مقهى في أورلاندو

عندما تلتصق بك عادة، يصعب عليك الانفصال عنها. تجد نفسك قاطعًا ما أنت مستمتع به لتنفيذ ما اعتدت عليه. داخل مدينة أورلاندو، تلك المدينة الغرائبية، والتي أصفها بتلك الصفة لا تعبيرًا عن ابهار يشد الناظر إليها، بل استغرابًا من هوية مفقودة تتكبد الكثير من العناء في بحثِ دؤوب عنها. شُيدت المدينة لغرض واحد، هو الترفيه لا غير. في خطة محكمة لجذب رؤوس الأموال الممكنة لإضفاء ازدهار ممنهج يجعل منها قوة جذب لنشاطات إنسانية أخرى. اُختير الموقع بدقة، فهو ينبئ بأحوال طقس ملائمة طوال العام، ضامنةً بذلك توافد السياح دون انقطاع يُنضب محفظة المدينة المالية. مدن ترفيهية تنقلك لعالم ظننت وجوده في كتب الخيال، غالبًا طفولية، فمن مثل الأطفال في إقناع الآباء المكلومين أحقيتهم بتلك الأموال. أردت الابتعاد عن كل تلك الملهيات لأجد نفسي متوجهة صوب ضاحية وينتر بارك. وهي منطقة أراد من خلالها السكان نسيان مدينة أورلاندو، وهو فعلًا ما تم لهم. حدائق شاسعة تمدها أشجار عالية بظلال لا حدود لها، لتمتهن مهنة أخرى خفية تتمثل في وضع حاجز بين البلدة وبين الضاحية. سكان تلك الضاحية يمارسون الركض في كل الأوقات. فالطرق غير مزدحمة، ومرصوصة بحجارة صغيرة تذكرك بتلك الأزقة لبلدة أوربية مطلة على البحر الأبيض المتوسط. مشهد يبدو دخيلًا بعض الشيء إلا أنه أضاف رونقًا جعل الكل مغمورًا بطاقة تم تحويلها للحركية منها متمثلةً في الهرولة. توجد سكة حديد لقطار لا يقطع مسافات طويلة، فما أن ينوي الرحيل حتى يعود مسرعًا لنقطة الانطلاق، لا أعلم الغاية المرجوة منه، إلا أنه أضفى خلفية جميلة لصورة الضاحية. 

تترامى على جنبات وينتر بارك العديد من المقاهي. اتخذت إحداها ملجئًا لي، في إستمرارِ لفعلِ لا أقوى على محوه. صُمم المقهى بأبسط التصاميم ، فالمناظر الخارجية رفقة الكائنات الحية كفيلة بأن تجعل من كل مبنى شُيد على عجل جميلًا وأن لم يحاول في أن يكون كذلك، كل هذا دون تكلف يعقد من منظر المبنى. أخرجت اللابتوب لتبدأ معها رحلة الكتابة في أي شيء. أمعن النظر في الشاشة واشيح ببصري بين الفينة والأخرى صوب اتجاهات مختلفة، أُناس ملفتة، غيمة طافية، شجرة منحنية، أو حشرة تصيبني بالحيرة عن ماهيتها ودرجة الألوان المصطبغة على ظهرها. وبين هذه وتلك أحسست بدنو شخص من الخلف، بيد أني حاولت التنكر لهذا الأمر بالأخذ بعين الاعتبار أن مساحة المقهى صغيرة تحتم اقتراب الأشخاص دون قصد منهم. إلا أنه سرعان ما تبددت تلك الفكرة بعد استماعي لكلمات تخرج من فمه حُملت بواسطة هواء مشبع، سارت على عجل ناحية أذني، وكرد فعل طبيعي لما حدث التفتُ لألتقي بمن احدث كل تلك الضوضاء. شاب طويل اشقر بلحية مبعثرة غير مهملة تعلوها خصلات ذهبية بدأت في التحول تدريجيًا ناحية اللون البني. “مرحبا، اسمي مايكل”. لوهلة انتابني حدس يشير بأن هذا الشخص مألوف لدي، أو لعل السبب يكمن في الأسم ذاته. فأسم مايكل يتم تداوله بشدة بين من يتبنون اللغة الإنجليزية مرفأً لهم، شبيهة بمعضلة اسم محمد في ديارنا. فأسماء الذكور لدينا مكررة بشكل كبير، وما أن تنوي الواحدة منا تجاوز أحدهم يظهر مسرعًا داخل تفاصيل حياتها اليومية؛ اسم شارع، شخصية في مسلسل تهم في متابعته أو اسم يبرز على شاشة الهاتف ينتمي لشقيقها الأكبر يلح في السؤال عن أحوالها وتوبيخها بلطف لقلة تواصلها معه وعدم التفاعل مع ما يتم إرساله داخل قروب العائلة في الواتساب. لابد من إحداث ثورة في أسماء الذكور كما هو الحال مع الإناث حيث لا تنفك تلك الأسماء بالتطور والاختزال في أقل عدد ممكن من الحروف. فما عاد هنالك أسماء مكررة تحتاج فيها لذكر الاسم الثاني أو الثالث، هي المرة الأولى التي تستمع فيها لهذا الاسم وهي الأخيرة حتمًا. بينما على النقيض تمامًا، هو يحمل اسم جده وجده يحمل اسم عمه وعمه سُمي على عابر طريق أحدث موقفًا رجوليًا نال من خلاله شرف تسمية ابن من قدم له يد العون ويا للمصادفة هذا الاسم يحمله جاره.

بالعودة لمايكل، في البدء لم أستغرب فعلته. فالرجل ينتمي للجنسية الأمريكية ومن أُسس تلك الهوية هو الحديث مع الغرباء، بل أكاد أجزم بأن من أفتعل هذا الفعل وجعله عُرفًا يتجنبه البعض ويستحسنه الآخرون هم الأمريكيون ذاتهم. رددت عليه التحية بشكل مقتضب رغبةً مني في إنهاء الحديث سريعًا فلا طاقة لي بأن أناقش أحوال الطبقة العاملة في بلدان أوروبا الشرقية. استرسل في نسج الكلمات معبرًا عن الطقس وعن جماليته في فلوريدا ومنافعه التي أدت لتحسين حالته النفسية، فقد قدِم من ولايات الشمال الشرقي، تحديدًا بنسلفانيا، حيث البرودة الشديدة والقاتلة لكل رغبة في الحياة. في المقابل كنت ثابتة على الكرسي دون حراك يذكر، وما من دلالات أبعثها تفيد باستلاطفي لهذا الحوار. لم أنطق بشيء يستدعي انتباهه، كل ما بدر مني كان كلمات بسيطة غالبًا مؤيدة لما يقوله، إلى أن بدأت في ملاحظة تغيير في مجرى الحديث والذي أخذ منعطفًا آخر، منعطف تعجبت من جرأة مايكل على طرحه، “أن كانت لديك الرغبة في الانضمام لنا، فنحن مجموعة من الأشخاص نمر جميعًا في ذات التيه والبحث عن حصادنا الأول لبذور زرعناها منذ زمن. بيد أنها تأبى في أن تنبت”. 

حلت علي برهة من الزمن أضعت فيها جسدي، فما عدت قادرة على تحسسه في محاولة مستميتة مني لإنكار ما استمعت إليه، لماذا نطق بكل تلك الترهات وما الحافز الخفي وراءها. رددت عليه بحنق “وما الذي جعلك تجزم بأني كذلك”. عدل من وقفته كمن أراد أن يلتقط نفسًا لمحاولة اقناع شخص عنيد لا ينوي الاعتراف بغلطته “تسنى لي رؤيتك ساعة قدومك للمقهى والبدء في النقر على لوحة المفاتيح لكتابة ما ترغبين في كتابته، إلا أنكِ ظللت فترات طويلة تهربين من أداء تلك المهمة بعمل أي شيء يسحب البساط من أداء الغرض الأساسي لقدومك إلى المقهى. دون أن أغفل عن علامات الاستياء الكبيرة والبارزة للعيان تجاه ما تكتبينه”.

أردت الوقوف لمواجهته فقد أغدق علي بملاحظات لم أطق سماعها ناهيك عن جرأته واعتداده بنفسه وأن ما ينطق به هو الصحيح المطلق وغيره من الأقوال محض كذب وافتراء. بيد أني قد تمالكت نفسي في رسم ابتسامة صغيرة في محاولة بائسة لقبول آراء مناقضة لما أؤمن به. “لكن أليس الفعل الأول للكاتب هو كره ما يكتب” رجوت بذكري لتلك العبارة أن أوجه ضربة قاضية لمايكل رغبة مني في البحث عن ظفر متأخر، غير أنه رد بشكل لم أتوقع وتيرته ليردف قائلًا “صحيح لكن في العادة تكون فكرة مستحسنة أن كان الفاعل كاتبًا له نتاج ملموس يجعله في خضم مقارنات بين ما فات وما هو قادم. لكن في حالتك الوضع معاكس”.

 مرة أخرى يجزم بأمر يخصني لا علم له به، ويدعي معرفته ببواطن الأمور. تلك النوعية من البشر تحترف استقراء الغرباء مع رمي إدعاءات قد تصيب وقد تخطئ. هدفهم الأساسي إبهار متعمد يجذب المتلقي ناحية التفاصيل الصغيرة التي أثبتت صحتها مع التغافل عن الأخطاء الكبيرة في تلك الرواية المحكية. وجدت نفسي وكلي رغبة في إغلاق جهاز اللابتوب والابتعاد بأكبر قدر ممكن من الأميال عن المدعو مايكل والذي أحس بدوره في رغبتي الجامحة في الإنسحاب. “لن أثقل عليكِ بالحديث، لكن لدي فضول في معرفة تاريخ ميلادك. أهوى كثيرًا ربط أحداث حصلت عند قدوم الشخص وبين ما يحصل معه في الوقت الحاضر” . لاح لي تفسير واضح لكل ما بدر منه، هو ممن يؤمنون بشدة بعلم الكونيات، كان علي أن استنتج ذلك منذ البداية، تنبؤاته التي ظل يلقيها على مسمعي، هدوءه القاتل والذي ينبأ بشخص روحاني يُعنى بعلم الماورائيات. بُحت له بتوقيت قدومي لهذا العالم، عن طريق ذكر جميع الأرقام التي تشير لتلك اللحظة؛ اليوم، الشهر، السنة. سكت قليلًا،سكت كمن أراد أن يربط بعض الأمور بعضها ببعض أو رغبة في التأكد قليلًا من أمر جلل. أخيرًا نطق لسانه ببعض الكلمات بعد هذا الصمت المريب “أتعلمين أنه ذات اليوم الذي ظهر فيها مذنب هالي؟”. أنا على علم بإسم هذا المذنب لكن تخفى علي بقية التفاصيل المتعلقة بمواعيد ظهوره وما يترتب عليه من أمور قد تصيب سكان الكرة الأرضية، ناهيك عن أنه مجرد جرم محلق في الفضاء قد يصطدم يومًا ما بكوكبنا أن حد عن المسار. “وهل تعتبره أمرًا حسنًا أم هو نذير شؤم” “لا يمكنني الجزم بإطلاق حكم مطلق، لكن قد يساعدكِ هذا الأمر أن اعتليتِ منصب قائدة جيش وقررتِ خوض حربًا ضد شعب آخر”.

عائدة إلى الفندق، ظل اسم مذنب هالي يتردد داخل رأسي. لم أستطع مقاومة إغراء النقر على الهاتف المحمول والدخول على صفحة جوجل والسؤال عنه، إلا أنه تملكتني لحظة ضعف أن يكون هنالك تفسير لا يروق لي أو أمر يجعلني نافرة على نحو لا يطاق. صحيح أن التطير ليس في حساباتي، أن استثنيت منها توجسي من شهري سبتمبر ومارس نظرًا لحدوث أمور جلل داخل نطاق أيامهما، غير أني أردت إشباع فضول لا أكثر والشعور بالأهمية كوني مشاركة في حدث كوني. كتبت العبارة المطلوبة ليظهر على وجه السرعة اقتراح بتحويلي إلى موقع اليوتيوب لمشاهدة أغنية بيلي إيليش – مذنب هالي. ارتحت كثيرًا لرؤية هذا الاقتراح لأغلق بعدها صفحة البحث وانطلق مسرعة للتجول داخل كوكب الأرض.

مناخ استوائي

أصبح خوان بونثي دي ليون على قرار كان قد تمخض داخل رأسه طيلة الليلة السابقة، سيبلغ الملك بهدف حملته راجيًا منه أن يوفر المال الكافي لسفن تلك الرحلة، هو يملك المال الوفير وبمقدوره أن يقوم بالأمر من تلقاء نفسه لكن رغبة ملحة تتغلغل بداخله في تلقي دعم الملك ومباركته.

 “البحث عن ينبوع الشباب” ستكون تلك العبارة مفتاحًا لجذب انتباه الملك لعلها تحلق بخياله بعيدًا داخل حلم يقظة يرى الملك نفسه وقد غدا شابًا من جديد. تلك الأسطورة المتناقلة عبر الأجيال والتي ظل الأوروبيين لقرون يرددونها طويلًا أملًا في الالتقاء بماء الحياة، ألا أنها ما فتأت أن تضمحل لعدم ثبوت صحتها في كل الرحلات المنجزة لذلك الغرض والتي ابتليت بالفشل في عدم حدوث أي أمر يذكر داخل تلك الينابيع المستكشفة. إلا أن الأسطورة عادت للبروز مع اكتشاف العالم الجديد، بسبب همسات السكان الأصليين أمام المستعمرين الأسبان عن تواجد ينبوع يحمل ذات الصفات المتعارف عليها بما تقدمه من خدمة جليلة للبشرية بالإبقاء على نسلهم شابًا للأبد. قد تصدق تلك الأحاديث وقد تخطئ، فمن يعلم قد تكون لعبة أراد السكان الأصليون لعبها مع أولئك الغزاة لإصابتهم بالإعياء نتيجة التوهان داخل القارة الجديدة. ألا أن الأمر الغريب الذي يبرز هو تعلق خوان بونثي دي ليون بذلك الينبوع وفي إشتهاء طعم تلك القطرات المجددة للجسد والتي لا تتواءم كليًا مع فكرة أنه قد بلغ للتو عامه الأربعين. لماذا الهوس في أن يعود شابًا وهو لم يبتعد كثيرًا عن تلك المرحلة. لعلها رؤية مستقبلية تم استبصارها عن قرب رحيله والذي سُجل في عامه السابع والأربعين. 

رست سفينة دي ليون في 27 مارس من العام 1513 على شواطئ أرض لم تطأها قدم أوربي من قبل، رغم أن الأولويات باتت غير ذي أهمية نظرًا لتضخم عدد الأقدام المغروسة في تلك الأراضي، ألا أن هذه الأرض ينظر لها دي ليون نظرة المتعطش لرشفة ماء من فم الينبوع المنتظر، ولم لا رفقة القليل من الذهب. قبل أن يبدأ في مهمة البحث، تفكر دي ليون في إسم يلائم هذه البقعة، تفحص الظروف المحيطة ليتذكر وقوع هذه الأيام ضمن الأسابيع المقدسة والمصادفة لعيد الفصح، وبالنسبة لدي ليون والأسبان المرافقين له تترسخ صفة التدين والرغبة الملحة في القيام بأفعال مرتبطة بالدين في كل شؤونهم اليومية، فما كان من القائد دي ليون إلا أن اختار اسمًا دينيًا يتلاءم مع هذا الحدث. وبلغة إسبانية هي جل ما ينطق به لسانه أطلق على تلك الأرض مسمى “La Pascua de las Flores”  وهو المصطلح الذي اعتاد الأسبان تسميته على أسبوع عيد الفصح والذي يعني مهرجان الزهور، ألا أن دي ليون أردته صفعة خيبة أمل من “فلوريدا” فلا ينبوع حياة قد وجد ولا التماع قليل من ذهب يساهم في إضفاء بريق على تلك الرحلة الخائبة. 

بعد خمسمائة عام وبضع سنين وطأت قدمِي بلدة سانت أوغسطين في فلوريدا داخل كاستيلو دي سان ماركوس أو قلعة القديس ماركوس. في مكان ليس ببعيد عن آثار أقدام المخفق في تحقيق هدف إطالة الشباب المستكشف دي ليون، لا أعلم يقينًا أين حط لكن المصادر تشير إلى البلدة المتواجدة بها والتي أُنشئت بعد رحيله بخمسين عامًا. أحمل المنشور التوضيحي وشمس حارقة ترسل أشعتها بسرعة هائلة لتتمركز داخل رأسي جاعلةً من رؤية الكلمات المطبوعة على المنشور ضبابية يصعب التقاطها، هي حتمًا إعلان تم إرساله من قِبل جسدي عن احتمالية الإصابة بضربة شمس. من المثير للرثاء أني قد قدمت من مكان تسطع فيه الشمس بكامل طاقتها طيلة أيام السنة ولم تدون ذاكرتي أية إصابة باعتلال في توازني ضريبة التعرض المباشر لها، وهأنذا في منطقة تعد أقل توهجًا في إشعاعها الشمسي بيد أن الجسد بدأت تخور قواه في محاولة بائسة منه لإضفاء صفة عدم الاعتياد على الحرارة العالية. نتج عن هذا الوضع خطأ في انتقالي بين قاعات القلعة والمدون بداخلها الخط الزمني لحكامها وما أعقبها من أحداث، فعلى ما يبدو أني قد سلكت الطريق الخطأ. تلك الغرف لم تكن مرتبة على التوالي كما افترضت، بل عليك أن تسير في خطوط أفقية للقاعة ونظيرتها المواجهة لها، لأجد نفسي وقد قلبت بعض التسلسل الزمني برؤية البريطانيين أولاً ثم الأسبان لمرتين متتاليتين لأنهيها مع القوات الأمريكية، بيد أن السجل التاريخي الفعلي لهذا المكان كان أسبانيًا، بريطانيًا ثم إسبانيًا مرة أخرى لينتهي كما هو معروف تحت راية العلم الأمريكي. على الرغم من كل تلك التحولات فكل ما تلمحه العين في تلك البلدة يمكن اعتباره إسبانيًا، المباني المشيدة على طراز نشأ في شبه الجزيرة الإيبيرية، أسماء الشوارع والأبنية الأثرية كانت بلغة إسبانية واضحة للمستمع. ستجد صعوبة بالغة في إستقطاب روح إنكليزية أو أمريكية لتلك البلدة عدا العملة المعترف بها داخل المقاهي والمحلات الصغيرة والمطبوع على واجهتها صور الآباء المؤسسين للولايات المتحدة.

بعد انتهائي من صراع الأمم المتناحرة على أحقية امتلاك تلك الأرض، كان لابد من زيارة المحيط المتكأ بثقله على شاطئ البلدة، ذلك المحيط المهيب في حجمه وقوة الدفع لأمواجه والتي ما هدأت أبدًا رغم وقوعي في يوم يُعد صحوًا لا تعتريه منغصات من شأنها أن تثير غضب تلك المياه الجائعة. تيقنت الآن السبب الرئيسي في عدم نجاة أي راكب من حملة بانفيلو دي نارفاييث من تلك العاصفة الهوجاء التي ألمت بها غير بعيد من هنا، باستثناء الثلاثة المحظوظين رفقة مملوكهم المغربي والذي أسهب في سرد روايته المنسية في كتاب “ما رواه المغربي”. 

تصفع الرياح القادمة من المحيط كل ذرة في جسدي، ورغم سرعتها العالية والتي تجعلك تصاب بثقل في الحركة أن أردت أن تدخل جسدك في غياهب مياهها، رغم ذلك فأن نشوة تعتريك عند قدوم موجة مندفعة لا يفصل بينها وبين رفيقتها سوى ثواني معدودة تجعل من عملية التقاط النفس مستحيلة، هي حتمًا ستؤلمك ان كنت في وضع مخالف لما عليه حالك الآن، إلا أن السعادة وجدت لها بابًا أطلت من خلاله على ثنايا روحي وغمرته بما يتواءم  مع ما أشعر به. 

في غمرة كل تلك الأحاسيس لفتني منظر لأم وابنتها أنهكها كثرة اللحاق بها في محاولات مستميتة لمنع الصغيرة من دخول الماء، ظل بصرها متعلقًا بساقي الابنة لاهية بذلك عن جمالية المنظر المحيط بها. كانت مرتبكة في تلك اللحظات القليلة وقلقة تترقب حدوث أمر سيء اُبتُدِع داخل رأسها، تُرى هل قدر الأم أن تَرقُب بحذر خطوات أبنائها طوال حياتهم لتنسى معها وقع خطواتها؟ 

في الناحية المعاكسة يقف أب وابنه حاملًا بيده صنارة في مشهد يوحي بمحاولات متعددة صدرت من قِبل الأب لتعليم الأبن حرفة صيد السمك، ناول الأب الصنارة للأبن، يلتقطها منه دون حماسة تذكر وفي خضم عملية الانتقال مازال الأب يصدر كلمات غير مسموعة متأملًا  أن تفضي في إتقان ابنه تلك المهارة. أدركت حينها امرًا لا أعلم صحته، وهو أن الأب يقضي مع ابنه عطلة نهاية أسبوع كانت قد حُددت له من خلال المحكمة بعد الانفصال عن زوجته، لعله ظل طوال الأيام السابقة يعد العدة لهذا اليوم المنتظر متصورًا حماسة الطفل ناحية ما رتب له. المشهد القائم أمامي يوحي بعكس ذلك تمامًا. 

أردت أن أبعد  نظري بعيدًا عنهما بعد أن أحسست بضيق لم أرغب في قدومه الآن. كانت صورة منفرة للمراقب من الخارج لكن قد تبدو ممتعة لهم من الداخل.

Another Day of Sun

20130718_084607

Taken By me 2013

أواخر شهر مارس من عام 2013 أخبرني أخي بإقتراح وهو قضاء فترة الصيف في الولايات المتحدة بسبب ترشحه من قِبل عمله لدورة مدتها شهر مع 10 أيام أضافية بإمكانه قضائها هناك, اتذكر حالة الجمود التي أصابتني, سعادة مع استغراب, استغراب لأنِ كنت دائماً مستبعدة فكرة السفر لأمريكا لأسباب عديدة أحدها عدم وجود قريب هناك لأقوم بزيارته, بعد المسافة والتي دائماً ما يتعذر بها والدي إذا ذكرت لهم اسم البلد فقط, فأصبحت زيارة أمريكا مثل الحلم لا أعلم أن كان سيتحقق يوماً ما أم لا, ولأكون أكثر صدقاً كنت مستبعدة هذا الأمر كثيراً, نعود لتلك اللحظة تصوروا رغم معرفتي التامة بالرغبة الشديدة بالذهاب إلا أنني قلت سأفكر, في اليوم التالي وأنا أقوم بعملي المعتاد وهو الشرح للطالبات عن مكونات التربة وعوامل التجوية والتعرية عقلي كان في مكان آخر يعرض صوراً عديدة عن كاليفورنيا ونيويورك ولقطات بانورامية لمدن أخرى طُبعت في ذاكرتي من أفلام كنت قد شاهدتها مراراً وتكراراً. في داخلي قلت بصوت عالي أنتِ مجنونة لما لم تقبلي بالعرض مباشرة لكن هذه الصرخة لم يتمكن من سماعها أحد. عدت مسرعة من بعد العمل لأتصل بأخي وأخبره بموافقتي الأكيدة للذهاب, المضحك في الأمر أنني وافقت ولم أكن أعلم أين هي الوجهة بالضبط في الولايات المتحدة والمعروف عنها المساحة الشاسعة هذه النقطة إلى يومنا هذا عندما استعيدها من الذاكرة أجد نفسي غارقةً في الضحك أكلم نفسي وأقول: ماذا لوكانت الوجهة ولاية صغيرة في الوسط الغربي الحمدالله أن الوجهة كانت كاليفورنيا في مدينة مونتري وتقع بالقرب من سان فرانسيسكو, الأحتيار كان موفق.

شاهدت الأسبوع الماضي فيلم “LA LA Land“, أن كنت من عشاق السينما حتماً اسم الفيلم لن يبدو غريباً عليك, استمتعت جداً بالفيلم, استمتعت لا أعلم اشعر بأن الكلمة مجحفة بحق الفيلم نوعاً ما, دعوني أبحث عن كلمة أخرى تستطيع وصف هذا الجمال؟ للأسف لم أستطع إيجادها. سأحاول قليلاً أن ابسطها أكثر يكفي عندما شاهدت الفلم قمت بإعادة المشاهدة مباشرة, أعتقدت بأنِ وفقت هذه المرة. لن أكتب سرد عن القصة سأذكر وأعبر بالكلمات عن الشعور الذي انتابني مع مشاهدة الفيلم وعند الأنتهاء منه, الفيلم ينقلك لعالم آخر تشعر بإن العالم الحقيقي توقف من حولك ونقلك لقصة واقعية ممزوجة بالقليل من الخيال, كل مشهد هو لوحة فنية رُسمت بعناية, الألوان المختارة, مكان التصوير الذي اقتصت منه تلك المشاهد, تلك اللوحة الفنية ليست جامدة كما هي الحال دوماً, بالعكس هنا مليئة بالحركة والرقصات الخفيفة مضافة إليها موسيقى عظيمة أجزم أنها ستظل عالقة في ذهنك لفترة طويلة (أكتب هذه التدوينة ومازالت تلك الموسيقى والأغاني تصدح في رأسي) عند انتهائك من مشاهدة الفيلم ستشعر بالحنين بسرعة وهو شيء غير معتاد لأنه وكما هو معلوم نحن نحن للأشياء التي حدثت لنا على الأقل منذ سنوات وليس منذ ساعتين, وربما هذا يفسر سبب أعادة تشغيل الفيلم بعد انتهائي من مشاهدته مباشرة. أعجبني أيضاً أن الثيم الأساسي للفيلم هو المكان, كانت لوس انجلوس, دائماً هذه النوعية من القصص تجذبني كثيراً, في الأفلام أو الكتب التي أعشقها أجدها تندرج تحت هذا البند. أشعر بأن من أفضل النعم هو تعلقك بالمكان الذي تسكنه حتى تجعله يسكن بداخلك. آه أشعر بأنِ تكلمت كثيراً عن الفيلم, طوال الأيام الماضية حديثي مع الأهل والصديقات والتغريدات في تويتر في أي مكان أجد نفسي أتحدث عنه. أنا متأكدة بأن الفيلم سيظل أيقونة سينمائية لفترة طويلة وأنا محظوظة كونِ عشت في تلك الفترة عند ظهوره.

يوم الأربعاء السابع عشر من شهر يوليو من عام 2013 كانت المصافحة الأولى لي مع أرض أمريكية وكانت من نصيب مدينة لوس أنجلوس, عندما فُتح باب المطار الزجاجي لتهب معه نسمات لطيفة مع رطوبة منعشة وشمس شارفت على الغروب كانت الساعة تقارب الثامنة مساءً هذه المصافحة أتت بعد رحلة شاقة مدتها 13 ساعة من الرياض لواشنطن ثم توقف لمدة ساعتين ونصف لنحلق بعدها مرة أخرى بإتجاه الغرب ولمدة 5 ساعات, اختصرها الكابتن على حد زعمه وجعلها 4 ساعات ونصف, منظر لوس انجلوس من شباك الطائرة كان جميلاً تلال مرتفعة وخضرة بسيطة مع صخور جبلية وأشجار النخيل الشاهقة, بالتأكيد بعد هذا اليوم الطويل في السماء وبين المطارات جرعة كبيرة من النوم كان لا مفر منها فأجلت المصافحة الفعلية إلى اليوم التالي, صباح الخميس اخترت رحلة بالباص داخل مدينة لوس انجلوس وضواحيها من موقع Trip Advisor صاحب الباص كان ظريفاً جداً عرف عن نفسه بأنه ممثل وكاتب وبالطبع يجب عليه العمل كنادل في أحد المطاعم ليوفر لقمة العيش بالأضافة لهذا الباص السياحي. كانت نقطة الأنطلاق من منطقة سانتا مونيكا الشاطئية أجمل مناطق لوس أنجلوس إلى هذه اللحظة مازالت الصور الرائعة باقية داخل رأسي من جمالها وجمال الطقس فيها, أخذ السائق يدور بنا على مناطق عديدة هوليوود, بيفرلي هيلز ومنازل النجوم والذي بالطبع تحدث عنها بإسهاب لعلاقته بهذا المجال وماليبو المزدحمة والبعيدة نوعاً ما عن لوس انجلوس, ومنتزه غريفيث ومرصده الفلكي حيث المقعد الذي جلس عليه كلاً من ميا وسباستيان وأدوا بجانبه أحدى رقصاتهم الجميلة.

داميان شيزيل مخرج الفيلم أحب بشدة أن يذكرنا بأن السينما هي فرصة جيدة للأنسحاب قليلاً من الحياة والتحليق في عالم الخيال الممزوج بالواقع أو دعونا نصفها بالأحلام, في الفترة الأخيرة قلت هذه النوعية من الأفلام والدليل تسميتها بالكلاسيكية. الجميل أن المخرج من مواليد عام 85م أي أكبر مني بعام ومازال عقله متعلق بتلك الحقبة, شخص من جيلنا, الجيل الذي أتى معه عصر الفضائيات والأنترنت وعالم التقنية ومازال متمسك بهذه الأمور بل وأضاف عليها بعض اللمسات العصرية لتجعلها تبدو أكثر حداثة  ولا يظهر الفيلم مجرد حنين للأفلام الكلاسيكية, أعتقد أنه سيثري السينما بقادم أفلامه حتماً, شيزيل أصبح من المفضلين عندي مع  وودي آلان و ويس أندرسون وريتشارد لينكليتر.

تجربة أولى

r4hx5jsrrpz2fm7j

Google

للقطار سحره الخاص, أو على الأقل بالنسبة لي, بداية معرفتي بهذا الشيء اتضحت أمامي بعد أن قمت بعمل قائمة لأجمل الأفلام التي شاهدتها أو الكتب التي قرأتها. كمثال سلسلة Before  للمخرج ريتشارد لينكليتر وفيلم رحلة الأخوة داخل الهند لويس أندرسون تحت عنوان The Darjeeling Limited هذا من ناحية الأفلام أما من ناحية الكتب لا أنكر انبهاري برواية التحول للكاتب الفرنسي ميشيل بوتور حيث أن جل الرواية تقع في رحلة قطار من باريس إلى روما.

حسناً روايتي الواقعية التي سأسردها في الأسطر القادمة تشابة تلك الخيالية في رواية بوتور كلانا كان نقطة الأنطلاق بالنسبة له محطة غار دي ليون في باريس لكن الوجهة النهائية تختلف, في قصتي تنتهي في كان بينما في خيال بوتور تصل لروما, لا أنكر رغبتي الشديدة بأن يكون خط سير الرحلة  باريسفلورنساروما, لكن قدر الله وماشاء فعل. (خصوصاً كوني كنت ضمن رحلة عائلية فغالباً الأمور لا تسير على حسب رغبتك بل على رأي الأغلبية).

سأحكي القصة من البداية, في مطلع شهر يوليو أي قبل موعد الرحلة بشهرين تم حجز التذاكر ألكترونياً من موقع voyage sncf اخترت اليوم والزمن ونوع القطار وبدأت بتعبئة بيانات المسافرين ولسبب ما لا أعرف ماهو أدخلت تاريخ ميلاد والدي بشكل خاطئ, كتبت سنة الولادة صحيحة لكن الشهر كان خاطئاً, بصراحة أنتابني خوف شديد خصوصاً أن فرنسا شهدت في الأشهر الماضية أعمالاً إرهابية ومازالت تحت بند حالة الطوارئ, أخذت الأفكار تأتي وتذهب جميعها في الأتجاه السيء, لا بد أن أفعل شيئاً لأصلاح هذا الخطأ قمت بكتابة ايميل للموقع موضحة لهم الخطأ الذي ارتكبته وعن امكانية تصحيحه من قِبلهم, لم يأتي الرد. تذكرت أخي الذي كان عائداً للتو من رحلة في أسبانيا والبرتغال مرتحلاً بين مدنها بالقطار أو بالسيارة, قمت بسؤاله عن الأجراءات قال لي بالحرف الواحد ” لا أحد يقوم بالتدقيق في تلك الأمور كل مايهم بالنسبة لهم أن تكون في يدك التذكرة فقط” ارتحت قليلاً لكن الشك رجع يراودني مرة أخرى بأن تلك إسبانيا وهذه فرنسا, الأوضاع الأمنية هناك غير مقلقة بينما هنا متوترة جداً.

مرت الأيام والأسابيع إلى أن أتى اليوم الموعود, صباح الجمعة 2/9/2016, فيعد قضاء أسبوع كامل في باريس بدأنا بترتيب رحلة الذهاب لكان عن طريق القطار الرحلة كان محدد لها بأن تنطلق في الساعة 10 والثلث صباحاً نقطة الأنطلاق كان محطة غار دي ليون وهي محطة بُنيت قديماً أبان معرض أكسبو الذي أقيم في باريس عام 1900م اشتهرت المحطة ببرج الساعة الخاصة بها والموجودة في الساحة الخارجية ولعل ما جعل سمعة هذه المحطة أكثر توهجاً كان مطعم  “Le Train Bleu” والذي اشتهر بتقديم الوجبات للمسافرين منذ عام 1901م, عند دخولك للمحطة تشعر بعبق التاريخ بين جدرانها, ولعلها سمة بارزة في باريس كلها وليس المحطة فقط, للأسف مكوثي في المحطة لم يتعدى النصف ساعة نظراً لتأخرنا بعد أن علقنا في زحام مروري قبل الوصول لها.على ما أذكر وصلنا في الساعة العاشرة إلا ربع ذهبت مسرعة لجهاز الخدمة الذاتية باحثةً عن معلومات الرحلة كموقع الرصيف الذي سينطلق منه القطار وتأكيد موعد الأنطلاق , لم أجد شيئاً ذهبت للشخص المتواجد عند مكتب المعلومات سألته عن رحلة القطار رقم 6175 والمتوجهة لكان, قال لي نعم لنيس ستظهر بعد قليل على الشاشة, في العادة قبل 20 دقيقة, أنا مازالت تحت وقع كلمة نيس. قلت: نيس. قال: نعم الرحلة تنتهي في نيس وتقف في خمس محطات وكان هي المحطة الرابعة. أعتقد أن هذا التشويش الذي أصابني كوني شخص غير معتاد على السفر بالقطار بشكل عام, كما قلت هي تجربة أولى.

ظهر على الشاشة رقم الرصيف لقطار رحلتنا كنت خائفة من أن يكون في الطابق السفلي, فمع حمولة كثيرة ذات حقائب ثقيلة يعتبر مجرد التفكير فيه مرهقاً, لكن حمداً لله وجد الرصيف في نفس الطابق الذي نقف فيه “الرصيف رقم 2”, مع ذكر رقم الرصيف يذكر بجانبه ايضاً معلومات لمواقف المقطورات, مقصورتنا كانت تحمل الرقم 7 وجدت في الموقف H بالمشاركة مع المقطورة الثامنة. حسناً تم الذهاب سريعاً مع أناس كثر, وكما أتضح لي انها احدى أوقات الذروة, أغلبهم كانوا يحملون حقائب ظهر أو حقيبة يد من الحجم المتوسط, الجميع على عجلة من أمره القطار يتحرك خلال 10 دقائق نظرت نظرة خاطفة على حقائبنا وأحجامها الكبيرة في تلك اللحظة علمت بأن الرحلة لن تكون سهلة بدأنا في التوجه لبوابة المقطورة , دخلنا داخل القطار يجب علينا الآن الصعود للطابق العلوي, الطابق العلوي!!.

نسيت أن أخبركم بأمر, عندما قمت بحجز التذاكر من الموقع الذي قمت بذكره سابقاً وددت أن استقصي عن مدى مصداقيتة قبل أن أأكد الحجز. اخترت موقع Trip Advisor لأنشر هذا الأستفسار جاءني الرد من شاب انجليزي يؤكد لي بأن الموقع جيد بل هو الأفضل وذكر لي نصيحة بأن الرحلة تكون على متن احدى قطارات شركة TGV كونه الأسرع والأحدث ولوجود ميزة خاصة به ألا وهي وجود طابق علوي يتيح لك التمتع بالمناظر الطبيعية, نعم المناظر أليس هذا هو الهدف الأساسي من السفر بالقطار, في تلك اللحظة عملت بنصيحة الشاب وتم حجز أربعة مقاعد متقابلة في الطابق العلوي. نعود الآن إلى تلك اللحظة في داخل القطار أبي كان يسأل أين هي مقاعدنا قلت في الأعلى. في الأعلى!! لن أنسى تلك النبرة أبداً كون الحقائب أتعبتنا في حملها وتبقى لنا صعود درج ضيق يكاد يفوق ما عانيناه من تعب قبل هذا اللحظة. كأنِ أراه يقول هذا جنون لكنه لم يقلها. لا أعلم أحسست وقتها بالدموع تملأ عيني عندما نظرت لهذا السلم الماثل أمامي ومن خلفي عائلتي وخلفهم أناس يريدون أن يكملون طريقهم بسرعة قبل أن يغلق القطار أبوابه, استجمعت قواي وبدأت في حمل الحقيبة أمامي درجة درجة من بعدي أتى والدي ثم أمي وشقيقتي وابنائها الأطفال, لم يستطيعوا حمل الحقائب قفام شاب فرنسي بمساعدتهما (جزاه عنا كل خير) ذهب بالحقائب صعوداً ونزولاً ثم وضعها في المكان المخصص لها. بدأت الآن في البحث عن المقاعد, كون أنِ شخص مهووس بتنظيم الأمور كنت أحفظ المقاعد عن ظهر قلب لكن لزم التأكد للمرة الأخيرة نظرت نظرة خاطفة على التذاكر حسناً المقطورة السابعة المقاعد 91,92,93,94 نظرت للشاشة أعلى البوابة كتب عليها COACH 7 جيد نحن في المكان الصحيح قمت بضغط الزر يدوياً حتى يتم فتح الباب ثم أشحت بالنظر بعيداً لأعلى بدأت الأرقام تظهر 84,86,87,91 اخيراً وجدتها, لكن لسوء الحظ كان هناك امرأة عجوز وابنتها أو لا أعلم من تكون يجلسان على 2 من المقاعد متقابلتان بشكل عكسي. ارتبكت قليلاً لوهلة حتى ظهر صوت والدي من خلفي قائلاً: أتلك هي مقاعدنا أجبته بـ لا أعلم. قال: كيف؟ وأثناء حديتنا الامرأتان مازالتا جالستين أمامنا لم تحركا ساكناً وفي نفس اللحظة أتى الشخص المسؤول عن التذاكر وعن أمن القطار سألته أتلك هي مقاعدنا؟ نظر إلى التذاكر وإلى الأرقام الموجودة في الأعلى وقال: وي. في تلك اللخظة نهضت المرأة العجوز مبتسمة وقالت لي بلكنة أمريكية: سواح؟ قلت: نعم. قالت: من أين؟ قلت: السعودية. قالت: مرحباً بكم في فرنسا. ثم ذهبت للمقطورة الأخرى, لم أستطع ربط تلك اللكنة مع الترحيب وكأنها من أهل البلد. أسلوبها لم يعجبني حتى مع وجود ابتسامة عريضة على وجهها.

حمداً لله استقرينا في مقاعدنا وبدأ القطار في التحرك وبدأت أنا في تأمل المسافرين, في الحقيقة القطار لم يكن ممتلأً تحديداً في المقطورة التي أجلس فيها, المقاعد التي بجانبي جلست فيها امرأة عجوز لوحدها تاركةً ثلاث مقاعد خالية اثنتان أمامها وواحدة بجانبها ما أن بدأ القطار في التحرك حتى أخرجت عدة حياكة الصوف وبدأت تحيك, كأنه روتين اعتادت عليه منذ زمن طويل, مر الوقت وبدأ القطار في الخروج من مدينة باريس وبدأت تظهر معها المساحات الخضراء الشاسعة, قطعان خراف تأكل من العشب, أكواخ مهجورة, أعمدة كهربائية طويلة كلما مررنا بمنظر خلاب أبطأ القطار من سرعته ليتسنى لنا رؤية المنظر بتمعن ولما لا ألتقاط الصور. بعد مرور أكثر من ساعة بدأت معالم مدينة بالظهور, وبدأت معها حروف كبيرة بالأبيض على لوحة مستطيلة الشكل بالبروز شيئاً شيئاَ من بعيد, تحت هذه اللوحة أناس كثر ينتظرون أن تفتح البوابة وما أن فُتحت حتى دخل نصفهم والنصف الآخر كان مودعاً لهم بدأ الركاب في الظهور بين أروقة المقاعد, جاءت امرأة شابة في مقتبل العمر ذو شعر غامق اللون ترتدي الجينز وتي شيرت أسود وصلت للكرسي المجاور لي أمام تلك السيدة العجوز التي تحيك الصوف, وقفت بجانب المقعد وأخذت تنظر بعينيها بإتجاه الباب وكأنها تنتظر أحدهم ثم فتح الباب وأتى رجل شاب متوسط الطول ذو جسم رياضي ولحية كثيفة وانضم للفتاة. ثم أتى شاب آخر يوحي من هيئته أنه مهووس بالتقنية (كلنا مهووسون) طويل القامة, ذو شعر أشقر حليق الذقن عيناه تبرزان خلف نظارة طبية, والسماعات منغمسة داخل أذنيه والأصابع تنقر باستمرار على لوحة مفاتيح الهاتف الجوال, أتى ووقف بالمقعد بجانب المرأة العجوز وأمام الشابين العاشقين وقف قليلاً ثم تكلم مع المرأة بالفرنسية يبدو وكأنه سألها عن رقم المقعد الخاص بها تكلمت معه ثم أخرجت التذكرة لتطلعه على رقم المقعد وتأكد له أنه مقعدها صمت قليلاً وبدأت ملامح الأستغراب تتضح على وجهه ثم جلس بجانبها وهو غير راضي, مما فهمته أن كلاهما لهما نفس المقعد, لا أعلم لماذا خطر على بالي العجوز الأمريكية ربما كنا نعاني من نفس المشكلة.

مر الوقت وبدأ العاشقان في الغزل, شعرت بأن الرجل “القيك” كان متضايقاً من خلال تعابير وجه وطريقة جلوسه التي ما أنفك يغيرها كل دقيقة حتى نهض من الكرسي واختفى ظننت أنه كان ذاهب لدورة المياه حتى مضى وقت طويل لم يظهر فيها. بعدها بوقت ليس بالقصير ذهبت أنا بدوري لدورة المياه لأجده يقف بجانب الباب متكأً على عامود حديدي يحمل الحقائب وبيده هاتف الجوال لا أعلم لماذا ضحكت, لهذه الدرجة كان متضايق من وجودهما لم تتأكد لي هذه الجملة إلا بعد أن توقفنا في المحطة الثالثة قبل النزول لكان حين عاد للمقعد ليجلس فيه مرة أخرى, بعد نزولهما في تلك المدينة, بجانب المرأة العجوز حائكة الصوف. أم لعل هناك سبب آخر لا أعلم؟.

منعاً لذكر تفاصيل مملة سأقفز سريعاً لرحلة العودة, صباح يوم الأربعاء 7/9 كنا أكثر خبرة هذه المرة ومتأهبين لتعب قادم, أي أنه لم يحصل مباغتاً, بعد أن استقريت في مقعدي وبدأت بالتركيز في ملامح وجوه من حولي لفت انتباهي عائلة مكونة من الأب والأم وأبنائهم, اثنان أعمارهم تتراوح بين الخامسة والسابعة تقريباً, يرتدون قمصان المنتخب الألماني مع والدهم أعتقدت بأنهم ألمان إلى أن تحدثت الأم مع أطفالها بلغة فرنسية, معقول أنهم فرنسين ولكنهم معجبين بالمنتخب الألماني, مضى وقت بسيط حتى سمعت الأب يتحدث إليهم باللغة الألمانية. آه الآن اتضحت الصورة الأب ألماني والأم فرنسية. كانوا من أكثر الناس لطفاً وأدباً, أبنائهم كانوا يريدون متابعة اللعبة التي تلعبها ابنة أختي على جهاز الأي باد استأذن الأب طالباً أن كان بإمكان ابنه الجلوس بجانبها لمتابعة اللعبة. طبعاً لا مانع ردت أختي بسرعة. أشاهدهم أمامي ليس بينهم أي لغة مشتركة سوى هذه اللعبة التي بين أيديهم يتحمسون معاً ويغضبون معاً, ظل الأب طوال هذا الوقت يعتذر بأن ربما كان الأبن قد ضايقكم, رددنا عليه بالعكس اضاف جو من المرح على الرحلة. في محطة الوقوف الأولى دخلت فتاة لتقف أمامنا ثم تحدثت مسرعةً بلغة فرنسية, لا أفهم الفرنسية بالطبع لكن توقعي كان بأنها تريد أن تسأل عن المقاعد التي نجلس عليها, لأننا جلسنا في مقاعد مختلفة عن ما ذكر لنا في التذكرة بسبب زوج وزوجته كبار في السن شعرنا بالخجل من أن نوقفهما من مكانهما والكراسي الأربعة بجوارهما كانت شاغرة, رددت على الفتاة بالأنجليزية شارحة لها الموقف ردت مرة أخرى بالفرنسية, قمت بالرد عليها بأن تلك مقاعدنا ذهبت وجلست هناك. كان أغرب حديث خضته, لغتين محتلفتين عن بعضهما لكن الحياة استمرت. نعود لزوج والزوجة الأنجليز, ظل الزوج ممسكاً بكتاب يقرأ فيه وكل ما سنحت الفرصة يريها بعضاً منه, أظن أن الكتاب كان يتحدث عن القطارات في أوروبا, أستنتجب بنفسي أنهم في رحلة في  أرجاء أوروبا بالقطار كأنه نوع من رحلات مابعد التقاعد. حتماً ستكون هذه أحدى خططي المستقبلية.

 

ملاحظات عن السفر بالقطار:

  • القطار يسبب دوار بعد نزولك منه تظل يوماً كاملاً تشعر بأن الأرض تهتز من تحتك.
  • اجلب مشروبات ومأكولات خفيفة معك داخل القطار, الأكل داخله لا يعول عليه.
  • حاول أن تكون رحلتك في القطار لأشخاص قليلين في العدد, كبار السن والأطفال سيتعبهم القطار حتماً.
  • الحقائب, الحقائب, كل ما قل وخف وزنه.