كرة صفراء

في أكتوبر الماضي تم الإعلان عن اقامة بطولة استعراضية للتنس في الدرعية  لتصبح بذلك أول بطولة دولية في هذه اللعبة تقام في السعودية، يستحيل جدًا تمكني من وصف الشعور عند سماعي للخبر، كان مزيجًا من فرح وجنون في آن وعدم تصديق للخبر في آن آخر،  كيف لا وهو شعور التجربة الأولى والتي دائمًا ما نظل متمسكين بها لتعطينا متعة الحياة قبل الانغماس في روتينات الأيام المتلاحقة. أول ما خطر على بالي هو من سيكون مشاركًا من اللاعبين الكبار؟ أو كما يحب أن يطلق عليهم عشاق التنس “الكبار الثلاثة” والمقصود هنا المصنفين الثلاثة الأوائل للعبة طوال العقد الماضي: فيدرير، و نادال، وجوكوفيتش.  تم الأعلان عن أربعة منهم و أنا على معرفة قوية بأثنين وهما: فافرينكا و فونيني، وكنوع من التشويق تم التحفظ على الأربعة أسماء الأخرى. لم أطق صبرًا حتى يتم الأعلان عن الأسماء المتبقية فقمت بشراء تذاكر النصف نهائي على أن ألحقها بالنهائي حينها وكلي أمل أن يكون فيدرير من ضمنهم.

في أحد الأيام ركضت زوجة الكاتب الأميركي ديفيد فوستر والس مسرعةً إلى غرفة المعيشة بعد سماعها صرخة مدوية قادمة من زوجها، ظنت بأن سوءًا قد حل به، عند وصولها للغرفة وجدت حبات فشار متناثرة على قطع الأثاث والأرضية ولمحت معها الزوج جالسًا على ركبتيه وقد بدأت عيناه بالتجحظ من هول ما قد رأى، ردة الفعل تلك كانت للقطة قام بها فيدرير ضد اللاعب المخضرم أجاسي في نهائي بطولة أمريكا المفتوحة عام 2005، المعلق الرياضي واللاعب السابق الشهير جون ماكنرو وصف تلك اللقطة قائلًا “كيف يمكن للاعب أن يحرز نقطة فوز من وضعية صعبة يستحيل معها رد كورة ناهيك عن إحراز نقطة التقدم منها”. يطلق والاس عبارة “لحظات فيدرير” وهو وصف للقطات يقوم بها فيدرير تشعرك بأنه قد قَدم من خارج المجرة، وبالإمكان اعتبار تلك اللحظة واحدةً منها. لطالما كان والاس مغرمًا بالتنس ففي صغره مارس هذه اللعبة حتى فهم تفاصيلها وخباياها ومع مرور السنين وتعمقه في الأدب ظل ذلك العشق لتلك الكرة الصفراء لم يخبت فحرص على مراقبة الأحداث وتحليلها وكتابة مقالات مفصلة لكبرى الصحف والمجلات. كانت أعظم مقالاته تتحدث عن لاعب التنس المميز فيدرير. والاس لخص عظمة فيدرير في عام 2006 بكلمات وجمل كانت سابقة لعصرها كأنها تنبأت مبكرًا بمكانة اللاعب التي سيحتلها فيما بعد، كأكثر رياضي من رياضيي الكرة الصفراء تحقيقًا لبطولات الجراند سلام الكبرى.  

يقول والاس “فيدرير هو أحد أولئك الأساطير واللذين لا تنطبق عليهم قوانين الفيزياء، كمثال آخر على هؤلاء لدينا لاعب كرة السلة مايكل جوردن والذي بإمكانه القفز عاليًا لارتفاعات لم يصل إليها إنسان من قبله والبقاء هناك معلقًا لمدة زمنية ضاربًا بقوانين الجاذبية الأرضية عرض الحائط”. تحركات فيدرير رشيقة تظهر لك بمظهر عدم الأعياء أو بمعنى آخر يقوم بتحريك جسده من دون بذل مجهود، يصفه والاس هنا بالخارق للعادة. وفي أحيان كثيرة يظهر فيدرير بمظهر الأقل أو الأضعف قبل مواجهة الخصم لكن الأمور تسير في عكس الأتجاه دائمًا لصالحه. فيدرير في حديثه القصير مع والاس، ومع المعرفة المسبقة بمشاكل فيدرير الكبيرة منذ الصغر مع الخجل وضعف الشخصية، يبدو غريبًا نوعًا ما أن يتحدث عن نفسه لكنه على الرغم من كل هذا عبر عن طريقة لعبه بكل ثقة بأنها “الجميلة”، يضيف فيدرير: “بعض اللاعبين يمكن اعتبارهم الأقوى وبعضهم الآخر الأسرع وآخرون المهتم بنوعية ضرباته، أما أنا فيمكن التعبير عن أدائي بالأجمل”.

انطلقت البطولة وتم الإعلان عن الأسماء المتبقية للأسف فيدرير ليس من ضمنهم ولا حتى زميليه في المنافسة نادال و جوكوفيتش.هناللك أسماء واعدة يتنبأ لها بمستقبل باهر في التنس مثل ميدفيديف صاحب التصنيف الخامس والصغير في العمر نسبيًا فمن يعلم قد تتاح له فرصة الأنتصار ببطولات جراند سلام كثيرة وبالتالي أكون قد حضرت لأحد أبطال اللعبة القادمين من المستقبل. بالإضافة لكل هذا تظل فكرة مشاهدة مباراة تنس من أرض الملعب جميلة. تم الأخبار عن مواقف محددة لحاضري بطولة التنس والتي يستلزم استخراج تصريح لها في مكان يبعد عن الملعب 17 كيلو، لا بأس لأن المقيم في مدينة الرياض يعلم أن هذه المسافات لا تمثل شيئًا هي جزء من روتين الرحلات اليومية. ذهبت قبل بدء مباريات نصف النهائي بساعة ونصف وعلى امتداد طريق الملك خالد جنوبًا موقع تسليم التصريح ثم امتداد طريق الملك خالد شمالًا حيث موقع المباراة، مسافة الطريق كانت محتملة لكن وكما هو معلوم ضرورة الذهاب للمكان المخصص لمواقف السيارات حتى يتسنى لنا ركوب حافلات نقل تنقلنا لموقع الفعالية، هنا استهلكت طاقتي وصبري. لم أكن أعلم بأن صبري قليل وطاقتي ذو نفاذية صغيرة إلا عند مواجهة هذا الوضع الكارثي، السيارات متراكمة فوق بعضها لم يسألني أحد عن التصريح الذي استهلك وقتًا كان من الممكن استغلاله. تبين لي فيما بعد أن المواقف لم تكن مخصصة فقط لحضور كأس الدرعية فبالإضافة لهم كان هناك حضور الحفل الموسيقي المصاحب وزوار واحة الدرعية، اعتقدت بأن يتواجدوا في مواقف أخرى حتى لا يحصل هذا الازدحام لكن تحليلاتي كانت خاطئة. هذا الخطأ الكبير كلفني فرصة مشاهدة مباراة النصف النهائي الأولى بين مونفيس وفونيني فبمجرد دخولي للملعب، بدأ ميدفيديف وغوفين في عمليات الاحماء. خاب أملي قليلًا ففرصة جعل يومي كاملًا لمشاهدة مباريات التنس تقلص إلى نصفها مع مزاج متعكر. كانت المقاعد غير ممتلئة مجموعة من الناس متناثرين بين أرجاء الملعب، مع أغلبية طاغية للحضور الأجنبي على المحلي، يبدو أن اللعبة ما زالت تعاني من قلة شعبية أو من الممكن أنها لم تتلقى الحملة الإعلانية المناسبة لها.

أعلن حكم الكرسي عن بدأ المباراة، عم السكون المكان أخذ ميدفيديف بالاستعداد لضرب كرته من خلال رميها إلى أعلى بعدها بدأت عملية تبادل الضربات بين اللاعبين. سرعة الكرات المتبادلة من الأشياء التي لا يمكن استشعارها عن طريق التلفاز، هذه المتعة جعلتني أنسى قليلًا شعور التعكير الذي صاحب هذا اليوم لكن ميدفيديف كان مسيطرًا تمامًا على مجريات اللعبة لم يجعل غوفين يتنفس ولو قليلًا خصوصًا إذا أخذنا بعين الأعتبار أن البطولة استعراضية الهدف الأساسي منها هو امتاع الجمهور إلا أن اللاعب الروسي كان حاضرًا بصلابة ذهنية عالية جعلته ينهي المباراة سريعًا ومن دون تبادل طويل للكرات، وفي عرف مباريات التنس تعتبر مباراة غير جيدة ومملة. 

“إذا كنت ممن يشاهد مباريات التنس من خلال شاشة التلفاز، فأنت ببساطة لا تملك أدنى فكرة عن قوة ضربات اللاعبين للكرة وسرعة انتقالها من مكان إلى آخر، والوقت القليل المعطى لهم للحاق بها والتمكن من الوصول إليها والالتفاف بأجسادهم لضربها بقوة ليحرزوا من خلالها نقطة تحسب لصالحهم” 

اقتبس هذا الكلام من حديث والاس عند حضوره نهائي ويمبلدون 2006 بين فيدرير ونادال من أجل إجراء حديث صغير مع فيدرير حتى يساهم في مقالته عن هذا اللاعب والتي ستصدر بعدها بشهر. أقتبس هذه الكلمات وأنا مستشعرة تلك الحروف ومدى جمالية مشاهدة مباراة تنس حيّة من الملعب رغم أن المباراة لم تكن ممتعة والبطولة لم تكن رسمية والخصمان المتقابلان في هذه المباراة لا يعتبرون من الأفضل، ومع كل تلك المعوقات كان الشعور جميلًا. كل هذا يجعلني أتسائل كيف سيكون الأحساس عند حضور نهائي بطولة ويمبلدون؟

مراجع:

كتاب String Theory David Foster Wallace on Tennis

الحلقة (1) لنتحدث عن…….. التنس

Processed with VSCOcam with m3 preset

دائماً ما أسئل عن سبب تعلقي بمشاهدة التنس (أو برياضة التنس بشكل عام) لا أنكر بأن هذا السؤال جعلني أراجع بداية ارتباطي بهذه اللعبة. بعض المعلومات قد محيت بسبب قدمها وبعضها مازال عالقاً حتى هذه اللحظة, لعلي سأجعل العام 1994م نقطة انطلاق للحديث عن هذه العلاقة.

كنا كعائلة قد انتقلنا للتو من مدينة الطائف بعد العيش فيها لمدة عامين بسبب عمل والدي في القطاع العسكري, ولعل العالم بخلفيات أمر هذه الوظائف فحتماً سيعلم أن التنقل من مدينة لأخرى سمة بارزة لها, عدنا للرياض واستقرينا في منزل جديد كنا نريد اقتناء ستالايت شبيه بستالايت الموجود في منزلنا السابق في الطائف (كان يعرض فقط قناتي mbc  و مصر) وفي ذلك العام تحديداً بدء توسع بث القنوات الفضائية أكثر حيث أصبحت على ما أذكر أكثر من عشرين قناة وانطلقت قنوات متخصصة بالرياضة  كالـ ART  طبعاً محدثتكم كانت تبلغ من العمر تقريباً 8 سنوات ونصف كنت مجرد منصتة ومتابعة لتحركات أشقائي الأكبر مني عمراً أحداهن كانت في مرحلة المراهقة (الثانوية تحديداً). كانت شغوفة بكل ما يبث على التلفاز من ضمن ما كان يشغل اهتمامها مشاهدة مباريات التنس طبعاً كنت لا أعلم أي شيء عن هذه الرياضة ولا عن قوانينها لكن المشهد ظل في بالي أجاسي ذو الشعر الطويل حاملاً كأس البطولة, اكتشفت فيما بعد انها بطولة أمريكا المفتوحة للتنس, وطبعاً كان اهتمام أختي ليس لجمال اللعبة بل لكونها معجبة بهيئة أجاسي وقصة الحب التي تجمعه مع الممثلة بروك شيلدز كحال أي مراهقة.

أتى العام 1996م انتقل والدي للعمل في مدينة حفر الباطن, لكن هذه المرة لم ننتقل معه لوجود اثنين من أشقائي في الجامعة فيصعب نقلهما إلى مدينة أخرى فبالتالي اضطررنا لترك والدي لوحده هناك لكن كل ما سنحت لنا الفرصة للذهاب ذهبنا وحتى لو كان مجرد إجازة نهاية أسبوع (خميس وجمعة). كان والدي يقيم في منطقة سكنية خاصة للموظفين العسكريين يوجد بها كل ما يلزم ليغنيك عن الذهاب إلى المدينة (حفرالباطن), والتي على ما أذكر كانت تبتعد عن المنطقة السكنية حوالي الـ 80 كيلو متر, كان الجانب الترفيهي والاجتماعي مفعل بشكل كبير في المنطقة أذكر مسرح النادي جيداً كانت تقام عليه عدة نشاطات ومسرحيات. أيضا كانت تقام المعارض للأعمال اليدوية الخاصة بسكان المنطقة, لا أذكر بأني قدمت إليها إلا وكانت مشغولة بتنظيم أمر ما. هنالك أيضا كانت توجد ملاعب للتنس تقريباً تلتف خمسة منازل بجانب بعضها على شكل نصف دائرة وفي آخرها يوجد ملعبين للتنس, لا أنسى تلك الأيام من عمري أبداً كنت أذهب أحيانا مع شقيقتي واحياناً أخرى لوحدي للملعب تعلقت به بشدة طلبت المضارب من والدي فوافق على جلبها من النادي الرياضي, كانا مضربين أحدهما كان على الطراز القديم الخشبي (ثقيل جداً لدرجة أن يدي أصيبت بإعياء كبير معه) والآخر أسود عصري يسهل حمله. كنت مستمتعة بركل الكرة لساعات وساعات وكادت عائلتي أن تنسى وجودي معهم لكثرة تواجدي في الملعب.

مر العام سريعاً وعاد والدي للرياض وانقطعت عن تلك الملاعب لكن ظللت ألعب التنس على هيئة سكواش (بركل الكرة على جدار المنزل وضربها مرة أخرى) لفترة طويلة لا أذكر متى انقطعت عنها لكنها ظلت لسنوات عديدة. لكن لنعد لذلك العام إلا وهو 1997م طبعاً تذكرون حديثي عن الـ ART  ونقلها لبطولات التنس لكن في هذه السنوات أصبحت مشفرة ولكن شكراً لله مرة أخرى بأن جعل لي أخوة يعشقون كرة القدم وتحديداً الدوري الإيطالي فكان لزاماً عليهم الدفع لمشاهدتها تاركين لي متعة مشاهدة التنس في هذا العام برز اسم لامع في عالم التنس الخاص بالسيدات المراهقة الصغيرة ذات الـ 16 عاماً مارتينا هينقيز أعجبت بها جداً وبدء تعلقي بمتابعة مباريات تنس النساء كنت بمجرد بدء مباراة للتنس الرجالي أترك التلفاز حتى تعود مباراة أخرى في تنس السيدات ومرت السنوات حتى أصبحت مشاهدة لعبة التنس وخصوصاً بطولات الجراند سلام جزء من حياتي أصبح لزاماً علي متابعتها كاملةً حتى إذا كانت مباريات في الأدوار التمهيدية كنت شغوفة حد الجنون.

في العام 2001م وفي بطولة ويمبلدون أتت مباراة بين فيدرير وسامبراس في الدور16 كانت مباراة من ضرب الخيال استطاع فيها فيدرير ذو الـ19 عاماً إيقاف مسيرة أسطورة الملاعب العشبية بيت سامبراس لن أدعي بأن أعلنت تشجيعي له منذ ذلك الوقت ولكن لا أنكر أعجابي بإدائه. مر عامان حتى بدأ فيدرير بالسيطرة الكاملة على بطولات الجراند السلام لم يكن هناك على الساحة من منافس آخر يليق بقدراته البعض يقول بأنها فترة مملة إلى أن ظهر نادال وبدأ بمزاحمة فيدرير على البطولات والبعض الآخر يقول أنها فترة ذهبية للاعب أسطوري كفيدرير لن تتكرر مرة أخرى, بالنسبة لي كانت سنوات جميلة كنت مشجعة للاعب أندي روديك تارة ومشجعة لليتون هيويت تارة أخرى لم أكن قد أعلنت عن البطل الخاص بي لكن أذكر في هذا العام أي 2003 ظهر شاب صغير يدعى نادال كانت له مباراة جنونية ضد يونس العيناوي امتدت لخمس مجموعات وانتهت بخسارته الجميع تحدث عن موهبته الفذة والتنبؤ له بمستقبل لامع في عالم التنس ومنهم أنا وفعلاً لم يخيب الظن فبعد مرور العامين توج نفسه ملكاً للملاعب الترابية, ومازال, أعترف , لا أعلم لماذا استخدمت كلمة أعترف ربما لإحساسي الضمني بإن تشجعيه كان كالذنب بالنسبة لي نظراً لتحولي بعدها لتشجيع فيدرير,  بأن كنت مشجعة وبحماس لنادال أنظر إلى نفسي الآن ولا أعلم السبب وراء ذلك الحماس هي فترة ومضت ولم تطل كثيراً لكنها كانت مسلية حتى وأن ذلك التشجيع والحماس تحول إلى النقيض تماماً.

في العام 2006م تقريباً بدأ حماسي ينصب كلياً تجاه فيدرير وأحب أن أطمئنكم بأنه مازال هو المسيطر حتى الآن لا وجود لتقلبات أخرى في التشجيع بل وأكاد أجزم بأن لن أعلن نفسي كمشجعة للاعب آخر كما فعلت مع فيدرير ستكون التنس بعد رحيل فيدرير مجرد مباريات لمتابعة الرياضة نفسها لا أكثر.

في أواخر العام 2013م توجت حبي لرياضة التنس بممارستها على أرض الواقع من خلال نادي رياضي ومدربة محترفة لا أستطيع أن أصف مدرى روعة هذا الشعور, أكتب لكم الآن وأنا قد اتممت العام تقريباً في ممارستها, بقي لي خطوة صغيرة ستكون الأروع حتماً في قصتي مع التنس إلا وهي حضور أحد مباريات الجراند سلام لا يهم أن كانت لفيدرير أم غيره من اللاعبين ولكن المهم هو الشعور بالمباراة وهي أمامك والكرة قريبة جداً منك أتمنى من كل قلبي أن ييسر لي الله هذه الرحلة العين والتركيز على شهر مايو من العام الحالي لبطولة رولاند غاروس في باريس أمنياتي بأن تكتمل وأن لا تتعرقل دعواتكم لي بتحقيقها.