منزل أعلى الجبل

ما من طريقٍ إليه

⁠‫كمنزلٍ ريفيّ وسطَ المروج

⁠‫لا درب يهتدي إلى بابهِ الضيّق

⁠‫المتوحّدِ فوق العتبة

  •  بسام حجار

في سنوات مضت، كنت أقطن مدينة الطائف. تحديدًا في الصف الثاني والثالث ابتدائي. فتعريفي للسنوات قد ارتبط بمقعد الدراسة لا التاريخ المدون، فتلك السنة كنت أدرس الصف الثاني الابتدائي وتلك كانت السنة التحضيرية في الجامعة وهكذا. أما بعد مغادرة تلك المقاعد أصبح لزامًا علي البحث عن حدث مميز بداخلها  كي تبرق سريعًا عند التطرق لها، أو أعانها الله ستغادر مجبرة لتتمدد على  آرائك النسيان. 

اعتدنا خلال فترة إقامتنا هناك الذهاب كعائلة في عطل نهاية الأسبوع لجبل منزوِ يخلو من الزوار والمصطافين. وقد تبدو كلمة منزوِ غريبة بعض الشيء أن أُخذ بعين الاعتبار الطبيعة الجغرافية لمدينة الطائف والتي تقع في نهاية سلسلة جبال السروات أي أن الجبال تقدم نفسها كخرزات مترابطة داخل سلسلة ودون أية فواصل تبعدها عن بعضها البعض فظاهرة تواجد جبل وحيد إن صح ذلك التعبير تعد مستحيلة بيد أن ذاكرة الطفلة تحذف ما شاء لها من صور. 

طريق صغير عُبد على عجل يمكنّ الزائر من الصعود لأعلى قمة ذلك “الجبل الوحيد” ولا أعلم كم يبلغ ارتفاعه بالمقاييس المترية ولا أعلم إن كان شاهقًا بحق كما برز في مخيلتي الطفولية.  المؤكد ان زواره قلة ومن النادر أن تتواجد عائلة أخرى معنا في ذات الوقت. أما عن سبب ترددنا عليه فالعلة تكمن في عدم وجود أقارب في تلك المدينة نملأ بهم فراغات تلك العطل. نتسامر معهم و نتزاور فيما بيننا كما كانت أغلب عوائل ذلك الزمن تفتعل الأمر في لحظات فراغها. عالمنا تمركز في الرياض وضواحيها.

هناك في الأعلى انتصب وحيدًا وشامخًا منزل بسور يسهل رؤيته من مختلف الجهات، كون الرائي يظل دومًا في أرض منخفضة بالنسبة إليه، فما أن ترفع عينيك حتى يتباهى بمكانته العالية. نظرة مغرورة يرمقك بها تتغلغل داخل جوفك ساعة التقائكما. وكنوع من مجابهة ذلك العلو كنت أصعد قمة صخرة ضخمة قد وسمتها باسمي ولا أدري أن كان الاسم قد ظل موجودًا أو احتوته عوامل التعرية بيديها الرحبتين. “أسماء” حُفر هكذا دون نقصان، بهمزتي القطع والمتطرفة، رغم عدم جدوى الأخيرة. وقد قرأت مؤخرًا للروائية أولغا توكارتشوك على لسان بطلتها في رواية “جر محراثك  فوق عظام الموتى” عن غباء الأسماء التي نحملها،  وعبثية الاختيارات التي تحدث رغمًا عنّا. “فقر في الخيال” هكذا وصفته وبسبب ذلك ظلت تطلق الألقاب على الأشخاص الذين تلتقيهم دون أن تنادي أي منهم باسمه ظناً منها أن الصفات أفضل في مطابقة  حقيقة الأشخاص من الأسماء. أما أنا فعلى ما يبدو وعلى عكس بطلة أولغا كنت سعيدة باسمي. ربما لسبب لو علمت عنه كانت قد غفرت لي تلك النشوة الصغيرة.  فقد قصت علي والدتي مرارًا وتكرارًا قصة إنقاذي من خطر ماحق ومستقبل مظلم نظير إصرار والدي  إطلاق اسم”…..” علي تيمنًا بوالدته، جدتي رحمة الله. “لو تعلمين ماذا فعلت حتى عدل عن رأيه” تلك كانت جملتها المغذية لفرحتي والتي ما فتئت أجهر بها دومًا كوثيقة نصر وتلك الصخرة كانت الشاهدة، “أنا أسماء لست …..”.

لننسى الاسم ونعود لذلك المنزل المترصد. رغبت بشدة في استعادة الصور المتعلقة به وهنا أتحدث عن صور ملموسة فوتغرافية لا خيالية مهترئة اجتُرت من الحصُين داخل الدماغ. سألت والدتي مرارًا وتكرارًا وهي المسؤول الأول عن حماية ألبومات الصور العائلية أن تخرج لي ذاك المخصص لفترة إقامتنا في الطائف، ألا أنها دائمًا ما ترد معترضة، وكأنها مهمة شاقة توازي فتح مغارة علي بابا. لأن إخراج الألبومات جميعها واستخراج ذلك المرغوب ومن ثم إعادتهم مرة أخرى مهمة وَعِرة لا بد من أن ينشأ خلالها ضياع بعض من تلك الصور. أشعر أن أمي تتهرب من رؤية الصور كون من هم بداخلها كبروا وغدا معظمهم آباء وأمهات لأشخاص يكبرون أولئك المتجمدين بداخلها. 

عودة لتلك الليالي الجبلية تراءى لي مرأى سكان ذلك المنزل أو بالأصح الساكن الوحيد، بما أنه معزول لا بد أن يكون مالكه في تواءم معه. لن أبالغ في تخيلاتي فكان دائمًا ما يتهيأ لي من دون ملامح كظل يركض مبتعدًا كلما أردت أن أتصوره.  تراه ماذا يفعل طوال اليوم داخل ذلك المنزل؟ هل يراقب من يقبعون في القعر بعيدًا  خشيةً منهم أم تهكمًا. أو لعله مولع بالثقافة اليابانية والتي تقدس الجبال في مورثها، “حرم الآلهة” كما أطلقوا عليها. وسواء التقطت تلك الإجابات أم لا الشيء المؤكد الذي كنت أشعر به تجاه المنزل و قاطنه هي الغبطة المحضة. 

مؤخرًا عاد أخي من رحلة عمل إلى الطائف، لأجد نفسي وبسرعة أسأله أن كان قد ذهب لصخرتنا الشهيرة والمنزل المتربص فوقها. ليرد علي قائلًا “تقصدين المبنى العسكري”. تجمدت للحظة فذلك وصف لا يطابق ما تهمس به مخيلتي. ليكمل أخي الحديث في محاولة منه للتذكير به “كان يوجد بجانبه برج اتصالات ضخم وهو سبب استعماله منشأة عسكرية” وبشكل سريع بدأت الصور في التدفق لتظهر على حين غرة بوابة محكمة الأغلاق تمنع أي شخص من العبور خلالها أسفل ذلك المبنى وهي الشبيهة بتلك المتواجدة بجانب المنشآت العسكرية والذي على ما يبدو وكونه غير ملائم لأحداث قصتي المتخيلة كان قد حُذف من ذاكرتي عمدًا. فقد تقمصت ذاكرتي دور المشذَّب رغبةً منها في إضفاء متعة داخل قصصي المتخيلة ألا أنها قد نسيت أن هنالك أدمغة أخرى قد تقوم بإنارة تلك الصور المخبأة لافتضح معها كذِبها الأبيض معي. ما أقبح الحقيقة. لا أود الاستماع إليها. مكتفيةً كنت بذلك الوهم والخيالات المتمسكة بها. الآن ما عساي فاعلة بعد أن أفلت خيط تلك القصة من يدي.

أضف تعليق