكنه فخور بها، ويقول أنه يفضل المكافآت التي يحصل عليها المحسنون إلى الإنسانية على تلك التي يحصل عليها مدمرو البشر.

-صاحبنا إذًا من الكويكرز؟

-تمامًا، إنه من الكويكرز، غير أنه بالطبع لا يلبس قبعتهم الكبيرة وزيهم البني.

هذا حوار من رواية ألكسندر دوما “كونت مونت كريستو” لرجلين يتحدثان فيها عن شخصية مونت كريستو نفسه، وفيها استنتج المتحاوران انتماء مونت كريستو لجماعة الكويكرز لأنه ببساطة شخص يعشق السلام.

روبنز المختلف

عاش روبنز في القرن الثامن عشر في إنجلترا ويمكن اعتباره مثالًا يحتذى به في تكوين نفسه بنفسه أو ما يعرف بمصطلح الشخص العصامي، كانت الوسائل المتاحة له والتي تمكنه من الالتحاق بالجامعة محدودة، فقرر استبدال ذلك بالتعليم الذاتي في تخصص الرياضيات حتى أصبح متمكنًا منها. ذاع صيته وما لبث أن حاز على شهرة كمعلم خصوصي لها، تلك النجاحات لفتت انتباه الجمعية الملكية البريطانية لتنتخبه عضوًا فيها وهو ما يزال في الحادية والعشرين من العمر. 

أول إنجازات روبنز وإبداعه كان في الرياضيات والتي مكنته من حل مشكلات تتعلق بدقة المدفعية، عندما استخدم المعادلات التفاضلية من أجل تقديم أول توصيف حقيقي لتأثير مقاومة الهواء في مسار القذائف ذات السرعات العالية (وهي مشكلة عجز غاليليو عن حلها). نشر روبنز ملاحظاته الدقيقة في كتاب أسماه “مبادئ جديدة للمدفعية” لتتزايد معها دقة تصويب المدفعيات ولينال معها تعيينه في شركة الهند الشرقية البريطانية كضابط مدفعية ومهندسًا عسكريًا. أمر الملك فريدريك الكبير حاكم بروسيا بعد مرور ثلاث سنوات من إصدار كتابه بالترجمة الألمانية وقام المترجم ليونارد يولر بإضافة تحسينات من خلال ملحق شامل من الجداول التي تحدد السرعة والمدى والارتفاع الأقصى ووقت الطيران بالنسبة إلى قذيفة أُطلقت بسرعة وزاوية معلومة من فوهة المدفع. وتم إلحاق الترجمة الألمانية بترجمة فرنسية لتتمكن من الظهور في العام 1751، ومع تطبيقها أعطت الغرب سلاحًا قاتلًا بالفعل: المدفعية دقيقة التصويب.

جورج فوكس:

عاش جورج فوكس في القرن السابع عشر وترعرع وأحداث حرب أهلية داخل بلاده إنجلترا تحدث تحت ناظريه، تلك الحرب المروعة التي راح ضحيتها العديد من المواطنين بما فيهم رأس الملك تشارلز الأول خلفت ندبات واضحة في روحه جعلت منه باحثًا عن الطمأنينة والسكون. قرر اعتزال عائلته ومغادرة بلدته والذهاب من أجل البحث عن تلك الطمأنينة. ظل مرتحلًا في أنحاء البلاد في مهمته الروحية، مع الأخذ بالاعتبار أن تلك الفترة شهدت اضطرابات دينية داخل إنجلترا فالجميع أراد إصلاح الكنيسة الإنجليزية أو تأسيس كنائس منافسة لها. على مدار رحلته ألتقى فوكس مع العديد من الباحثين عن تجاربهم الروحية ليصل معها إلى خلاصة مفادها أن الله موجود داخل كل إنسان ولا حاجة للكنائس من أجل التواصل معه على حسب اعتقاده. أسس حركة عُرفت بجمعية الأصدقاء الدينية والتي سميت لاحقًا بالكويكرز، تؤكد تلك الجمعية على رفض الطقوس الخارجية والخدمة الكهنوتية ، مع الحث على العمل النشط من أجل السلام ومقاومة الحرب. 

كسب فوكس أتباعًا في مقاطعات ليك ديستريكت في ويستمورلاند و لانكشاير وبعد ذلك في يوركشاير ولندن ومناطق أخرى. عانى هو ورفاقه من العداء العام والقيود الرسمية، وغالبًا ما تم القبض على فوكس ورفاقه وسجنهم. في الواقع ، تم إيداع فوكس في السجن في الفترة الواقعة بين عامي 1649 و 1673.

أدت استعادة الملكية في عام 1660 إلى تشريع خاص ضد الكويكرز واتخاذ إجراءات واسعة النطاق ضدهم. شجع جورج فوكس مجموعات الكويكرز المحلية على تنظيم اجتماعات عمل شهرية وربع سنوية منتظمة إلى أن تم تخفيف الضغط المستمر عليهم بشكل متقطع حتى أُصدر قانون التسامح في العام 1689، قبل وقت قصير من وفاة فوكس ، ومع ذلك القانون أعطيت الراحة للكويكرز. تأثير جورج فوكس وصل إلى الطبقة الأرستقراطية الإنجليزية فإبن الأدميرال  السير ويليام بن  أعتنق تلك المبادئ التي ينادي بها جماعة الكويكرز، وبالطبع كان هناك غضب من ناحية الوالد تجاه تلك الخطوة لكن الأب توفي تاركًا ثروة هائلة للأبن ويليام بن من ضمنها ديون يدين بها الملك تشارلز الثاني لوالده. كمعتنق لفكر جديد ولرغبته بممارسة الشعائر بحرية في أرض جديدة بعيدة عن أعين الكنيسة الإنجليزية خطرت على ويليام بن الأبن فكرة والتي عرضها بدوره على الملك تشارلز الثاني، تتضمن الفكرة أن تعطى له أرض في المستعمرات الإنجليزية داخل أراضي القارة الأميركية، دون مزايا كبيرة لها، فلا يوجد بداخلها ميناء يصلها بالمحيط، بل على العكس تمامًا ستكون أرضًا داخلية مليئة بالغابات. سعد الملك تشارلز الثاني بالفكرة فطالما كان معانيًا من كثرة الديون التي خلفتها الأوضاع السيئة في إنجلترا في العقود الماضية، وأن يتخلص من جزء بسيط منها بتلك الطريقة السهلة إضافة إلى ابتعاد جماعة الكويكرز عن أنظاره لهو انتصار لم يحلم به. تحقق الحلم لويليام بن ليؤسس مستعمرته بنسلفانيا (والمأخوذة من كلمة لاتينية معناها غابات بن). وكعضو في جماعة كويكرز برز اختلاف واضح في تعامله مع السكان المحليين مقارنة بنظرائه من البريطانيين المستعمرين في تلك الأراضي، ففي البداية وقع على معاهدة معهم وطلب الإذن منهم لبناء المدينة التي كان يرغب في بنائها والتي تعرف اليوم بفيلادلفيا والقادمة من كلمة يونانية معناها مدينة المحبة الأخوية. أسس بن لقوانين تدعو إلى الحرية الدينية، تلك الأفعال مرتبطة فعليًا بالكويكرز والذي تعبر دومًا معتقداتها عن رفض الممارسات الإجبارية للآخرين تحت أي ذريعة سواءً كانت بالسلاح أو بالأجبار على الدخول في تلك الجماعة.

قصة تأسيس مستعمرة بنسلفانيا تبين مدى تأثير جماعة الكويكرز في أفعال معتنقيها لكن هل فعلًا كان أتباعها محبين للسلام رافضين لجميع أشكال الحروب؟

دعونا نعود إلى روبنز صاحب اختراع المدفعية دقيقة التصويب وخلفيته التي ظلت ملازمة له،  سنجد أمرًا مثيرًا للاهتمام كونه قد ولد في أسرة تنتمي إلى الكويكرز وظل معتنقًا لمبادئها والتي عرفت بشعاراتها المنادية بالصداقة والسلام، والرفض التام لخوض الحروب، لكن هل تطوير عمل المدفعية لتكون أكثر دقة والتي عكف عليها وكُتب لها النجاح وكنتيجة لذلك استعملت في الحروب التي ظلت تقام طوال العقود القادمة داخل الأراضي الأوربية تتناسب فعلًا مع تلك المعتقدات؟

مونت كريستو بطل روايتنا الشهيرة والذي عُرف بفعل الانتقام لكل من تسبب في سجنه، وهو في طريقه لتحقيق ذلك ذهب العديد من الضحايا قصدًا أو من غير قصد، تلك النتائج لا تتلائم مع ذلك المعتقد والذي يبدو لوهلة خيال محض يصعب تحقيقه في عالم تسوده الصراعات والشرور والتي يجد كل طرف مبررًا صالحًا لها ليتولد منها انتقامات لا تقل فظاعة عن ما حدث.

اللقاء الأول

تخيل معي لو قدمت الكائنات الفضائية، بعد كل تلك التساؤلات عن وجودها من عدمه. تلك الصور المتخيلة لهيئتهم، طريقة تحدثهم، والأسئلة الملحة التي تنتظر الإجابة: هل يملكون عقولاً كما نملك، هل يعيشون وفق أنظمة وبلدان كما هو الحال لدينا؟ ماذا عن مواردهم الطبيعية التي تغذيهم وتمدهم بالطاقة وتمتد حسناتها لتخلق مخترعات تدفع بعجلتهم التنموية سريعًا. 

أحد الطرفين سيكون متقدمًا على الطرف الآخر بسنين عديدة لمميزات توفرت له ولم تتوفر للآخر، جاعلة منه فريسة سهلة يمكن القضاء عليها. لكن هل من الضروري أن يكون التقاء الطرفين حلبة صراع ليبرهن أحدهما قوته وليكتب له الانتصار وتطمئن ذاته بفوقيته. أم أن اللقاء سيكون لطيفًا وودوداً نتبادل فيه خبرات بعضنا البعض ويعجب كل أحد بالآخر وبمدى روعة انجازاته ليصبح التقدير فيما بيننا هو الانطباع السائد لذلك اللقاء.

لندع الخيال العلمي جانبًا ونعود لنغوص في قصصنا نحن في كوكب الأرض فمنذ 500 سنة، كان هنالك قصة شبيهة بقصتنا المتخيلة مع الكائنات الفضائية، قصة التقاء عالمين مختلفين لم يتسنى لهما رؤية الآخر من قبل رغم التواجد في نفس الزمان و تحت نفس السماء. لماذا تأخر هذا اللقاء؟ أحد الأسباب الرئيسية وجود محيط شاسع يفصل بين يابستين، فلا طرق برية يمكن السير عليها، فأن طالت المسافة سيظل الإنسان مطمئنًا لوجود أرض صلبة يطأ عليها بدلاً من قطعة مياه تمتاز بسيولتها مهددةً ثباته ليقع غريقًا داخل عالمها الغامض. دون الإغفال عن  الحاجة الملحة لصنع مركبات نقل تستطيع تحمل السير داخل تلك المياه.

تمكن هذا الإنسان الأول والذي وطأت قدماه تلك الأرض البعيدة من مفاجأة من كانوا يسكنون العالم الجديد. أولًا بسبب اختلاف الهيئة، فذلك الرجل أبيض بشعر أشقر و بلحى طويلة عكس ما اعتادوا على رؤيته. فهم يمتازون بنفس درجة اللون الحنطية وشعر داكن يمتاز بسواده، والمؤكد هو عدم وجود شعيرات كثيفة في وجوههم. يوجد قبائل منهم يعتبرون أنفسهم مختلفين فيما بينهم لكن في الحقيقة هم يحملون نفس السمات الرئيسية. ذلك الضيف الغامض كان مختلفًا واثقًا من نفسه لم تمسه الرهبة من مقابلة هؤلاء المحليين يحمل أدوات غريبة ويرتدي أثقالاً لا يُعرف كيف أمكنه من تحملها. يحمل معه شيئًا لامعًا يضعه حول خصره ويمتطي حيوانًا غريب الشكل.

 “أتراه آلهة، نصف إنسان ونصف حيوان” ظلوا السكان الأصليين يتهامسون فيما بينهم بتلك الأحاديث مضيفين “قد يكون هو الآلهة المخلصة والتي ننتظر قدومها منذ زمن”. على الجانب الآخر ظل الأوروبيين يتسائلون عن ماهية أولئك البشر، في البدء حاولوا إثبات انتمائهم لفئة العقلاء وبالتالي يصبحون أناسًا مهيئين لاعتناق الديانة المراد لها من قِبلهم، ثم تحاوروا بشكل أكبر حول عاداتهم الغريبة فهم يقدمون بعضًا منهم قربانًا للآلهة تقربًا لها وأثاروا بعض الظنون حول قدرتهم على أكل لحوم البشر.  “مستحيل، هؤلاء لا يستحقون البقاء على قيد الحياة أو على الأقل لنستعبدهم”، أقاويل من هنا وأقاويل من هناك رسمت صورًا متخيلة ممزوجةً ببعض الحقيقة وبعض الريبة جعلت كل طرف يتبنى أفعالاً بناءً عليها، النتيجة النهائية كانت انتصارًا كبيرًا لصالح الأوربيين ضد السكان المحليين أو من عُرفوا بالهنود الحمر.

وجد كل من كولومبوس ،و كورتيز ،وبيزارو نفسهم في اللقاء الأول، فمن مهمات للبحث عن خيرات العالم الجديد وتبادل الخبرات لتتحول بعدها إلى قادة مستعمرين امتلكوا الأرض بمن عليها. لماذا حصل هذا التغير؟ تتكرر دائمًا على مسامعنا مقولة العالم قبل حدث ما (بإمكانك وضع ما تراه مناسبًا) ليس هو العالم بعد هذا الحدث، العام 1492 سيتخذ لنفسه موقعًا ملائمًا داخل تلك العبارة.

فبعد أن وطأت أقدام كولمبوس الأرض الجديدة، والتي لا يُعرف موقعها بالضبط في يومنا هذا، اتخذت حياة السكان المحليين منحى آخر لم يتسنى لهم التنبؤ به. فإن كانوا يمتلكون كورة سحرية لتريهم ماذا سيحدث في المستقبل، ستذكر لهم قتل، أمراض، واستعباد وتصرح لهم علانية “ستكونون أقلية في بلادكم ولن تعودوا أصحاب الأرض”.

دخل كورتيز على حاكم الأزتك كضيف مرحب به، ليطمع في مدينة يوكاتان ويدبر الخطط للانقلاب على الحاكم وتحقق له ما أراد. بيزارو الآخر تم إرشاده داخل الطرق الجبلية الوعرة من قِبل سكان محليين ليتمكن في النهاية بالإطاحة بـ مملكتهم، حاضرة الإنكا. كولومبوس الشخص الأول و المسؤول الأكبر عن كل تلك الأحداث ابتدع فكرة استعباد السكان المحليين، لكن السؤال الذي يصرخ عاليًا في هذه اللحظات هو ماذا استفاد الأوروبيون من كل هذا؟ 

رواية البرازيل الحمراء تبدأ أحداثها بعد وصول كولمبوس بستين عامًا ، ولكن هذه المرة في مكان معلوم عند شواطئ ريو دي جانيرو في البرازيل، عندما كانت أرضًا معزولة وخالية من مظاهر الحياة. الأبطال فرنسيون، مع عددٍا لا بأس به من المرتزقة المتعددة الجنسيات، فبعد سنوات من سيطرة الإسبان والبرتغاليين على أتربة العالم الجديد أراد شعب النورماندي تجريب حظه في تلك الأراضي والظفر بقطعة الكعك الشهية وما تخبئه من مفاجئات بداخلها. فيلوغانيون قائد يريد أن يكتب مجده أسوة بمن سبقوه في هذا المجال، كان كورتيز أحد أبطاله الذي أراد أن يتشبه به ويفعل مع فرنسا ما فعله هو مع الإمبراطورية الإسبانية. 

من أبطال هذه القصة أطفال أُخذوا من الميتم ليتمكنوا من اقتباس لغة السكان الأصليين بسرعة ويساهمون في بناء المستعمرة من خلال العمل كمترجمين، من بينهم أخ وأخته تم إقناعهم بالذهاب في هذه الحملة للبحث عن والدهم المختفي منذ سنوات، بسبب سريان إشاعة عن ذهابه هناك للظفر بالكنوز المتوفرة في تلك البلاد البعيدة. 

مع هذه الأحداث الحقيقية والممزوجة ببعض الخيال ولدت لنا قصة ذات تشعبات عديدة، فلا يمكن حصرها أبدًا داخل تلك الشخصيات، فهناك قبائل السكان الأصليين مع عاداتهم المستنكرة ومحاولة التأقلم مع القادم الغريب، وهناك أيضًا صراعات دينية انتقلت من أوروبا لتلتهم تلك المساحة الصغيرة في الأرض الجديدة بين الكاثوليك والبروتستانت، فعلى ما يبدو كل طرف كان يدعي أحقيته في حمل لواء التبشير بين مقيمي تلك الغابات. 

الاستنكار والغربة والخشية من الآخر وظهور العديد من العلامات على جنون أفعال البعض وسمو خُلق البعض المضاد. كل تلك المحصلة تجعل من قصص اكتشاف العالم الجديد ممتعة وشيقة، ومبرزة لهوية الصراعات بين البشر. تجعلك تتفكر في هذا الإنسان وقدراته العجائبية والغرائبية في آن واحد لتحتار في صف من ستنحاز وهل هنالك حقًا من رابح؟

______________________________________________________________

في الماضي وكعادة طفولية في التعلق بأفلام الكرتون، أُعجبت بشدة بمسلسل “الأحلام الذهبية” وقصة رحلة استبيان مع أصدقائه للبحث عن الذهب في أراضي العالم الجديد. لن أدعي فهمي للخلفيات التاريخية والتي بُني عليها هذا المسلسل فقد كُنت ما أزال طفلة لا تعي كثيرًا ما حدث ويحدث في هذا العالم، لكن الأجواء شدتني وأحداثها علقت في ذهني طويلًا. هذا التعلق ظل كامنًا بداخلي إلى أن نما فجأة منذ سنوات بالاهتمام الشديد بقراءة كتب تاريخية متعلقة بتلك الحُقبة، فمن “A Land so Strange” إلى وثائقيات مايكل وود ومنها إلى رواية “ما رواه المغربي” والتي تعتبر سرد شبه خيالي لأحداث تاريخية ذُكرت في كتاب “A Land so Strange” عن طريق الشخصية المنسية من الناجين الأربعة داخل أراضي السكان الأصليين وانتهاءًا برواية “البرازيل الحمراء”. أنا متأكدة من أن رحلة البحث والتنقيب عن قصص ذلك العالم لن تنتهي عند هذا الحد بل على الأرجح أنني ما زلت في بدايتها، وقد تم ايقاد هذه الرحلة الطويلة بفضول وشغف تجاه الكلمات المعبرة والقصص المروية  لذلك الزمان.

العيش في زمن مختلف

تنتابني أحلام يقظة مختلفة من حين إلى آخر متخيلةً نفسي أعيش في زمن مختلف وفي بقعة جغرافية أخرى، غالبًا ما تنتمي لزمان قديم ذو عنوان يشير بسهامه ناحية أوروبا. بالطبع هنالك محفزات مختلفة لتلك التأويلات; من أحدها قراءة كتاب يغدق بالكثير من تلك التلميحات أو مشاهدة فيلم يصور تلك الحياة البعيدة، اما المحفز الحقيقي لكتابة التدوينة والبوح بهذه الأفكار والتي تظل تحوم داخل رأسي هو قراءة لقصة قصيرة حدثت لغوته خلال إقامته خارج مسقط رأسه ألمانيا داخل أجواء إيطالية. لم يكن غوته حاضرًا في حياتي القرائية سوى أن اسمه ظل مألوفًا وحتى لو لم أطلع على أعماله، لكن حظر في ذهني مؤخرًا بعد قرائتي للسيرة الذاتية الخاصة بالمستكشف فون هومبولت وعن الصداقة العجيبة التي جمعتهم، نظرًا لمدى تشابه أرواحهم، رغم اختلاف أعمارهم، فقد اجتمعوا على حب الحياة و الاكتشاف والمغامرات والطبيعة والمتعة القادمة من وراء تلك الأمور والتي ظل كل واحد منهم يصبو للسير خلفها. 

عندما أتم غوته عامه السادس والثلاثين وبعد أن حقق العديد من الإنجازات الشخصية على مستوى الكتابة، ظن أن الوقت قد حان لخوض مغامرة لطالما حلُم بها، ترتكز كليًا على الذهاب والتوجه لإيطاليا وحيدًا ليكون بذلك مبتعدًا كل البعد عما اعتاد عليه من أُناس وطبيعة جغرافية ظل طوال سنواته معاشرًا لها. وهو فعلًا ما تحقق له فبعد تخطيط وإعداد وقراءة بعض المراجع حزم حقائبه وما أحتاج إليه من معدات تلائم عزلته الجديدة ليطلق بعدها لقدميه العنان. 

بلد جديد ذو ثقافة غريبة ولغة تواصل مختلفة كلها كانت تحديات أمام غوته ورغم ذلك ظل متحمسًا لها، وأراد أن يظل اجتماعيًا وأن يتواصل مع أكبر قدر من البشر، فإيطاليا مليئة بالمسافرين و الذين يشبهونه في خوض مغامراتهم الخاصة بهم هناك دون إغفال تنوع الجنسيات والذي مكن غوته من التعرف على أصدقاء جدد من غير الجنسية الالمانية. 

مرت الأشهر وطاب لغوته الأقامة هناك وكل ما أعتقد زملاؤه في أرض الوطن عودته أطال مكوثه أكثر، وظل غوته متحاشيًا خوض مغامرات عاطفية لاعتقاده الجازم بأنها ستؤثر بشكل كبير على حسه الإبداعي وتعيقه عن مهمة كتابة مسرحيات جديدة والتي كانت الدافع الأساسي لرحلته تلك، لكن الإنسان يظل غير مسؤول عن ما يعتري قلبه من مشاعر أن أراد لها القدير الظهور في لحظة ما، وكان هذا ما حصل في شهر أكتوبر بعد إكماله العام على إقامته في روما ومن أجل التمتع بعطلة إيطالية خريفية، قبِل دعوة ثري إنجليزي يملك قصرًا في ضواحي روما ويملك العديد من التحف واللوحات الفنية والتي حتمًا ستكون مفاتيح لأحاديث مع غرباء عدة من مختلف الجنسيات الأوروبية. 

في محاولة له للاندماج مع المدعوين لقصر الثري الإنجليزي لمح غوته سيدة إيطالية مع ابنتها كان قد عرفهما من خلال تواجدهم بالقرب من سكنه في روما إلا أنه لم تتح له الفرصة أبدًا للتواصل معهما إلا الآن في هذا الريف البعيد عن ضجيج العاصمة، ليطيب له الجلوس وقضاء الأمسيات معهم ومع صديقة أخرى قادمة من ميلان والتي تم دعوتها بسبب عمل شقيقها مع ذلك السير الإنجليزي. غوته طاب له الحديث مع تلك النسوة ومع شقيق الميلانية وبدأ في تجاذب الأحاديث عن كل شيء يثير اهتمامه ويطيب لهم الأستماع إليه ولما لا المشاركة فيه، لكن ولأن الأمور السعيدة دائمًا ما تنغص ببعض التوافه التي لا تخطر على البال، قامت والدة الشابة القادمة من روما بعقد محادثات مع غوته حول ما طبيعة العلاقة التي يرغب غوته في تكوينها مع ابنتها، فقد يجهل هذا الشاب الألماني أن الأمور في هذه البلاد قد تكون مختلفة عما هي عليه الحال في بلاده، فبمجرد ما تزداد أحاديثك مع فتاة عزباء يجب على الشاب أن يقدم على الخطوة الجدية ليتمكن من إطالة الجلوس معها والحديث بأريحية أمام الملأ. تلك الحادثة العرضية فتحت عين غوته عن مشاعره الداخلية والتي ظلت محبوسة بإرادته الشخصية رغبةً منه بعدم الأرتباط في علاقات جدية، وأحس أنه أمام الأختيار بين الفتاتين، ومن دون تردد وجد غوته نفسه معلنًا القرار النهائي، والذي أرشده له قلبه بالطبع، بأن الفتاة الميلانية كانت من يطيب خاطره بها وأنه حتمًا يستمتع بالتواجد بقربها للحديث عن مختلف الأمور. تلك الفتاة كانت محبة للأطلاع والمعرفة بكافة التفاصيل التي تحدث من حولها على الرغم من قلة تعليمها كونها حُرمت على حد قولها من الحق في التعليم، كون ذلك الزمان ينظر للمرأة بنظرة مختلفة عما اعتدنا عليه في زماننا الحالية، فما الهدف على حد زعمهم من تعليم المرأة الكتابة؟  لتكتب رسائل غرام للحبيب المحرم،  وما الفائدة أيضًا من تعليمها القراءة؟ فما الذي يجب أن يُقرأ غير التراتيل التي نتلوها في الكنائس. بتلك الجمل الغاضبة عبرت تلك الفتاة لغوته عما يعتري بداخلها لكن هذا الأمر لم يكن ليصيبها بكآبة ذو غمامة سوداء تجعلها مبتعدة تمامًا عن الحياة والتمتع بها، بل على العكس ظلت راغبة بأن تتعلم وأن تشارك من سبقوها في هذا المجال لتتمكن من مجاراتهم. أحد تلك الأمور التي ظلت تشغلها هو اللغة الأنجليزية، فكما هو معروف من يقطنون في ضيافة مضيف إنجليزي، يتجادل الضيوف معه بلغته وأن اختلفت أعراقهم، فما كان من غوته إلا أن هب لمساعدتها لتعليمها تلك اللغة العصية عليها، كونه يمتلك امتياز التحدث باللغتين الإيطالية المفهومة لدى تلك الفتاة والإنجليزية المرغوبة من قِبل نفس الفتاة. 

مرت الليالي الجميلة وظل غوته معلمًا وفيًا للفتاة الإيطالية، ولكن مرة أخرى وكعادة الحياة ما أن تعلن فتحها بابًا من أجلك تركض مسرعةً لغلق نافذةً أخرى، وصدفة وجد غوته نفسه يستمع لحديث نساء عن فتاة تستعد من أجل زواجها وكيفية الأجراءات المتبعة من قِبلها لهذا الحدث الكبير، وأن الزوج متحمس للغاية وقد أعد الكثير والكثير من الأمور لتلك الليلة المهمة في حياته، إلى أن وجد غوته نفسه متسائلًا عن هوية تلك الفتاة ليتفاجأ بأنها التلميذة المجتهدة والتي تتعلم اللغة الإنجليزية على يديه. 

أصبح غوته بعدها متحاشيًا الحديث المنفرد معها دون قطيعة كبرى بينهما بحيث تصبح أمسياتهم ممتلئة بأُناس من حولهم حتى لا يضفي عليها بعض الحميمة والتي لم تظهر حتى قبل تلك الصدمة ولكن قلبه ظل محدثًا له عن مشاعر عديدة كلها لا تصب في صالح أنها مجرد فتاة عادية، لكن عزاؤه الوحيد أنه لم يقم بإطلاق وعود لتلك الفتاة مؤملًا لها بأماني قد لا يكتب لها الحدوث. 

مرت الأيام وعاد كل منهما لمكان إقامته لتأتي بعدها أعياد الميلاد بكل أجوائها الاحتفالية ليتلقى غوته أخبارًا أقلقت مضجعه، فقد تم تبليغه بأن الفتاة الميلانية أصابتها الحمى لتجعلها ملازمةً الفراش، وحدث ذلك بعد أن تم هجرها من قِبل خطيبها. كان غوته يأمل بشدة أن لا يكون لهذا الموضوع صلة به; فقد مضى على وقت تعارفهم مدة ليست بالبسيطة مما يؤكد عدم ربط الحادثتين مع بعضهما البعض.

تلك القصة المتكاملة الأركان من خوض مغامرة في بلاد غريبة واتخاذ قرارات مصيرية تتعلق بالقلب وفكرة الحب المستحيل تجعل منها رواية ملائمة لفيلم أكثر من كونها قصة حقيقة دونها غوته في مراسلاته لأصدقائه والتي نُشرت في كتاب “رحلة إيطالية”. هذا الأمر يجعلني أعيد رسم أحلام اليقظة مرة أخرى في أمنيتي أن أنتمي لذلك العصر وبقعته الجغرافية، لكن سرعان ما أتراجع عندما أتذكر المشاكل الصحية الكثيرة المتعلقة بالرعاية الطبية السيئة في ذلك العصر، وصعوبة التنقل بسهولة من مكان إلى آخر دون أن اغفل عن المعيق الأساسي الأول وهو أن تلك المغامرات محصورة على فئة قليلة من المجتمع لا تزيد نسبتهم عن الثلاثة بالمئة من مجموع الشعب. فها أنا هنا أطرد تلك الأحلام لأعيش الواقع الصعب لكن المقبول نوعًا ما على حسب معاييري الخاصة.

العيش في الظل

فان غوخ لم يكن معروفًا أثناء عيشه، ظل متخبطًا في حياته وفي حاجة ماسة للآخرين من أجل دعمه. الكثير منهم أعتقد بعدم أهمية ما يقدمه من فن، بل تم نعته بأقبح الألفاظ حين تم تقيم أعماله من قِبل أناس مختصة. هذا الأمر كان له التأثير الجلل على روح فان غوخ، فظلت الكآبة رفيقة له في درب الحياة التي عاشها. عاشر فان غوخ الكثير من الأناس المحرومين والذي ظلوا يغذونه بالمزيد والمزيد من النظرة السوداوية رغم واقعيتها على حد زعمه. تلك الضبابية نتجت عنها أعمال حين يراها المرء للوهلة الأولى وتحت تأثير الألوان الزاهية سيتلمس شيء من السرور والسعادة، على الأقل بالنسبة لي. تلك المعادلة المتناقضة تمثل تعقيدات الحياة التي نعيشها فحرمان شخص هو إبداع يجلب الفرح لمتذوقه، وتلك القصيدة والتي حُرم كاتبها من رؤية عشيقته هي حلقة الوصل بين محبوب وصاحبته في الليالي المقفرة. السؤال المشروع هنا، هل لو عايش فان جوخ تلك الشهرة التي حصدها بعد وفاته ستتغير معها طبائعه ليعدل عن قراره و الذي  اتخذه  بإنهاء حياته؟

بيزيل براون منقب انجليزي تم استدعائه من قبل سيدة أرملة تمتلك العديد من الأراضي، إحداها أرضُ ظلت منذ الصغر وبمعية والدها الراحل تعتقد بأهميتها التاريخية، سَخِر براون قليلًا منها، فالحدس لا يعتد به كأداة في التنقيب فهناك العديد من الأمور التي يترتب عليها الشروع في البدء عن تنقيب تلك الآثار المزمع إيجادها. مرت الأيام والأسابيع ليتم تأكيد شعور السيدة بريتي، ليخرج معها حطام سفينة انجلوساكسونية من القرن السابع الميلادي أو ما يعرف سابقًا بالعصور المظلمة، ليكتب لهذا الأكتشاف النجاح الباهر كونه أحدث نقلة كبيرة في قراءة التاريخ الإنجليزي لتلك الحقبة. القصة لم تكن وردية على الأطلاق فمع حدوث اكتشاف بهذا الحجم كان من الضروري تدخل المتحف البريطاني لتبني ذلك الركام، نظرًا لأهميته القصوى للشعب الأنجليزي كافة، فمن غير المعقول أن يظل حبيس متحف محلي والذي ينتمي إليه المنقب براون، مكتشف تلك السفينة. تم الأمر فعلًا بعد قرار من السيدة بريتي والتي اعتقدت بأهمية رؤية ذلك الحطام لكافة الجمهور والذي يسهل توفيره من خلال المتحف البريطاني. النتيجة كانت متوقعة بطمس اسم المنقب براون وربط الاكتشاف بعلماء آثار ومنقبين متمرسين، على عكس مكتشفنا والذي كان هاويًا. من المؤكد أن براون لم يكن سعيدًا بتلك التطورات وأن أمور عديدة حالت بينه وبين سلم المجد والشهرة، لعل اهمها أن ممارسته للتنقيب لم تكن يومًا مبنيةً على دراسة مختصة بل كهواية ظل مطورًا لها بالقراءة والعديد من الرحلات مع والده الخبير بأنواع التربة. 

النظرة المسبقة ذلك الحائط الصلب والذي يصلب على أحدى جانبيه طموحات العديد من أصحاب المواهب والاكتشافات، ففان غوخ ظل قابعًا في داخلها نطرًا لأعماله المختلفة عما هو سائد و عدم انتمائه لمدرسة الرسامين المتخصصين و الذين امتهنوا الرسم من خلال الدراسة وداخل الأبواب المغلقة، فرسامنا كان مغايرًا لذلك وجعله ذلك الاختلاف بعيدًا عن مجتمع الفنانين العظام خلال حياته، براون الآخر حُرم من إنجازه كونه اتى مغايرًا لمواصفات أُعدت من قِبل أشخاص آخرين لم ترق لهم سيرته الذاتية، فهي حتمًا لا تلائم أكتشافًا يعد مؤثرًا في التاريخ الإنجليزي فيصعب معها أن تربط بهاوي تنقيب أمتهنها من خلال ذهابه في رحلات عديدة مع والده.

الشخصية الثالثة والتي سأتناولها في هذه المقالة عايشت ظروفًا معاكسة لما اختبره كلًا من براون وفان غوخ. المستكشف ألكساندر فون هومبولت عاش حياة مليئة بالمغامرة والتطلع لاكتساب معلومات جديدة حول حقيقة المخلوقات الحية من حولنا وعن تلك الأرض التي نسكنها،  فقام بتسلق جبال لم يجرؤ احدًا من قبل على الأقتراب منها، وحدد مناخات ملائمة لنباتات مختلفة حتى أنه توصل لفكرة أن قارة أمريكا الجنوبية كانت متصلة بالقارة الأفريقية، تلك النظرية التي أُكدت حديثًا، فكم يعد جنونًا أن يؤمن شخصُ بها في ذلك الزمان ومع قلة الأجهزة والمعدات الدقيقة. كل تلك الروعة والتي كانت تغلف وجوده في هذا الكون ذهبت أدراج الرياح بعد وفاته فبعد أكثر من مئة سنة لم يعد أحد يذكر فون هومبولت ولم يصبح ذلك الشخص الذي يشار له بالبنان والتطوير في مجال العلوم بل أصبح منسيًا، ولعل من الأمور المضحكة في قصته أن نابليون كان على معرفة كبيرة به وظل مترصدًا لتحركاته نظرًا لما يمتلكه من علاقات مع مختلف الأطياف والأعراق، وإذا صح لنا القول فقد كان نوعًا ما يصاب بالغيرة ناحيته نظرًا لرغبته الجامحة في امتلاك كل من حوله لينال نصيبًا عاليًا من المديح والثناء كما كان يتلقى فون هومبولت بنفسه، لكن في زماننا الحاضر أصبح نابليون معروفًا بشكل أكبر للعامة من فون هومبولت فالسنين كانت كفيلة بإبراز أحدهما مع الإطاحة بالآخر.

ملاحظة تلك الشخصيات الثلاثة برزت لي من خلال قراءة كتابي “اكتشاف الطبيعة” و “فنسنت فان غوخ: الرواية الكلاسيكية لحياة عاشها بين الشهوة والحرمان” ومشاهدة فيلم “The Dig”، قد تكون الصدفة المحضة في قرب الفترة الزمنية لرؤية وقراءة تلك الأعمال جعلتني اربط فيما بينهم، وقد يتواجد هناك فيما بينهم بعضًا من التشابه يجعل حياتهم قريبة إلى حد ما. أم من الممكن استنتاج أنها الحياة بتعقيداتها وتناقضاتها الكبيرة والتي ظهرت جلية في حياة أولئك الثلاثة ليصح القول معها أنها بارزة في جميع حيوات البشر.

القراءة المختصة

من محاسن 2020 القليلة هو عودة شهيتي للقراءة، أصبح لزامًا علي شراء 5 كتب دفعة واحدة ثم قراءتها جميعًا لتبدأ بعدها رحلة البحث عن خمسة كتب أخرى، تزيد أو تنقص لا يهم المغزى هنا هو امتلاك نسخ ورقية. طريقة نجحت معي بشكل كبير وتعتبر أفضل مقارنةً بالتكديس من خلال شراء عدد كبير من الكتب وانطفاء الحماس بعد مرور الوقت. 

الكتب القديمة والتي لم تُقرأ بعد كُتب لها الوداع وعما قريب سأحاول التخلص منها ولكن مازال التفكير مشغولًا بكيفية الطريقة. شعرت بالحماسة أكبر عند امتلاك كتاب جديد وقراءته في حينها على عكس ما قد يحصل من كتاب قد مضى على شرائه سنوات لتتسائل وقتها لماذا هو موجود هنا؟. فكما يعلم جميع القراء هنالك مراحل في حياة القارئ تتنقل اهتماماته من مجالات عدة تقل حينًا وتزيد أحيانًا أخرى، تجتمع جميعها لتشكل رحلته القرائية في هذه الحياة.

العلامة الفارقة في هذا السنة القرائية هو عودة قراءة كتب متعلقه بتخصص الجامعة أو ما يدور في فلكها، فمع مرور الأيام سينسى الإنسان لا محالة ما تم تداوله داخل قاعات الدراسة خصوصًا إذا أرتبط بعمل لا يتعلق كثيرًا بما تم دراسته، من سيكون المنقذ هنا؟ الكتب طبعًا. سعادتي لا توصف وأنا أقرأ تلك الأسطر فقد انتابني شعور جميل وممتع مليء بالاكتشاف والحماسة وكل ما دار في ذهني حينها هو تساؤل كبير يطرح مرارًا” لماذا ابتعدت؟.”

الجواب على هذا السؤال سيبقى غير معلوم، لكن سأذكر بعض الأمور التي حفزتني على الإبحار أكثر داخل الكتب المتخصصة، الكتاب الأول كان تحت عنوان “أينشتاين، بيكاسو المكان والزمان والجمال” كان الكتاب يقع في قسمين قسم عن حياة أينشتاين وإبداعاته وقسم عن بيكاسو وتحفه الفنية. حماستي عند شراء الكتاب كانت متجهة نحو بيكاسو إلا أن ما حدث كان على العكس تمامًا وجدت نفسي أقرأ صفحات أينشتاين بسرعة كبيرة متنقلة بحماسه بين الأسطر بينما على الطرف الآخر استثقلت صفحات بيكاسو لدرجة بدأت أشك في استطاعتي على إنهائها. كان هذا الكتاب كمنبه أراد مني الاستيقاظ والانتباه عن ما ترغب فيه نفسي وما يوده عقلي أن يستقبله، فقد مرت سنوات عديدة على سماع تلك المصطلحات، وكأني أتخيل خلايا دماغي تتراقص فرحًا بعودة ضيف قديم طال انتظاره. 

الأبتعاد طوال تلك السنوات لم يكن كليًا فقد تنقلت بين صفحات مجلات تعتبر علمية ناهيك عن مشاهدة وثائقيات تقع ضمن ذات التصنيف، لكن جميعها لا يعادل المتعة في قراءة كتاب علمي. كتاب “أينشتاين وبيكاسو” دفعني للبحث أكثر عن نوعية تلك الكتب ومنذ زمن وأنا على إطلاع بإصدارات مشروع كلمة للترجمة التابع لهيئة أبوظبي للتراث والثقافة، ويلتزم المشروع بترجمة العديد من الكتب حول العالم تقع ضمن تصنيفات تم اختيارها من قِبلهم ولحسن الحظ تم إيجاد تصنيف يعنى بالعلوم والمعارف. بدأت في تصفح العناوين العديدة والمتنوعة في موقعهم الألكتروني ليتم جذبي إلى عنوان يذكر فيه “تاريخ الطاقة والحضارة”. ذلك العنوان لم يلفتني فقط كونه يقع ضمن الكتب العلمية لكنه أيضًا جمع جانبًا آخر لطالما استمتعت به واقتنيت العديد من الكتب ضمن عالمه إلا وهو التاريخ، اقتنيت الكتاب بسرعة رغم سعره المبالغ فيه ولكنه أمر ستعتادونه عند شرائكم لكتب من إصدارهم. حماسي لم يخيب رغم كبر حجم الكتاب وغزارة المعلومات الموجودة بداخله، فما أن أنهي 10 صفحات حتى أشعر بالأمتلاء والرغبة بالتوقف لاستيعاب ما قرأت، ولعل هذا السبب الذي جعل رحلتي مع الكتاب تطول شهرًا كاملًا. وهنا أضع اقتباسًا لمراجعتي للكتاب والتي كتبت عنها في موقع Goodreads:

خلاصة الأمر هو توصلي لأمور قد تكون مرت على كل عاشق للقراءة والتي تجعل منه ممتلئًا بالشغف والبحث بين فترة وأخرى، قد لا يتحدث كثيرًا عما قرأ أو ماذا أستفاد من تلك الكتب التي قرأها لكن حتمًا كان هنالك متعة هو الوحيد الذي يعلم عن مدى روعتها، ولا يعلم ماذا يخبئ له القدر في قادم الأيام أن أستعمل ما تم قرائته في مشاريع وخطط مستقبلية تفتح له أبواب كانت مغلقة، دعونا نتمنى جميعًا أن نجد تلك الفائدة وفي أثنائها لنستمتع معًا بالرحلة.

كيف ترى العالم؟

out of africa

يتم الإنصات يوميًا إلى عدد الإصابات الجديدة لمرضى الكورونا أو ما يعرف بفيروس كوفد 19 كجزء من حملة التوعية بهذا المرض واستشعار المسؤولية من قِبل الكل بلا إستثناء. لعل هذه الجائحة لامست مشاعر الناس كثيرًا وأضافت شعورًا بمصير واحد لكل سكان الأرض، إحساسٌ بأن الكل واحد والجميع مشارك من أجل القضاء عليه. لغة الأختلافات بين البلدان والثقافات ومن هو الأكثر تطورًا ومن مازال خلف ركب التقدم، جميعها معايير اختفت وظل الجميع سواسية في كيفية الإصابة بهذا الفيروس وربما حتى بكميات الإصابة والتشافي. إذن هل نحن بالفعل نعيش في عالم منقسم لمتطور حضاري وعالم آخر نامي لا تتوفر فيه سبل الحياة الكريمة، هل مازال مصطلح “هم” و “نحن” يصح استعماله في أوقاتنا الحاضرة؟.

في مشهد من أحد أفلامي المفضلة ومن بطولة ميريل ستريب وروبرت ريدفورد “Out OF Africa”، والذي تمتلك فيه كارين الارستقراطية أرضًا في أفريقيا ويقع تحت أمرتها العديد من الأفارقة مع عوائلهم. كانت كارين حريصة بشدة على جعل هؤلاء السكان أكثر تحضرًا على حد زعمها فكانت تقترح على دينيس، وهو مغامر أمريكي قِدم إلى أفريقيا حبًا في طبيعتها و لممارسة هوايته المحببة الصيد، بناء مدارس لهم لكي يتمكنوا من القراءة والكتابة غضب دينيس من هذه الفكرة قائلًا لها لا تفكري بالنيابة عنهم أجعليهم هم من يقرروا مصيرهم لا تقومي بفرض ثقافتك عليهم نحن هنا مجرد عابرون. استحضرت هذا المشهد كثيرًا عند قراءة كتاب “الإلمام بالحقيقة” لهانس روسلينغ، عالمنا لم يعد ذو اختلافات كبيرة أو كما يطلق عليه بمسميات مثل الشرق والغرب أو دول العالم النامية ودول العالم المتقدمة، هذه الاختلافات كانت موجودة ولازالت أيضًا لكن العالم لم يستوعب بعد حجم التطور الهائل الذي خطته معظم الشعوب، لازالت تلك الصورة القديمة تسكن العقول مغيبةً عنهم العديد من الحقائق الجميلة و المبشرة بمستقبل أفضل. 

فكرة تأليف الكتاب أتت لهانس في حوارته مع الطلبة، دائمًا ما يصر طلبته على وجود حدود وفروقات بين دول إقامتهم وأماكن العيش المختلفة في العالم، فحين تم ذكر معلومة عن أن وفيات الأطفال تزداد وتبلغ ذروتها في المجتمعات القبلية في الغابات المطيرة، وبين المزارعين التقليدين في المناطق الريفية النائية، قفز أحد طلاب هانس ليقاطعه قائلًا “هؤلاء لا يمكنهم أبدًا أن يعيشوا مثلنا” وتم دعمه من قِبل جميع الحاضرين لتلك المحاضرة بإيماءة من رؤوسهم. قام هانس بطرح عدة أسئلة على هذا الطالب وعن ما يقصده ب”هم”؟ ليبدأ الطالب بالتبرير ومدافعًا عن نظرته بأنه يقصد الناس في البلدان الأخرى، وبما أن موقع هذه الحادثة كان في السويد قاطعه هانس باستنتاج أنه يقصد بذلك جميع بلدان العالم غير السويد نفى الطالب تلك العبارة بتفسير أكثر وضوحًا بأنه يقصد البلدان غير الغربية. استاء هانس كثيرًا لتلك الأوصاف فدائمًا ما يزرع الإنسان بداخله غريزة الفجوة و تقسيم الأشياء إلى فريقين متضادين في كل شيء: الأغنياء والفقراء الغرب والشرق. أراد الدكتور هانس روسلينغ إيضاح الحقيقة كاملةً وتوضيح أننا نعيش في عالم أفضل ما توصل إليه الإنسان والخطوات المتخذة في شتى المجالات زادت في أعمارنا وسهلت عمليات تنقلنا وأصبح التعليم متواجدًا عند الأغلبية بمن فيهم الفتيات والنسب مازالت في ازدياد، سبب اطلاع هانس على كل تلك الأمور هو عمله في منظمة الصحة العالمية وإرساله من وقت إلى آخر لتلك البلدان المختلفة عنهم كما يشاع لرؤية الأوضاع هناك ومعالجة ما يمكن إصلاحه خصوصًا فيما يتعلق بالصحة. توصل هانس إلى عشرة أسباب تجعلنا لا نرى العالم كما هو أولها ما ذكرته سابقًا بغريزة الفجوة والغرائز الأخرى تتوالى تباعًا في الكتاب مع ذكر قصص عايشها الدكتور بنفسه مستخلصًا منها تجارب تثبت وجهة نظره راجيًا من القارئ أن يقتنع بها أيضًا.

عند قراءة الكتاب ستستشعر نبرة التفاؤل الكبيرة لدى هانس، ستصلك تلك النظرة الإيجابية للأمور فالعالم الذي نعيش فيه والذي نسمع عنه بعض القصص المروعة كفقر شديد في بعض زواياه وكوارث طبيعية لم تحدث من قبل، يواجهها هانس بإحصائيات وبيانات وأرقام ستصدمك، إيجابًا وليس سلبًا، مع أن كاتبنا أعاد مرارًا وتكرارًا أنه ليس هذا الشخص الذي من الممكن أن تنطبق عليه المواصفات التي ذكرتها في الأعلى، فهو ليس بهذه السذاجة على حد قوله. يتحدث عن نفسه بأنه شخص “إمكاني” ومعنى هذا المصطلح والذي هو من إبتكاره أنه شخص لا يأمل بدون سبب، ولا يخاف بدون سبب، شخص يقاوم باستمرار النظرة العالمية الدراماتيكية بإفراط. تلك النظرة الدراماتيكية المفرطة والتي نعيشها يوميًا من مختلف الأخبار التي نتلقاها ولعل الجائحة الحالية زادت من تلك الجرعة لحدٍ بدأ من الصعب التخلص منها. في أحد الفصول ذكر روسلينغ غريزة يجب تفاديها لرؤية الأمور على حقيقتها إلا وهي غريزة الإلحاح كأن يضعك الشخص أمام خيارين أما الآن وأما فلا، ربط تلك الغريزة بمشكلة تغير المناخ والتي هي حقيقة لا يقبل الجدال فيها، ليست هنا النقطة التي لفتت انتباهي وشعرت بتقاطع رأي مع الدكتور، فعند ذكر مشكلة تغير المناخ تبرز سمة المبالغات واختيار كل من يتبنى هذا الفكر للسيناريو الأسوأ وتخويف الناس بأمور ستحدث هي مستبعدة إلى حد كبير، عادةً ما يبرر ناشطي المناخ أنه لا بد من إثارة الخوف والإلحاح بادعاءات مبالغ فيها أو غير مدعومة لأنها الطريقة الوحيدة التي ستجعل الناس يتحركون لمعالجة المخاطر المستقبلية، يبررون لها بأنها استراتيجية ذكية على نمط الغاية تبرر الوسيلة.  لطالما كنت أنا من أكثر المتحمسين لتلك المشكلة العالمية، ولازلت، مع رغبتي الدائمة في الاطلاع على المقالات المتعلقة بهذا الموضوع والوثائقيات ذات الصلة والحملات التي تحدث لكن مؤخرًا بدأت استشعر أن هنالك نبرة درامية مبالغ فيها لدرجة غير مقبولة مع تجنب الحديث عن الأصلاحات التي أتت ثمارها في وقتنا الحاضر من تخفيض نسب الغازات الدفيئة في الجو، يكفي متابعة صعود سهم الناشطة غريتا ثونبرغ لتفهموا المغزى من حديثي.

الكتب الرائعة هي التي تجعلك تبدل مفاهيم بداخلك مع اكتساب معلومات جديدة ذات أهمية وأيضًا هي من تجعلك تناقش وتطرح أفكار مناقضة نوعًا لما لبعض ما ذكر، أحدها كانت فكرة تم طرحها في بداية الكتاب وتحديدّا في فكرة نحن وهم وتقسيم العالم إلى فريقين فقط. صنف هانس روسلينغ الدول والشعوب إلى أربعة مستويات ترتقي من مستوى إلى آخر بإضافة بعض المزايا، فالمستوى الأولى هو ما يمكن وصفه بقوت عيش يبلغ دولار واحد لليوم، أبناؤك لا يرتدون الأحذية وعليهم الأنتقال من مكان إلى آخر سيرًا على الأقدام، إذن نحن هنا نتحدث عن فقر مدقع. في المستوى الثاني يتضاعف دخلك أربعة أضعاف أي ما يعادل 4 دولارات بإمكانك الآن أن تشتري طعامك، ستتمكن من شراء أحذية لأطفالك وتوفير موقد غاز، الكهرباء ستكون حاضرة لكن بشكل متقطع وهنا يوجد أكبر نسبة من شعوب العالم. المستوى الثالث مرة أخرى سيتضاعف راتبك أربعة أضعاف ليصبح 16 دولار معها ستتمكن من توفير وسيلة نقل، ليست سيارة بالطبع بل دراجة مع توفر خط كهربائي ثابت وهنا أيضًا يقع ثاني أكبر نسبة من سكان العالم بعد المستوى الثاني. المستوى الرابع والأخير هو أذا تمكنت من اكتساب أكثر من 64 دولارًا في اليوم فأنت هنا مستهلك غني لن تؤثر فيك الزيادات الطفيفة كثلاثة دولارات كما فعلت بمن ينتمى للمستوى الأول عندما نقلته للمستوى الثاني لكن ستتمكن حتمًا من اقتناء السيارة وركوب الطائرة. عندما تعرفت على تلك المستويات الأربعة والذي أسرف هانس في الحديث عنها في الكتاب وحتى آخر أيام حياته قبل رحيله محاولًا اقناع الأمم المتحدة بتلك التصنيفات بدلًا من دول نامية ودول متقدمة، شعرت أن هانس قد خفض كثيرًا من ضروريات الحياة فالفروقات بعد قراءتك لمختصر ما حاول قوله تبدو طفيفة جدًا بين المستويات الثلاثة الأولى تكاد تكون مستويات للفقر لكنه يقع بين السيء والأسوأ. أعلم أن الحياة تتطلب مأكل ومشرب وسقف يحمي ويأوي الأشخاص عند حدوث الأزمات لكن أليس من المخجل أن نتحدث عن تلك الأمور ونحن نعيش في زماننا الحالي مع كل التقدمات الحالية وضروريات العيش التي حتمًا تغيرت وأصبحت أكثر من مجرد مأكل ومشرب ومأوى بسيط؟.

 قراءة الكتاب أتت في ظروف ملائمة، فالكاتب من المنتمين لمنظمة الصحة العالمية والكثير من القصص والتجارب المذكورة داخلة تتحدث عن أوبئة تم التعامل معها فيما سبق ومصطلحات ذُكرت أصبحت مفهومة من قِبلي مع أجواء تبدو مألوفة كثيرة بالنسبة لي، أصبح بإمكاني إدراك طريقة عمل وتفكير من يعمل تحت نطاقها مع كيفية السيطرة على تلك الأمراض. عند اقفال الكتاب ستكتسب حتمًا صفة التواضع وهي موجودة مسبقًا عند الجميع لكنها ستنمو بشكل أكبر، رؤيتك للعالم وللأشخاص المنتمين له ستتبدل، ستعلم أن الجميع يتطور والجميع يحاول ونحن في وقت لم يسبق له مثيل من السيطرة على الأمراض وتوفير الأستقرار النفسي والأمان، لنحمد الله جميعًا على هذه النعمة.

 

من السهل أن نكون مدركين لكل الأمور السيئة التي تحدث في العالم. من الأصعب أن نعرف بشأن الأمور الجيدة.

-هانس روسلينغ