أحلام اليقظة 3

نفس الوقت المعتاد، ذات المقعد القابع في آخر المقهى بجانب تلك النافذة الكبيرة و الملتقطة لمنظر حديقة الحي رفقة أطفال يلعبون بلا كلل ولا ملل لحين غروب الشمس، عندها تخبو كل طاقتهم معلنةً العودة لتلك المنازل المعلبة صحبة الأجهزة الإلكترونية القادرة على تكيفهم داخل عوالم افتراضية يرغبون بشدة في العيش داخلها. كل ذلك لا يهم طالما توفر الهدوء هنا في المقهى، رفقة موسيقى غربية تصيح هامسة عبر سماعات مثبتة في السقف. رائحة المخبوزات تملأ المكان مضيفةً طاقة لا تُكتسب عن طريق قضمها، بل سيتكفل الدخان الصاعد من فوقها بإتمام تلك المهمة. 

تُخرج جهازها المحمول ليستقر في موقعه على الطاولة القريبة من الفتحة الكهربائية لغرض التزود بالوقود حتى تتمكن من العمل. ذلك الجهاز المصاب ببضع إعاقات تراكمت عليه بمرور السنين، اعوجاج بسيط في الركن الأيمن، قطعة خُلعت من مكانها لتنتقل صوب مكان غير معلوم، خدوش تنتشر في أصقاع مختلفة ضمن حدود الجهاز. إلا أن كل هذا لم يهبط من عزيمتها ناحية روعة هذه الآلة، ومدى فعاليتها طوال السنين التي مضت، هو حتمًا درع تتكئ عليه في إنجاز المهام اليومية والتي ترغب بشدة في إتمامها. 

يجمع ذلك المقهى العديد من أشباهها، أُناس تتسمر أعينهم صوب شاشات الأجهزة المحمولة واللوحية، وأخرون ينغمسون داخل أحرف كتاب تلتقطه أيديهم. من شأن كل هذا أن يكون مشهدًا واقعيًا تأنس له الروح في بحثها الدؤوب عن المسليات، وهو ما حدث لها بالفعل، إلا أن مرأى تراءى لها أكثر من مرة عدته مألوفًا ويجب أن يبرز في يومها. ففي كل مرة تحط قدماها داخل المقهى تجد ذات الصورة بكافة تفاصيلها حاضرة المرة تلو المرة. زياراتها للمقهى عديدة لكن لا يمكن اعتبارها روتين يومي يستلزم حضوره عند كل شروق للشمس، إلا أن تلك اللقطة فُرضت في كل مرة جلست فيها على ذلك المقعد الطويل المواجه لطاولة مربعة ثقيلة يصعب معها التحريك إن رغبت بذلك. ذلك الثبات جعل تلك الصورة تبرز على الدوام داخل مدى الرؤية الممكنة للعين، رجل يصعب من مكانها تحديد الفئة العمرية المنتمي إليها إلا أن شعر رأسه يشير لمرحلة مبكرة من العمر، فما زالت البصيلات قادرة على أن تشق طريقها بخيلاء للأعلى دون أن تأبه لفترة الرحيل المبكر. عدا ذلك فقد يكون من المحظوظين الذين حباهم الله بجينات لا تكترث كثيرًا بتقدم العمر لتعطي أقصى ما تملك من خصلات الشعر طوال فترة إقامة عائلها داخل هذه الحياة. الصورة تعد ناقصة كون أن الملتقط يشير بظهره ناحية المصورة، لم تتمكن من التقاط تعابير وجهه تجاه ما يقرأ، وهو الفعل الذي ما دأب أن غادره منذ تجليه لها في ساعات التواجد داخل المقهى. تسنح لها بين الفينة والأخرى رؤية غلاف الكتاب عند دخولها وهي متوجهة ناحية المقعد الوثير، تغمرها الفرحة أن رأت كتابًا قد قرأته فيما مضى رغم عدم حدوث تواصل لفظي يرتكز على مجريات الرواية أو فلسفة الكاتب تجاه الحياة. تلك الحياة التي جمعتهما من دون قصد، أو بقصد، في ذات الوقت والمكان مرات عدة، كأنها بتلك الطريقة تفرض رؤية مختلفة لما اعتادته أرواحهم مخبرةً إياهم بضرورة التواجد معًا داخل ذات الأطار.

ظلت الشكوك تزأر تباعًا ناحية خيالها المتعجل، فهي امرأة ولم تخلق المرأة إلا لغرض وحيد سامي يتمثل في بث الشكوك في محيطها ومحيط من يقبع بقربها. أول رسالة تلقتها كانت على هيئة أن التسمر أمام التلفاز ومشاهدة العديد من الأفلام ذات الطابع الرومانسي لوثت العقل بما لا يتلائم مع الواقع المحيط بها. أما ثانيها فتم طرحه كتساؤل مشروع عن الثقة العالية من ناحيتها تجاه تماثل رغبتها مع رغبة من يجلس قبالها، “من أين أتيتِ بها؟.” 

طالت مدة التواجد في ذات المكان، إلا أن ذات يوم غير من هيئة حضوره داخل المقهى، فبدل الكتاب المصاحب أصبح هنالك جهاز محمول فُتح قبل وصولها، ومعه تم الانغماس في إجراء أعمال مجهولة. لم يكتفي بتعديل واحد ناحية تلك اللوحة المرسومة، فما لبث أن أظهر صوته بشكل أوضح خلال مكالمات عديدة واحدة تلو الأخرى لتظهر معها صورة شخص مجادل يُكثر من طرح الأسئلة والتي يستلزم حضور ردات فعل مقنعة تمكنه من إنهاء تلك المحادثة والتي نادرًا ما حلت.  ذلك التغير فاجأها رغم رغبتها العامرة في تحولات تمكنها من إحداث تحول لا تعلم صيغته النهائية غير أن التقدم ناحية الأمام أي كان اتجاه أما للأعلى أو للأسفل لازمها منذ مدة ليست بالبسيطة. ذلك التبدل لم يكن حصريًا له، فقد لاحظت تواجد ضيف جديدة للمنظر المكرر والملتقط من خلال النافذة الزجاجية. فالمنزل القابع أمام الشارع القاطع لمسكن المقهى وبمعيته تلك النخلات الثلاث اليائسات من أي مظهر من مظاهر الحياة، بدرجة اصفرار شديدة مع حبيبات رمل محمولة بثقل على ما تبقى من سعفها، ما لبثت أن غيرت من مظهرها بعد أن حل بالقرب منهن ضيف جديد، ولعلها رغبة صاحب المنزل في تجميل الصورة الأمامية لغرض إضافة حياة اختفت معالمها عن محيا النخلات الثلاث. شجرة قصيرة مكتنزة توحي بقصر عمرها على هذه المعمورة، واللون الأخضر الزاهي يشع من بين أغصانها لتضيف غرابة أكبر على ما عُد عجيبًا فيما سبق. “لا أعلم من أصبح الدخيل الآن، الشجرة أم النخلات الثلاث” قالتها وهي تشيح ببصرها عن سحنة تلك اللقطة الهجينة.

برز صوته المجادل مرة أخرى، ومعها لم تستطع أن تركز على ما تريد إنجازه لتتحول المهمة صوب الحديث المسموع. كانت الإنجليزية هي اللغة المحكية، والذي عدته متقنًا للغاية لدرجة تلائم قاطني المباني المجاورة لنهر التايمز. طال الحديث مدةً قد تلائم شوط مباراة لكرة القدم إلا أنها لم تشعر بمرور كل هذا الوقت، عندها حلت لحظة إنهاء المكالمة. صمت قصير تلاها التفاتة منه صوب الزاوية المحتلة من قِبلها ليعتذر لها بشدة عن الإزعاج الذي من الممكن أن يكون قد تسبب فيه جراء تلك المكالمة. ألح في اعتذاره مرة أخرى والذي وجدته غير مبرر سوى لإطالة مدة الحديث، الحديث الذي لم يتجاوز كلمتين ظلت تكرر هما بغية إضفاء الراحة النفسية لتلك النفس المذنبة بذنب لا يعد من الكبائر، “لا بأس، لم انزعج”. انقضت تلك الثواني والتي برزت كلقطة رئيسية من فيلم وصل لنهاية المقدمات الكليشيه، إلا أن الأحداث التي كان من المرجح أن ترتفع لقمتها هبطت لقاع لم ترده مطلقًا. ظلت الدقائق المعدودة بعدها مجمدة داخل أحشاء آلة التبريد العملاقه، معلنةً عدم الامتثال لقانون الطبيعة الأول والمتمثل في الحركة الدائمة لجزئيات ذلك الجسد طالما تعرضت لحرارة  المحيط والمحبوسة بداخله. برزت لحظة قطعية لإنهاء ذلك المشهد فما كان منها إلا أن نهضت لتغادر موقع تصوير تلك اللقطة لتختم معها أحداث القصة بنهاية مفتوحة لم تعل عليها كثيرًا في إضفاء سعادة أبدية على ما ترغب فيه مخيلتها. 

قدِم اليوم التالي حاملًا معه آمال عريضة بلقاء آخر تكون فيه أجرأ في فتح حديث تتمنى أن يعد شيقًا ولا تصاب فيه عضلة لسانها بتشنج يمنعها من إطلاق كلمات مفهومة ذات وزن يليق بتلك اللحظة. دخلت المقهى لتفاجأ بخلو المقعد المحجوز دومًا من قِبله، استغربت قليلًا ألا أنها ظنت أن الصورة ستتعدل إلى ما اعتادت عليه بعد دقائق قليلة. مر الوقت بثقل دونما تغير يذكر، انتاب عقلها عجز منعها من أداء المهام الاعتيادية والتي ظلت  تتدفق بسهولة في أوضاع أخرى لا ترتبط مطلقًا مع ما تعيشه في تلك اللحظات. لا يخفى عليها أن كدرًا اصاب روحها عكر جميع الأمزجة المسجونة بداخلها، لتبزغ معها تلك الكآبة عاليًا حاجبة جميع أوجه العيش لتصيب تلك النفس بخمول تعجز معه الحواس عن التعبير. كل ما رغبت فيه في تلك اللحظة مغادرة المكان المألوف والذي انقلب لمكان يضيق بالنفس. عجيب أمر التحولات المفاجئة في جعل مكان معتاد تغمره الراحة إلى موضعِ موحش مقفر يعلق المرء كمحتجز بداخله، عادًا الثواني الطوال لحين الخلاص منه.

لم ينقطع أملها. ظلت على الدوام مواظبة على فعل الظهور هناك في وقت معلوم لمدة معلومة، وفي كل مرة يزداد سمك الغيمة السوداء المحلقة فوق رأسها، والتي نشأت بعد عدم تحقق ما تصبو إليه. تراءى لها كميات قليلة من الأبخرة المعروفة بالضباب، لتحيط كامل جسدها حاجبةً عنها رؤية ما تود أن تلتقطه. تلك الأصوات المألوفة عُدت غريبة، ذلك المنظر المعتاد أصبح دخيلًا. تملكتها الغيرة من تلك الشجرة المكتنزة الراغبة في الحياة والدخيلة على أقربائها من أشجار النخيل. فهي ما تزال متلهفة تجاه المكان الجديد، تستأنس بكامل تفاصيله، لا تستنكر فعلًا أو يختل منظر تألف قربه. بات الأمر شبيهًا بتلك النخلات الثلاثة كل ما توده أن يتكفل الوقت باقتلاعها من ذلك المقام.

أحلام اليقظة 2: محاكمة كولومبوس

تفضل سيد كولومبوس بإمكانك الرد على الاتهامات الموجهة إليك من قِبل المواطنين والذين يؤمنون بضرورة معاقبتك على الأفعال التي تفتخر بها وتعتقد، على حسب زعمك، بوجوب تقديرها نظرًا لأهميتها في تغير شكل العالم والذي شكل إلى حد ما العالم الذي نعيش فيه اليوم.

شكرًا لك سيدي القاضي أود أن أبدأ كلامي بذكر موجز عن الأوضاع التي كنا نعيشها في تلك الأيام، فكما تعلمون لم نكن بعد نعلم شكل العالم، حدودنا مختصرة في قارات أوروبا وآسيا وأفريقيا. ولدت مع غريزة حب الاكتشاف والمغامرة فعائلتي قدِمت من خلفية بحرية وتتخذ من مدينة جنوه الساحلية موطنًا لها، في السفن كان خيالي الدائم، وواقعي الحتمي لم أتخيل نفسي دونها. عشنا في أوروبا تلك الأيام عصرًا زاخرًا بالعلوم والمعرفة، الأموال زادت وأصبح علية القوم ممن يملكونها يحرصون كثيرًا على صرفها في اكتشافات واختراعات تكون موضع يقين لا شك. فمثل هذه الفرص لا تتكرر دائمًا ويجب عليك اقتناصها وإلا ندمت على ذلك بقية حياتك. أعتبر نفسي محظوظًا كوني حظيت بلقاء الملكة إيزابيلا والملك فرديناند، ويبدو أن حماسهم مع استعادة الحكم على أراضي شبه الجزيرة الأيبيرية أطلق العنان لتوسيع حدودها خارج البلد الصغير، وهذا السبب جعل فكرتي المتواضعة بإمكانية وصولنا لآسيا من الغرب لا كما أعتدنا عليه باتخاذ الشرق وجهةً لنا، حماسية للملكين الشابين. فإذا نجحت الخطة سنختصر على نفسنا الطريق مع جعل ذلك الأكتشاف مخصص للتجارة الإسبانية وتبادل ما نملكه من خيرات مع بلاد الهند، لكن أسمعكم تتحدثون عن قارة تدعى أميركا وتؤكدون لي أنها الأرض التي وطئت قدماي ترابها. غريب فأنا متأكد جدًا، وقلما أخطأ في أمور كهذه، أن الأرض التي وطأت عليها كانت تابعة للقارة الآسيوية ولو كنت أطلت التوغل غربًا لوجدت تلك القبائل الصينية لكن للأسف لم أستطع الإكمال. 

سيدي القاضي المتهم يتحدث بإسهاب عن نفسه، من ذكر له أن المحاكمة أقيمت من أجل أن يتفضل علينا بالحديث عن إنجازاته وذكر مناقبه، نحن هنا لأن الجميع مؤمن بالجريمة الكبرى التي أرتكبها ذلك الشخص والتي تسببت في مأساة العديد من البشر من السكان الأصليين أو من العبيد الذين تم جلبهم للبلاد، ألم يرى تلك الحشود الغاضبة والتي قامت بتلطيخ التمثال الخاص به، الجميع بلا إستثناء يريدون رؤية هذا المجرم ينال عقوبته و ليشفي غليل كل من ذاق الظلم من ورائه، ألا يرى عدم وجود أحد حوله، لم يُقدِم أي شخص على التجرأ للدفاع عنه كمحامي خاص به يجب أن يستشعر كل هذا ويكفر عن ذنوبه. ثم أن تأكيده على أن الأرض التي وطأها هي تابعة لقارة آسيا كان المقصد من ورائه حتى ينال مكافآة الملك والملكة لأن الجائزة ظلت مرهونة بتحقيق تلك الغاية، وأجبرت البحارة ممن كانوا معك على عدم البوح بأن ما تم اكتشافه لا يمت بأي صلة للقارة الآسيوية وأن فعلوا فسوف يتم قطع ألسنتهم.

الرجاء التزام الهدوء وعدم المقاطعة فما زال لدى المتهم الحق في الإدلاء بشهادته أكمل حديثك سيد كولومبوس،  حسنًا في البدء عندما بدأت رحلة اكتشافي كان هدفي تصحيح مفهوم خاطئ أعتقده أسلافنا لوقت طويل، فقد ظلت شعوبنا  لقرون عديدة معتقدة بإيمان بالغ بصحة قياسات العالم إراتوثينس لمحيط الأرض، قد كانت لدي شكوكي بأن المسافة التي قدرها هي أقل مما تنبأ به وأنه يمكن بلوغ قارة آسيا خلال بضعة أيام وقد اتفق معي في هذا الشأن صديقي العالم الفلكي أنتونيو مارشينا. أما بالنسبة للسكان الأصليين فقد تحدثت دومًا عنهم بأنهم بشر بريئون وغير عدائيون، لم يعرفوا الحروب ولم يفسدهم الجشع المادي وبهذا آمنت بأنهم مؤهلين للتبشير بالمسيحية حتى يتسنى لي إخراجهم من الجهل. 

ما هذا الهراء من أدعيت أنهم مسالمون وتريد أن تخرجهم من جهلم أخذتهم كعبيد حتى يتسنى لك المتاجرة بهم فتخرج بأقل الخسائر من رحلتك خصوصًا بعد عدم اكتشافك لأي من الثروات الطبيعية الخارقة والتي كان من شأنها نقلك لعالم آخر أردت دومًا الانضمام له.

أرجو منك عدم مقاطعتي مازلت أواصل الحديث حتى أرد على اتهاماتكم المجحفة بحقي، فقد كنت وحيدًا في أرض جديدة ومع أناس ظننت أنهم أصدقائي وظلوا طوال الوقت يكيدون الخطط ضدي، فقد هرب مساعدي مارتين بينزون رغبةً منه في البحث عن ربح خاص، دون أن أغفل عن سكان محليين يتحدثون فيما بينهم بلغة غريبة وأرقب نظراتهم التي تصيبني أحيانًا بالشك فربما يكونون من آكلي لحوم البشر أو ممن يقدموننا لهم، فقد رويت أحاديث كثيرة عن وجودهم في تلك الأماكن. أصبح عقلي مشوشًا ومضطربًا فقد وكلتُ بمهام كبيرة تتعلق بإكتشاف سيغير حتمًا مجرى التاريخ، وحتى أثبت صحة ادعائاتي فقد واجهت عاصفة لم يشهد عليها أحد، رياح من المستحيل الخروج منها سالمًا، لكن المعجزة حدثت ونجوت وسفينتي وبحارتي منها دون أدنى ضرر علام يدل هذا إلا يدل على أن الرب قد اختارني لمهمة تسمو بالبشرية. ولنتخيل معًا أنِ لم أصل لتلك البقعة الجدية من العالم وبالتالي لم يتجرأ بعدي المهاجرون الأوربيون ليقدموا على خوض مغامراتهم على هذه الأرض هل كان من الممكن أن نرى هذا الصرح الذي نقيم فيه تلك المحاكمة؟ هل من الممكن أن تصبح على ما أنت عليه الآن لو لم يحدث ما حدث؟ أجبني.

أحلام اليقظة

MANUEL.GARCÍA.RODRÍGUEZ.A.Garden.in.Seville

MANUEL.GARCÍA.RODRÍGUEZ.A.Garden.in.Seville

آنا فتاة ارستقراطية لكن وحيدة بعد وفاة والديها وهي صغيرة، غالب وقتها تقضيه مع مربيتها ومسليتها الوحيدة في هذه الحياة. تعرضت فيما مضى لنكسة صحية في رئتيها وتشافت منها منذ زمن لكن أصبح جسدها ضعيفًا نوعًا ما وطوال الوقت وهي في انتظار مجهول قد يداهمها ويؤدي بها إلى نكسة صحية أخرى. ليست كل أماكن العيش ملائمة لحالتها فعليها البحث الدائم عن المكان الملائم، في اعتقادها أن الأمبراطورية الإسبانية والتي تنتمي لها قد سلبت حرية الكثير من سكان مستعمراتها فهي مؤمنة تمامًا بأحقيتهم بالاستقلال والذي بدأ بالحدوث تباعًا في أيامها تلك عدا بعض المستعمرات التي ما زالت تقبع تحت الحكم الإسباني ككوبا مثلًا. 

فرناندو هو الآخر ينتمي للطبقة الأرستقراطية لكن أغلب أمواله وأراضي عائلته التي ورثها موجودة في كوبا على شكل مزارع لقصب السكر حيث كانت تجارة العائلة ومصدر رزقها، صديق الطفولة له هو شاب آخر يدعى فيليب يقطن في أشبيلية حيث مسقط رأس عائلة فرناندو وآنا أيضًا، فيليب قد رُتب له زواج مدبر مع آنا من قِبل عائلته طمعًا في التقاء مصالح بين العائلتين لكن على الأرجح لم تحصل أية كيمياء تجذب أحدهم للآخر رغم التواجد بالقرب من بعضهم أغلب الوقت وحضور اجتماعات مشتركة فيما بينهما. يتمكن فرناندو من التعرف على آنا عن طريق فيليب في آخر زيارة له لأسبانيا، يحدث بينهم العديد من الحوارات المتشنجة نوعًا ما كون فرناندو في نظر آنا مسؤول عن مأساة العديد من السكان والعبيد في كوبا مدعية بأنه من غير وجه حق أن تقوم عائلته وهو أيضًا بامتهان هذه المهنة وسرقة خيرات تلك البلاد ومواردها على حساب سكانها الأصليين وخصوصًا بعد دحض ثورة السكان ضد الملكية الإسبانية خلال العقد الماضي. فرناندو والذي يلتزم بالحكمة وضبط النفس كان يحاول نوعًا ما عدم الخوض كثيرًا في هذه المسائل ليس لكونه غير معتقد بها أو لأنه أرغم على أن يكون بهذه الحالة ولكن بسبب شعور بالإعجاب البسيط تجاه آنا فبالتالي كان يتحاشى مخالفتها في الرأي فيكتفي في الكثير بالأوقات بالصمت ممتنعًا عن إبداء رأيه والذي حتمًا سيغضب آنا. تلك المشاعر كان يصعب البوح بها فآنا وكما هو معروف في مجتمعهم موعودة لفيليب رغم مرور الكثير من الوقت دون إعلان ذلك الارتباط، فينتاب فرناندو شعور الخيانة لمجرد تفكيره بذلك الأعجاب حتى ولو كان من دون تلميح صريح لآنا نفسها، وهو أيضًا لا يعلم عن مشاعر آنا تجاهه، فقرر متعمدًا طرد تلك الأحاسيس خصوصًا مع قصر المدة التي سيمكثها هنا في أشبيلية قبل عودته لموطنه الثاني، أو الأول أن صح التعبير، كوبا. 

مضت فترة منذ رحيل فرناندو وعودته لكوبا، اجتاحت آنا مشاعر غريبة كما لو أنها قد فقدت شيء ما بداخلها، على الرغم من أن آخر حوار حدث بينهما أنتهى بتوبيخ فرناندو لآنا أمرًا إياها أن تغادر تلك الحياة الرغيدة التي تقطنها لتنتقل لصفوف الضعفاء على حد زعمها لأنها وبطريقة ما قد استفادت من ذلك الاستعمار الوحشي الذي تدعيه، ولأصبح حالها مختلفًا لو كانت الأمور حسب منظورها. 

استيقظت آنا صباح يوم مقررةً مغادرة البلاد والذهاب لكوبا، أخبرت مربيتها العجوز بهذا القرار والذي فاجأها كثيرًا وأبدت اعتراضها الشديد معددةً أسبابً كثيرة تحث آنا على العدول عن رأيها كالوضع الحالي في كوبا والذي يشوبه عدم الأستقرار فآخر ما يتمناه الكوبي الآن هو رؤية أسباني آخر يريد أن ينقل أمتعته وممتلكاته على أراضيه، وأيضًا أصرت على ترهيبها وذلك عن طريق تذكيرها مرةً بعد مرة بعدم معرفتهم لأحد هناك فمن سيتكفل بهم، فما هما إلا سيدتين تفتقدان إلى الكثير من الخبرة لمواجهة مصاعب الحياة والعيش في الغربة. لم تلتفت آنا لكل تلك التهديدات فقد اكتفت بذكر روعة الطقس في كوبا والذي يعد ملائمًا جدًا لحالتها الصحية ففي النهاية لا شتاء قارص يطفو فوق الجزيرة وهي ليست بشجرة ترفض أن تنتزع جذورها عن الأرض التي اعتادتها.

كان لكوبا تأثير مميز على آنا فقد أضافت مغامرة ممتعة لاكتشاف عوالم مختلفة عما اعتادت عليه في موطنها كما أن للنباتات هناك سحر خاص و بدرجات ألوان لم تعتد عليها، أضاف ذلك التغير القليل من السعادة لنمط حياتها، لم يدم طويلًا فكما هو معروف بطبع الإنسان الملل السريع من المباهج الصغيرة. لم تتعمد آنا مقابلة فرناندو هناك بل جعلت اللقاء عفويًا عند أحد المعارف المشتركة، الأسبان هناك قلة وجميعهم مرتبطين بمعرفة بعضهم البعض خوفًا من الوحشة، سألها عن سبب مجيئها إلى كوبا؟ ظلت تتحدث بإسهاب عن أسباب عديدة لا يرتبط أحدهم بالآخر جاعلةً فرناندو يتوه بين كلماتها وما يود في الحقيقة سماعه، “جئت هنا لأراك”. من ناحية أخرى ظل يحدثها عما أعتاد الناس الحديث عنه وملء دقائق الصمت به، عمله في مزارع قصب السكر وكيف أن المردود أصبح قليلًا فوتيرة الأعمال على الجزيرة خف كثيرًا بعد ما مرت به في السنوات الماضية، فدائمًا ما يصعب إعادة البناء والبدء من جديد بعكس ما تم هدمه في سنوات قليلة، أخبرها عن تفكيره الجدي بالعودة إلى الوطن فالكل على علم بانقضاء سنوات بسيطة لتصبح كوبا بلدًا محررًا من قبضة الإسبان، عيون أهل الجزيرة  تتحدث وتترقب هذا اليوم. 

مضت أشهر منذ قدوم آنا إلى كوبا وطدت علاقاتها مع العديد من النساء رغبةً في صحبة لطيفة في نهايات الأسبوع، أصبحت معالم الجزيرة ومتعها المخبئة مصدر ترويح بالنسبة لها. لم تخلو تلك اللقاءات من فرناندو، والتي أصبحت فيها أحاديثهم أقل حدة عما كانت عليه في أشبيلية قد يكون المناخ الاستوائي ذو علاقة بذلك التغيير، تطور الأمر أكثر باصطحابها معه إلى مكان عمله في مزارع قصب السكر مطلعًا إياها على طريقة سير العمل خصوصًا بعد إضافة التغيرات على طرق ونوعية الزراعة والتي أدت إلى الاستغناء عن كثير من العمال والذي أثر بالطبع على تجارة الرقيق والتي منيت بصدمة سابقة منذ سنوات بعد إلغاء العبودية رغم تستر البعض على الأمر. أصبحت الأمور أكثر حميمية فيما بينهما، أصبح حديث المجالس الدائم هو عن التوقعات لمدة الأيام التي تفصلهم عن إعلان خطوبتهما. لم تطل الأيام حتى تحققت تلك التنبؤات ولم تكن آنا تعتقد بأن ينتهي بها المطاف مع فرناندو، بعد كل الجدالات والاختلافات لكن هذا ما اختارته و أرادته بشدة كما كان الحال بالنسبة لفرناندو أيضّا. 

بدأت الاضطرابات في الأنتشار أكثر وأكثر في الجزيرة، ومعها أخذت الاعتصامات في التزايد وأصبحت حالات العصيان بشكل شبه دائم بين السكان، القلق بدأ يصيب فرناندو فتلك الأجواء غير ملائمة لحياة طبيعية ينتج عنها مقومات العيش الأساسية. أصبح الخطر يشتد على الإسبان القاطنين هناك. ظلت آنا تحدث نفسها بالسؤال مرارًا ” لماذا قدمت إلى هنا؟”، في السابق كانت تستشعر هذا الخوف مع مرضها وكان ملازمًا لها وحدها أما الآن انتشرت تلك المشاعر لتتوزع على كل من تحب، فالجميع ليس بمنأى عن الخطر. 

يستمع فرناندو لأصدقائه وهم يحذرونه من الوثوق بأي أحد، فالجميع في هذه الأيام لا يمثل طبيعته والتي اعتاد عليها من حوله، تلبس الكل شخصيات جديدة لا تتلائم مع ما كانوا عليه. لم تعجبه تلك التنبيهات فلا يصح للمرء أن يعيش متشككًا بمن حوله طوال الوقت سيجد نفسه فيما بعد وقد قُتلت روحه بكثرة الظنون السيئة بالبشر.

 تلك الظنون والشكوك برزت في صباح 22 من يناير 1896، لم يظهر فرناندو في منزله، شعرت آنا بالقلق فالأخبار تتحدث عن وصول المتمردين (الثوار) إلى الحدود الغربية من الجزيرة أي بالقرب منهم، هل للأمر علاقة؟ حاولت آنا أن تقنع نفسها بعدم الربط بين الحدثيين، وفي محاولة منها للأقتناع بعدم جدية الأمر أصرت بأن جيش المتمردين (الثوار) لم يدخلوا المدينة بعد، هم فقط على حدودها فكيف بإمكانهم العبث بأراضي ضمن حدود لم يطؤوها بعد. الأيام مضت ومازال فرناندو مختفيًا والأوضاع أصبحت مخيفةً أكثر، الجميع ينصح بالرحيل للبقاء على قيد الحياة. 

أصبحت آنا تائهة لا تعلم ما مصير فرناندو، تكثر التساؤلات بداخلها، ومع كل تلك الفوضى أعادت لها ذاكرتها ذلك الصباح في أشبيلية والتي قررت فيه المغادرة، أصبحت تلك الذكرى مشؤومة بالنسبة لها فبعد قلقها الوحيد على صحتها أصبح القلق مضاعفًا على حياة من تحب والأمان الذي بات مفقودًا. أسرت لنفسها هامسةً “ليتني لم أرحل”.