
في القرن السادس عشر، كانت السيطرة الكاملة للطرق الجنوبية المؤدية للهند والمشرق لصالح إمبراطوريتين هما الإسبانية والبرتغالية، ومن جانب آخر كان طريق الحرير مغلقًا بالكامل من قِبل الأمبراطورية العثمانية. مع تلك المسببات بدأ ولع الأوروبيين وخصوصًا ممن يقطنون في الجانب الشمالي الغربي بإكتشاف طريق شمالي يصل المحيط الأطلسي بالمحيط الهادي ليتأسس معها خط تجاري مع الصين. مع تعدد المحاولات لشق الطريق الجديدة بزغ اسم هنري هدسون، وفي أيامنا الحالية مازال لقبه يتداول في قارة أميركا الشمالية في ثلاثة تضاريس مختلفة أولها في النهر المار من الجهة الغربية لجزيرة مانهاتن وثانيها الخليج الشاسع الواقع في الأراضي الكندية والمضيق المؤدي لذلك الخليج هو المعلم الثالث، إلا أن رحلة البحث الأخيرة لهدسون انتهت بالخيانة وتخلي المرافقين له لتنتهي قصته بغموض يلتف حول مصيره.
كانت المحاولة المسجلة الأولى للإبحار من أجل قطع المسافة من خلال قمة العالم المتجمدة من قبِل الإيطالي جون كابوت في العام 1497 وتحت رعاية الملك الإنجليزي هنري السابع. فشلت المحاولة للوصول لقارة آسيا لكن سجل التاريخ لكابوت بأن يكون أول أوربي يطأ القارة الأميركية الشمالية بعد الفايكنج. أتى بعد ذلك المستكشف البرتغالي إيستيفاو غوميز والذي أُرسل في مهمة مشابهة تحت دعم إمبراطور إسبانيا في العام 1524، وصل إلى منطقة نوفا سكوشا قبل أن يضطر للتراجع لصعوبة التأقلم مع الأجواء القارسة. في العام 1530 وفي محاولتين لقطع نهر سانت لورانس، والذي يربط المحيط الأطلسي مع البحيرات العظيمة، لم يستطع الرحالة الفرنسي جاك كارتييه إكمال الرحلة لتعرضه لمنحدرات خطيرة أعاقت تقدمه، أطلق عليها اسم لا شين وكان على قناعة تامة بأنها من وقفت حاجزًا بينه وبين الصين.
في العام 1551 تم تأسيس شركة التجار المغامرون إلى الأراضي الجديدة (ومسماها الكامل هو شركة التجار المغامرون من أجل اكتشاف المناطق والجزر والأماكن الغير معلومة) من قِبل 240 مغامرًا ساهموا بمبلغ وقدره 24 باوند، وتم إعلان البحث عن مسار شمالي مؤدي لقارة آسيا كأولوية أساسية لها. السير هيو ويلوبي ترأس أولى رحلات الشركة في المسار الشمالي مروراً من فوق روسيا و بمعاونة من مساعده ريتشارد تشانسلر. غادرت الرحلة في مايو من العام 1553، والمكونة من ثلاثة سفن، العاصمة لندن إلى أن هبت عاصفة قوية بعدها بأربعة أشهر في مكان ما شمال النرويج لتتفرق السفن. غادر ويلوبي مع سفنتين ودار حول الرأس الشمالي ليبحر شرقًا من خلال بحر بارنتس إلى أن وصل لأرخبيل نوڤايا زمليا ثم انعطف عائدًا إلى شبه جزيرة كولا ولم تستطع السفن بعدها التحرك بعد أن علقت في الجليد في منطقة تعرف في وقتنا الحاضر بمورمانسك. على الجانب الآخر كان تشانسلر محظوظًا حين أبحر داخل البحر الأبيض لكونه طريقًا غير محفوف بالمخاطر واستقرت السفينة عند مصب نهر دفينا، ثم ارتحل برًا إلى أن وصل لمدينة موسكو والتقى القيصر ايفان الرابع الملقب بايفان الرهيب والذي من خلاله بعث برسالة إلى ملكة إنجلترا ماري الأولى مرحبًا بالتبادل التجاري بين الشعبين. عندما عاد تشانسلر إلى أرض الوطن كان قد تم تغير مسمى شركة التجار المغامرون إلى شركة موسكوفي، في تلك الأثناء ظل ويلوبي وطاقمه يصارعون من أجل البقاء إلى أن هلك أغلبهم أما نتيجة لظروف البرد القارسة أو بالتسمم بغاز أول أكسيد الكربون ونتيجة لذلك عُدت تلك الحادثة الأولى من ناحية الضحايا في سبيل اكتشاف الطريق الجديد المؤدي للصين من جهة الشمال.
ظل اكتشاف الطريق الشمالي المؤدي لآسيا صعب المنال في القرن السادس عشر بإستثناء ثلاث محاولات من قِبل المستكشف الإنجليزي والقرصان مارتن فروبشير في عقد 1570 (لا أحد منهم ذهب أبعد من جزيرة بافن)، هنالك أيضًا مغامرة فوضوية تمت من خلال شخص يدعى همفري جيلبرت في العقد 1580 أدت لاستعمار انجليزي للأراضي جديدة ولم ينتج عنها فتح الطرق الشمالية. تلت تلك المحاولات ثلاث محاولات فاشلة أخرى في عهد الملكة اليزابيث من خلال المستكشف جون ديفيس والذي التحق لاحقًا مع توماس كافنديش في طواف عالمي لاكتشاف طريق شمالي غربي ينطلق من الشرق وانتهت بالفشل.
ممر سري:
القليل من المعلومات التي عُرفت عن أيام هدسون الأولى لكن من المرجح أنه تدرج من صبي للمقصورة إلى قائد السفينة في بضع سنوات مارس خلالها الملاحة داخل البحر. توجد مخطوطة يذكر فيها البحار هدسون وتعود للعام 1607 مرتبطة بمهمة يُحضر لها من قِبل شركة موسكوفي لأكتشاف طريق في اتجاه الشمال الغربي، وترجو انجلترا أن تتوصل لذلك الطريق قبل أن يتم اكتشافه من قِبل منافسهم اللدود البحارة الهولنديين. تم ترشيح هدسون للشركة بواسطة القس ريتشارد هاكلويت، والذي كان جغرافيًا متميزًا، وقد أكد لهم القس مهارات وخبرة هدسون والتي تؤهله ليقود الحملة بالإضافة لمعلومات اكتسبها قد تكون معينة له في اكتشاف الطريق الجديد. اقتبس هدسون تلك المعلومات السرية من كتيب قديم كُتب منذ أكثر من 80 عام بواسطة تاجر من بريستول قد سمع أخبارًا عديدة من رحلات قديمة لاكتشاف ذلك الطريق من خلال والده والذي قد سافر مع القائد جون كابوت منذ قرن مضى. في الأول من مايو من العام 1607 ومن طاقم مكون من عشرة رجال بما فيهم ابنه جون انطلق هدسون من بلدة جريفسيند على سفينة صغيرة يطلق عليها “هوبويل” والتي سبق لها خوض مغامرة سابقة فيما مضى تحت قيادة القائد جون نايت في العام 1606 كُتب لها الفشل وعدم اكتشاف طريق شمالي يوصل غرب أوروبا بآسيا. أبحر هدسون من خلال جزر شتلاند وبعد مرور ستة أسابيع وصل لجرينلاند، ظل هدسون ملازما للساحل الشرقي للجزيرة لمدة أسبوع قبل أن يتجه شرقًا داخل عاصفة ضبابية في بحر جرينلاند، بعد مضي خمسة أيام تم رؤية جزيرة سبيتسبرغن والتي تم اكتشافها من قبل الهولنديين في العام 1596 وستصبح فيما بعد مكان مميزًا لصائدي الحيتان و حيوان الفقمة. عند حلول منتصف يوليو بلغت سفينة “هوبويل” أرض نورأوستلانده وتعتبر ثاني أكبر جزيرة في أرخبيل سفالبارد وتوجد في أقصى الشمال. قطع الجليد الضخمة جعلت من التقدم أمرًا مستحيلاً مجبرةً هدسون على العودة إلى أرض الوطن، وبعد اتخاذ ذلك القرار تم وصول سفينة “هوبويل” إلى بلدة تيلبري في إنجلترا في الخامس عشر من شهر سبتمبر.
تراجع قسري:
بعد مرور سبعة أشهر، ارتحل هدسون مع طاقم بحارة السفينة “هوبويل” والتي تضم زميله روبرت جوه في مهمة اكتشاف ثانية وبتمويل من ذات الشركة موسكوفي أملاً في العثور على الطريق المستهدف هذه المرة، المسار المقترح كان الشمال الشرقي إلى الأعلى من روسيا. اخترقت السفينة “هوبويل” الدائرة القطبية بعد قطعها مسافة 2500 ميل ووصلت بعيدًا إلى نوفايا زمليا، الطريق حول بحر كارا كان مسدودًا بواسطة كومة ضخمة من الجليد، التقارير كانت تشير عن عزم هدسون الأتجاه غربًا لكن مع ازدياد حالات العصيان والتمرد بين طاقم البحارة اضطر للتراجع إلى انجلترا. في العام 1609 تخلى الإنجليز عن دعمهم لهدسون ليتجه لشركة الهند الشرقية الهولندية لتجهز له سفينة سميت “هاف مون” وتكون مهمتها البحث عن ممر شمالي لصالح الهولنديين، ومع طاقم بحارة مختلط من إنجليز و هولنديين ستنطلق الرحلة الأستكشافية مرة أخرى في الاتجاه الشرقي وإلى الأعلى من روسيا. غادرت السفينة ميناء أمستردام في شهر أبريل وفورًا شعر هدسون بعدم نجاح المهمة نتيجةً للبحار المتجمدة وكان قد سمع أقاويل تتحدث عن مسار غربي من خلال قارة أميركا الشمالية وأبحر من خلال المحيط الأطلسي ليصل نيوفاوندلاند في بداية شهر يوليو. رست السفن في بلدة لاهاف في منطقة نوفا سكوشا من أجل الإصلاحات والتزود بالإمدادات الغذائية. الرحلة الأستكشافية ظلت لعشرة أيام وفي تلك الأوقات داهم البحارة قرية يقطنها السكان الأصليون ليلحقوا بأهلها الدمار ثم أبحروا بعد ذلك باتجاه الجنوب حتى بداية شهر أغسطس ليبلغوا “كيب كود”. استمروا في الإبحار جنوبًا داخل المياه المفتوحة قبل أن تعطف السفينة في اتجاه الغرب بالغين بذلك خليج تشيزبيك وبالقرب من المستعمرة الإنجليزية جيمس تاون، والمعروفة بكونها أول مستعمرة انجليزية في أميركا. ومن دون أن يعلم هدسون عن المجاعة الموجود في مستعمرة جون سميث أكمل طريقه شمالاً بمحاذاة الساحل حتى تمكن من الوصول إلى ساندي هوك في أول أيام شهر سبتمبر عابرًا ما يعرف اليوم بخليج نيويورك. في الحادي عشر من سبتمبر من العام 1609 وبعد أن دخل هدسون الخليج العلوي ظل بعدها عدة أسابيع محاولاً اكتشاف المنطقة والممرات المائية التي تصب في الخليج وأطلق عليه مسمى نهر الجبال، لكن كلنا على علم بأنه اتخذ هدسون مسمى له فيما بعد، وقد ظن بأنه على بعد أميال بسيطة من اكتشاف المسار الكبير والذي يمكن أن يصل للمحيط الهادئ فبالتالي تتم الرحلة إلى الوجهة النهائية آسيا خصوصًا مع اتساع النهر بشكل كبير عند منطقة تابان زي لكن كل الآمال تبددت عندما انتهى بهم الحال في ألباني وكان من الواضح أن لا وجود لمسار في القادم من الأميال.
معارف جديدة:
استمرت المواجهات بين شعب جونكوين (السكان الأصليون) والأوربيين أسابيع عدة نتج عن إحداها إصابة عضو من أعضاء طاقم البحارة جون كولمان في عنقة بواسطة سهم أطلق من قِبلهم وبناءً على هذا تم إعتقال العديد من السكان الأصليون، لكن الصورة لم تكن قاتمة دائمًا فيما بين الشعبيين قفد تمت بعض أنواع التبادل التجاري فيما بينهم حتى أن هدسون بنفسه قد قبل دعوات عشاء عديدة وضعت له من خلال زعماء القبائل. أُعلنت المنطقة الجديدة تابعةً للهولنديين وتم أمر ببناء مدينة نيو أمستردام على جزيرة مانهاتن (عُرفت لاحقًا بنيويورك) وأصبحت هذه المدينة بعد خمسة عشر عامًا عاصمة للمستعمرة الهولندية في الأراضي الجديدة. أبحرت سفينة هاف مون في رحلة عودتها لكن بدلاً من الذهاب للوجهة المتوقعة إلى أمستردام توقفت في دارتموث. هناك بعض التكهنات التي تعتقد بأن هدسون كان يعبث مع الهولنديين وأن الرحلة ما هي إلا حيلة منه للاستيلاء على خرائطهم وقد ذهب عن عمد جنوبًا خلال الرحلة الأستكشافية، وكدليل على صحة هذه الادعاءات كان الأنجليزي غاضبًا و نتج عنه احتجاز قائد المركبة وأسره من أجل الاستيلاء على مخطوطاته.
متاهة لا نهاية لها:
سرعان ما غُفر لهدسون حول احتمالية كونه يعمل بازدواجية أثناء خدمته للهولنديين وتم التعاقد معه من قِبل تجار بلده (تعاون بين شركتي الهند الشرقية البريطانية وموسكوفي) لرحلته الأستكشافية القادمة. هذه المرة مع طاقم أكبر ضم فيها أحد أهم صانعي المشاكل بين البحارة والحديث هنا عن هنري جرين، غادر هدسون ميناء لندن في شهر أبريل على متن سفينة ديسكفري، تم الإبحار من خلال جزر الفارو و إيسلندا قبل التوجه غربًا إلى الحافة الجنوبية من جرينلاند عبر من خلالها بحر لابرادور لتقطع السفينة بعدها مضيقًا كان هدسون قد أسماه “فيريوس اوفرفلو” ويقع بين نيوفاوندلاند و جزيرة بافن. حدثت ظروف خطيرة في خليج أونغافا جعلت السفينة عالقة هناك لعدة أسابيع. تم جرف السفينة بعيدًا بناءً على محاولة أخرى منها لعبور مضيق “فيريوس اوفرفلو” إلى داخل خليج شاسع (عُرف فيما بعد بإسم خليج هدسون) ظن طاقم السفينة بعد رؤيته بأنهم توصلوا أخيرًا للمسار الذي سيؤدي بهم للوجهة النهائية وهو الوصول لقارة آسيا بطريقٍ شمالي. بعد مضي أشهر في محاولة الوصول للمحيط دب اليأس داخل الطاقم وقد كتب أحدهم في عبارة تصف حالهم “متاهة من دون نهاية” أعاق الجليد مسيرة السفينة ليضطروا بعدها قضاء الأجواء القاسية في خليج جيمس. أدت تلك الأحوال إلى أن يعلن جوه العصيان على القائد ومع بداية تدهور أعضاء الطاقم ومصارعتهم مع الجوع أصبح تكوين مؤيدين له ليس بالصعوبة البالغة. عندما بدأ الجليد في الذوبان محررًا السفينة ديسكفري في ربيع العام ١٦١١ ظل هدسون متمسكًا بإكمال الرحلة مما ولد غضبًا لدى البحارة، وبعد وصولهم لحافة الانهيار الجسدي تحديدًا في شهر يونيو وبتخطيط من جوه وجرين قرر الجميع إرسال هدسون وأبنه الصغير جون مع سبعة من رجاله المخلصين أو من أصبح جسده غير قادر على الاحتمال لمواصلة رحلة العودة للوطن في قارب مفتوح مع بعض الأدوات والأطعمة اللازمة تاركين القارب يطفو في خليج جيمس ولم يبقى لهم أثر بعد ذلك اليوم تاركين نهاية المستكشف هدسون مجهولة.
*هذه المقالة نشرت في مجلة BBC History Magazine في عدد خاص عن المستكشفين