يونيو – سبتمبر

(١)

أستعد هذه الأيام لمراجعة ما تم دراسته أبان الأيام الجامعية عن علوم الكيمياء وما حولها. أولى القرارات تمثلت في طلب نقلي للمدرسة الثانوية لامتهان تعليم الكيمياء فعلًا، بعد مضي سنوات في الهرب منها والاكتفاء بتعليم مادة العلوم، الأسهل كثيرًا، للمرحلة الإبتدائية. القرار لم يأتي بتحفيز من رغبة كامنة بداخلي بل أتت من الطمع في التغيير لا أكثر. ظلت الكيمياء مثل لعنة ملتصقة بي لم أرغب بها ولا أعلم أن كانت قد رغبت بي. لعبة القط والفأر ظللنا نمارسها في سعي حثيث للهرب كل من الآخر في جهاد ذاتي نحو عدم الالتقاء. كأننا شخصين يتلصص أحدهما على الآخر دون أن تلتقي نظراتهما عند أداء مهمة التجسس. أما الآن فقد حانت ساعة المكاشفة وعلى ما يبدو أن الطريق طويل لتعويض ما فات. قدرة الإنسان عجيبة في فقد مهاراته بسرعة توازي سرعة الضوء أو ربما هي مبالغة لتوضيح مدى سرعة الفقد، في المقابل حتى يتسنى حشد تلك المهارات يتطلب الأمر عدادًا لن يحسب لك إلا من خلال وحدة السنوات فما فوق. 

(٢)

حديث مسهب:


” سقطت قطرة أخيرة من قطرات المطر متأخرة بعد فترة، مثل متسابق في سباق الدراجات تأخر عن زملائه .”

-بيتر هاندكه

أعتقد أن المطر ناداني. أراد التحدث معي. في ليلة صيفية في لندن لا تشبه أبًدًا فصل الصيف الذي نعيه. كنت نائمة بعمق -على الأقل هذا ما تصورته- لأستيقظ رويدًا رويدًا بحركة بطيئة كما لو أنني سلحفاة تتمطى أن كانت قادرة فعلًا على الإتيان بهذا الفعل. العين لا ترغب في فتح ستائرها. والأطراف الأربعة لا ترغب في التحرك. سمعت هسهسة لقطرات مطر بدا لي كحفيف اوراق الشجر. ألا أن أذني وبعد أن بدأت في شحن لواقطها أقنعتني بمطر غزير منهمر يدوي قويًا وإن رغب في إخفاء زئيره. الظلام كان دامسًا ولم أرغب في رؤية الوقت. تصورت انه بين الثانية والثالثة في عتمة الليل ولن أقول صباحًا لأن الشمس ما زالت تغط في سبات عميق. أصخت السمع طويلًا بتلك الطرقات التي ظل المطر يشنها على زجاج النافذة. وأنا في سكوني منصته له. طالت المدة ومعها أحسست بمرور بطيء للزمن. غادرت السرير ملبية ذلك النداء و وقفت متأملة المنظر من النافذة، ذلك المنظر الذي اعتدت رؤيته مرات عدة. القبة الزجاجية المغطية لقاعة الإفطار الصباحي وملامح مباني المدينة بطوبها الأحمر، رغم اضمحلال وهجه كون الشمس مختبئة وأنوار المدينة لا تفي بالغرض. توقف المطر وهرب الظلام خلسةً ساعة بروز الشمس وانا على ذات الحالة وصوت طرقات المطر يكتظ بداخلي. لم يكن مطرًا عاديًا. كان حديثًا مُسهبًا.

(٣)

امرأة عند النافذة:

توقف سائق أوبر في الجهة المعاكسة لموقع متحف The Courtauld  لاستهجن ذلك الفعل على الفور وأقول له بثقة العالمة بخبايا المدينة دون أن يستشف أنها المرة الأولى التي أزورها فيها: “جوجل مابز يُظهره في الجهة الأخرى”، معاوني الفذ والذي لا يتوانى في الذود لنجدتي. أخذ السائق في التأكيد على أن ما يهم هو راحة ركابه فأن كنت أرغب في النزول عند الجهة المقابلة فحتمًا سينفذ مطلبي، وفي الحقيقة المسافة لم تكن بعيدة لتسبب تلك البلبلة إلا أن المطر كان قد همّ بالنزول ولا تتملكني أدنى رغبة في أن ابتل. هبطت في موقعي المراد، أو الموصى به من قِبل جوجل مابز ليأمرني بعدها بالسير خطوات بسيطة حتى أصل للمبنى المطلوب حيث لا لوحات تشير إلى تواجد ذلك المتحف. امتثلت لوصاياه لأجد نفسي أمام ساحة كبيرة تؤدي لمبنى ضخم يهيأ لي أنه قد اُستخدم من قبل كمركز حكومي ينهي إجراءات العديد من حاجات المواطنين، فذلك هو التفسير الوحيد لهيئته ولا أعلم مدى صحة هذا الادعاء من عدمه ولم أبحث عنه حتى هذه اللحظة. ظللت في تقصي علامة تشير للمتحف، حالة شبيهة بالبحث عن إبرة في كومة القش بيد أنه لا توجد أكوام متكدسة سواءً كانت لأشياء أو أُناس. وجدت سيدة أمن تجيب عن بعض تساؤلات السياح القلة وتشير بيديها صوب الوجهة المنشودة من قِبلهم اقتربت منها وسألتها عن موقع المتحف لتجيبني على عجل وكلها رغبة جامحة في تبيان غبائي عند قولها: “لقد تعديته انظري إليه هناك خلفك”. فوجئت حينها بباب قد انزوى مواربًا عن أعين العامة  قبيل الساحة التي وطئتها قبل قليل والمؤدي لذلك المبنى المهيب المجهول الهوية. أقتربت منه لأجد ملصقًا قد انتصب ويشيء بالمتحف ليخبرني بلطف أنه هنا موجود خلف هذا الباب الصغير. عبرت الباب رفقة مظلتي والتي لم تبارح مقدمة رأسي لأسمع ضجيجًا كان قد قدِم من  شخص عقدت العزم بعد لقائه أن نشرت سيرة حياتي يومًا ما أن أشير إليه بالرجل الأشد فظاظة، ولا أود في ألتقي بمن هم أشد وطأة منه. تشكل صراخه نتيجة تواجد مظلتي في موقعها المعتاد أعلى قمة الرأس، نهر تلك الفعلة وزمجر عن ضرورة إغلاق المظلة وأخذ الكيس البلاستيكي الذي لم ألمحه بجانب الباب، وعلى ما يبدو أن هذا المتحف عقد العزم على مواربة الأشياء بخلسة كمن يرغب في لعب الغميضة مع الآخرين. أديت المطلوب مني في ثبات صلب وجمود ملامح لا تنقل حقيقة ما أشعر به من حنق غير أني عقدت العزم على المضي قدمًا والاستمتاع بتلك الجولة دون أية منغصات.  

أتى هذا المعرض في آخر جولاتي الفنية داخل لندن، وفي الحقيقة أنه قدم بشكل مباغت وعلى حين غرة قبل يوم من تاريخ المغادرة، تنازلت فيها مجبرة عن حقي البديهي في جعل أخر أيام السفر كاملًا في ممارسة ما أحب من تسوق. ولا أعلم صراحة ما الذي جعلني أقوم بهذا الفعل خصوصًا وأن تلك المعارض أصابتني بالتخمة الفنية ومن الصعب جدًا التركيز في أعمال فنية مهولة ضمن نطاق زمني وجيز دون أن تنساب منك أعمال أخرى تستحق انتباهك. لذا ظننت أن الرحلة انتهت عند هذا الحد لحين زيارة أخرى لمدينة أخرى.

 

صعدت السلالم المؤدية لغرف العرض، وأود أن أنوه أن تلك السلالم تعد تحفة فنية تضاهي وربما تزيد تلك اللوحات المعروضة بهاءً. اللوح المعروضة قليلة مقارنةً بما شهدته في معرضي ذا ناشونال وتات بريتين. قدومي للمتحف لم يكن بغرض رؤية لوحة بعيينها كما حصل في متحف تات معية لوحات جون سارجنت ومعرض الأخوة روسيتي أو متحف ذا ناشونال مع العديد والعديد من الغنائم، قدِمت وكلي معرفة بأن هناك عدد لا بأس به من أعمال الانطباعيين. تنقلت على مضض بين اللوحات واستعجلت الهروب للطابق الأعلى كونه يضم لوحاتهم؛ الطوابق الأولى كانت مجرد أعمال تنتمي لعصور أقدم بكثير لا أجد نفسي تهواها. طفت بخفة دون تركيز مبالغ فيه بين عمل وآخر ليراودني شعور بأن موعد خروجي قد أزف وأن الرحلة انتهت في وقت أقل مما كان متوقع. 

إلا أن الحال انقلب ليسفر عن تصنم جسدي أمام واحدة من تلك اللوحات والتي وضعت بجانب البوابة وكأنها تؤدي تحية الوداع لمن أراد المغادرة على عجل أو حتى مواربًا، ألا أن هذا الأمر لم ينطلي علي لأخالف ما دُبر لي من أمر وأتمعن النظر في تلك اللوحة. هي لوحة للفرنسي إدغار ديغا، والشهير بلوحاته الراقصة والمغتصة بفتيات الباليه وقد شاهدت إحداها قبيل معاينتي تلك الأخاذة. هي نقيض لمحتوى ما رسمه ديغا سابقًا فملامح المرأة المرسومة هنا باهتة متشحة بالظلام وكأن ينابيع الألوان استنفذت مخزونها. وقد خدعتني حتى أني ظننت بأن وجهها قد رسم من الخلف متمعنة بالمنظر الخارجي عبر النافذة، واللوحة تحمل عنوان هذا المشهد “امرأة عند النافذة”. ألا أنه وبعد تعمقي أكثر وجدتها تشيح بنظرها للأسفل في الجهة المعاكسة غير آبهة بما يحدث في الخارج عبر ذات النافذة.

 هناك لوحات تصيبك بشيء معين شيء لا يمكن تفسيره أو تتهرب عن الإفصاح به، هذه اللوحة هي إحداها. تأثير اللوحة كان قويًا بسبب تواجدنا في ذات المكان لأني أجزم بأني لن ألقي لها بالًا لو رأيتها في كتاب أو على صفحات الانترنت.

لم أرد أن ألوث ما التقطته عيناي وأبعثر ذلك الشعور بقراءة الأحدوثة المتعلقة بتلك اللوحة، ألا أن فضولًا انتابني ورغبة تملكتني بضرورة قراءة القصة المخفية عنها. وجدت وصفًا دقيقًا لما أرادت اللوحة إيصاله أو على الأقل ما تم استشعاره من قِبلي. رُسمت هذه اللوحة أبان حصار باريس من قِبل الجيش البروسي والعارضة التي امتثلت لديغا لغرض رسم اللوحة كانت ترغب في مقابل غير معتاد عند أداء تلك المهمة، فبدل أن تقبض النقود نظير ما عملته اكتفت بقطعة لحم تمكنها من العيش نتيجة المجاعة التي يعاني منها سكان المدينة، وهو ما استشفيته من عدم محاولة إلقاء نظرة عليها كونها غدت غير مرغوبة في تلك الظروف الصعبة. هو نوع من انقضاء التوق تجاه شيء عنى الكثير فيما مضى.

(٤)

استعدادًا للعودة إلى الرياض وحين انكبابي على الحقيبة في محاولة جديدة لإغلاقها. ولا أعلم لماذا طرأ علي تعليق جين فوندا عن صعوبة فك سحاب فستان السهرة الذي أضطرت للنوم دون خلعه، فقد ألفت الوضع مشابهًا. وجدت نفسي مرغمة على الرمي بثقل جسدي كاملًا حتى يساهم في عملية الضغط ليسهل معها انزلاق سحاب غطاء الحقيبة.  وفي حركة مستعجلة غير مفهومة مني قمت بالقفز قليلًا بركبتي المثنية لإضافة دعم أقوى لتلك العملية. ألا أن أمرًا مباغتًا حصل أصابني بالرعب لمدة وجيزة، فحين انتهائي من القيام من تلك الحركة الفجائية تصلب الجزء الأيمن من ظهري ممتدًا من منتصفه إلى الحافة. كأنه قد غادر مأواه  صوب جهة غير معلومة. ولوهلة ظننت أن شيئًا ما قد قُطع ولقلة خبرتي في علم التشريح فلا اعلم يقينًا ما الشيء الرابض تحت جلدي في تلك المنطقة إلا أنني توسمت أنها عضلة. ومع تصلب تلك العضلة تصلب جسدي تمامًا وخشيت أن أنا أديت المنوط مني من عملية مغادرة الحقيبة وتركها على حالها سيزداد الأمر سوءًا أو أن القطع سيتمدد. منحنية الظهر توجهت ببطء شديد صوب السرير. استلقيت على ظهري وفي مخيلتي أن الألم سيهدأ أن وجد في وضعية استرخاء. بيد أن ما حدث كان النقيض، لازال الألم ينبض حياةً دون رغبة في مغادرتها. ظللت في محاولات شتى لتجاهله، فهو الحل الوحيد المتاح لدي فموعد الرحلة لم يتبقى عليها الكثير ولا أحتمل وضع سيناريوهات متخيلة تدور أحداثها داخل أروقة المستشفى. “سيذهب من تلقاء نفسه كل ما أحتاج إليه هو القليل من الراحة” ظللت أهمس بتلك الكلمات حتى أهدئ من روعي ومن سطوة الألم المسيطرة علي. بيد أن الألم لم يبارح مكانه، ظل متشبثًا طوال ساعات رحلة العودة بالطائرة، اشمئزاز يضاهي الآلام المصاحبة لرحلة عبور الأطلسي بل زادها تقززًا. امتثلت بعدها لفطرة الإنسان الطبيعية حين عودته لمكان الإقامة الدائم من محل الإقامة المؤقتة بالنوم طويلًا دون التفات لمنغصات، بعد ابتلاع مسكن للألم بالطبع. استيقظت بعدها دون أن أغفل عن تشيك منطقة الألم بحذر كمن يتحسس أرضًا مُلئت بالألغام ولا يرغب في نهاية مأساوية. قمت بعدة اختبارات لجس النبض استدرت يمنة ويسرة علّ هذا الألم يخرج من قمقمه إلا أنه ظل نائمًا. حاولت استفزازه بأداء حركات فجائية وسريعة تذكره بما مضى بيد أنه ظل في غيبوبته أو عله غادر جسدي دون رغبة في عودة. غمرني فيض من راحة ممزوج باستغراب لمغادرة ذلك الألم المفاجئ، حضوره كان سريعًا مؤلمًا إلا أنه لم يطل مكوثه ولم أفكر بعدها في ماهيته او أسباب تواجده. بإمكاني أن استشف حكمة من هذا الموقف العرضي غير أن طبيعتي لا تسمح بلعب دور الواعظ لنفسي، أو لا سمح الله للآخرين، كل ما أجيده رمي الألم وراء ظهري دون التقصي عن مسببات.

(٥)

غرف المستشفى….. مرة أخرى:

كان والدي يقوم بالأمر مزدوجًا وهو الذي ذاق اليتم منذ أن ابصر الدنيا، فلا يتذكر حضور أب في حياته. كان لزامًا عليه أن يضاعف من فعل الأبوة في حزم جامد عند العقاب وغدق بالحنان أكثر من المعتاد. ولذكائي كنت أستغل ذلك الأمر بالاقتراب منه عند هنيهات الرخاء  والابتعاد كثيراً ساعة الغضب لأن مجادلته ستعد مضيعة للوقت، فأنت لا تجادل شخصًا حانقًا بل اثنان غاضبان. وقد اختبرت هذا الأمر مرات عديدة في جدالات لا منتهية. فكلانا لا ينتمي لنفس الحقبة ولا الأمزجة،  فأجد نفسي غائصة داخل دوامة من مشاعر حب وكره في آن واحد تفضي بي إلى غضب منه تصورت عدم انطفائه إلا أنه هدأ من تلقاء نفسه دون أن أعي لماذا. أما الآن وفي حالة المرض أشعر به مضاعفًا حتى وإن بدا بسيطًا يسهل علاجه بأدوية غير متعبة. ألمه الصغير غدا غولًا ينهش من ساعات نومه، ومن عادته المحببة في إلقاء قصائد شعبية استصعب إلتقاط كلماتها المندثرة. أمر روتيني كارتقاء عتبات باب المنزل بات يهدد سلامة جسده، يستوجب اتمامها معاونة وملاحظة من الآخرين حتى لا يحصل ما لا يحمد عقباه. معه فهمت الأخطار المترتبة من تلك الأدوية المهدئة والتي نبجلها ساعة الشعور بالألم كونها تمدنا بتلك السكينة الخاشعة. رأيت فعلتها المشينة بالجسد والنفس، لديها قدرة هائلة في تحويل المريض لشخص آخر لا صلة له بمن تعرفه. بت أفهم دعوات المنادين بالعودة للطبيعة وترك تلك المواد الكيميائية، فهمتها لكن لم أعتنقها حتى الآن.

منزل أعلى الجبل

ما من طريقٍ إليه

⁠‫كمنزلٍ ريفيّ وسطَ المروج

⁠‫لا درب يهتدي إلى بابهِ الضيّق

⁠‫المتوحّدِ فوق العتبة

  •  بسام حجار

في سنوات مضت، كنت أقطن مدينة الطائف. تحديدًا في الصف الثاني والثالث ابتدائي. فتعريفي للسنوات قد ارتبط بمقعد الدراسة لا التاريخ المدون، فتلك السنة كنت أدرس الصف الثاني الابتدائي وتلك كانت السنة التحضيرية في الجامعة وهكذا. أما بعد مغادرة تلك المقاعد أصبح لزامًا علي البحث عن حدث مميز بداخلها  كي تبرق سريعًا عند التطرق لها، أو أعانها الله ستغادر مجبرة لتتمدد على  آرائك النسيان. 

اعتدنا خلال فترة إقامتنا هناك الذهاب كعائلة في عطل نهاية الأسبوع لجبل منزوِ يخلو من الزوار والمصطافين. وقد تبدو كلمة منزوِ غريبة بعض الشيء أن أُخذ بعين الاعتبار الطبيعة الجغرافية لمدينة الطائف والتي تقع في نهاية سلسلة جبال السروات أي أن الجبال تقدم نفسها كخرزات مترابطة داخل سلسلة ودون أية فواصل تبعدها عن بعضها البعض فظاهرة تواجد جبل وحيد إن صح ذلك التعبير تعد مستحيلة بيد أن ذاكرة الطفلة تحذف ما شاء لها من صور. 

طريق صغير عُبد على عجل يمكنّ الزائر من الصعود لأعلى قمة ذلك “الجبل الوحيد” ولا أعلم كم يبلغ ارتفاعه بالمقاييس المترية ولا أعلم إن كان شاهقًا بحق كما برز في مخيلتي الطفولية.  المؤكد ان زواره قلة ومن النادر أن تتواجد عائلة أخرى معنا في ذات الوقت. أما عن سبب ترددنا عليه فالعلة تكمن في عدم وجود أقارب في تلك المدينة نملأ بهم فراغات تلك العطل. نتسامر معهم و نتزاور فيما بيننا كما كانت أغلب عوائل ذلك الزمن تفتعل الأمر في لحظات فراغها. عالمنا تمركز في الرياض وضواحيها.

هناك في الأعلى انتصب وحيدًا وشامخًا منزل بسور يسهل رؤيته من مختلف الجهات، كون الرائي يظل دومًا في أرض منخفضة بالنسبة إليه، فما أن ترفع عينيك حتى يتباهى بمكانته العالية. نظرة مغرورة يرمقك بها تتغلغل داخل جوفك ساعة التقائكما. وكنوع من مجابهة ذلك العلو كنت أصعد قمة صخرة ضخمة قد وسمتها باسمي ولا أدري أن كان الاسم قد ظل موجودًا أو احتوته عوامل التعرية بيديها الرحبتين. “أسماء” حُفر هكذا دون نقصان، بهمزتي القطع والمتطرفة، رغم عدم جدوى الأخيرة. وقد قرأت مؤخرًا للروائية أولغا توكارتشوك على لسان بطلتها في رواية “جر محراثك  فوق عظام الموتى” عن غباء الأسماء التي نحملها،  وعبثية الاختيارات التي تحدث رغمًا عنّا. “فقر في الخيال” هكذا وصفته وبسبب ذلك ظلت تطلق الألقاب على الأشخاص الذين تلتقيهم دون أن تنادي أي منهم باسمه ظناً منها أن الصفات أفضل في مطابقة  حقيقة الأشخاص من الأسماء. أما أنا فعلى ما يبدو وعلى عكس بطلة أولغا كنت سعيدة باسمي. ربما لسبب لو علمت عنه كانت قد غفرت لي تلك النشوة الصغيرة.  فقد قصت علي والدتي مرارًا وتكرارًا قصة إنقاذي من خطر ماحق ومستقبل مظلم نظير إصرار والدي  إطلاق اسم”…..” علي تيمنًا بوالدته، جدتي رحمة الله. “لو تعلمين ماذا فعلت حتى عدل عن رأيه” تلك كانت جملتها المغذية لفرحتي والتي ما فتئت أجهر بها دومًا كوثيقة نصر وتلك الصخرة كانت الشاهدة، “أنا أسماء لست …..”.

لننسى الاسم ونعود لذلك المنزل المترصد. رغبت بشدة في استعادة الصور المتعلقة به وهنا أتحدث عن صور ملموسة فوتغرافية لا خيالية مهترئة اجتُرت من الحصُين داخل الدماغ. سألت والدتي مرارًا وتكرارًا وهي المسؤول الأول عن حماية ألبومات الصور العائلية أن تخرج لي ذاك المخصص لفترة إقامتنا في الطائف، ألا أنها دائمًا ما ترد معترضة، وكأنها مهمة شاقة توازي فتح مغارة علي بابا. لأن إخراج الألبومات جميعها واستخراج ذلك المرغوب ومن ثم إعادتهم مرة أخرى مهمة وَعِرة لا بد من أن ينشأ خلالها ضياع بعض من تلك الصور. أشعر أن أمي تتهرب من رؤية الصور كون من هم بداخلها كبروا وغدا معظمهم آباء وأمهات لأشخاص يكبرون أولئك المتجمدين بداخلها. 

عودة لتلك الليالي الجبلية تراءى لي مرأى سكان ذلك المنزل أو بالأصح الساكن الوحيد، بما أنه معزول لا بد أن يكون مالكه في تواءم معه. لن أبالغ في تخيلاتي فكان دائمًا ما يتهيأ لي من دون ملامح كظل يركض مبتعدًا كلما أردت أن أتصوره.  تراه ماذا يفعل طوال اليوم داخل ذلك المنزل؟ هل يراقب من يقبعون في القعر بعيدًا  خشيةً منهم أم تهكمًا. أو لعله مولع بالثقافة اليابانية والتي تقدس الجبال في مورثها، “حرم الآلهة” كما أطلقوا عليها. وسواء التقطت تلك الإجابات أم لا الشيء المؤكد الذي كنت أشعر به تجاه المنزل و قاطنه هي الغبطة المحضة. 

مؤخرًا عاد أخي من رحلة عمل إلى الطائف، لأجد نفسي وبسرعة أسأله أن كان قد ذهب لصخرتنا الشهيرة والمنزل المتربص فوقها. ليرد علي قائلًا “تقصدين المبنى العسكري”. تجمدت للحظة فذلك وصف لا يطابق ما تهمس به مخيلتي. ليكمل أخي الحديث في محاولة منه للتذكير به “كان يوجد بجانبه برج اتصالات ضخم وهو سبب استعماله منشأة عسكرية” وبشكل سريع بدأت الصور في التدفق لتظهر على حين غرة بوابة محكمة الأغلاق تمنع أي شخص من العبور خلالها أسفل ذلك المبنى وهي الشبيهة بتلك المتواجدة بجانب المنشآت العسكرية والذي على ما يبدو وكونه غير ملائم لأحداث قصتي المتخيلة كان قد حُذف من ذاكرتي عمدًا. فقد تقمصت ذاكرتي دور المشذَّب رغبةً منها في إضفاء متعة داخل قصصي المتخيلة ألا أنها قد نسيت أن هنالك أدمغة أخرى قد تقوم بإنارة تلك الصور المخبأة لافتضح معها كذِبها الأبيض معي. ما أقبح الحقيقة. لا أود الاستماع إليها. مكتفيةً كنت بذلك الوهم والخيالات المتمسكة بها. الآن ما عساي فاعلة بعد أن أفلت خيط تلك القصة من يدي.

فبراير – مايو

اِنْصِبَاب الحياة:

تغتبط النحلة وتُهلل انشراحًا بارتفاع درجات الحرارة لتتحول معها إلى كائن مقدام يشق الطريق في مهمة جمع الرحيق. مئات الرحلات المقطوعة ذهابًا وإيابًا صوب الزهور والعودة إلى مستعمرة النحل. تلك المهمة تكلفها الكثير، فمعدل المسافة المقطوعة في الفترة الزمنية القصيرة تصيبها بالإعياء الشديد لتهلك في غضون أربعة أيام أو خمس. لعلها ضريبة الإقدام على الحياة بعد الضمور.

من يكتب مذكراتي:

“ما يخصّ المسرّات الصغيرة: أعتقد أن هذا الدفتر ينوس بين الثرثرة النسوية التي أكره والسخرية المحيّرة التي أتجنّب. “

  • سيلفيا بلاث

مُؤخّرًا تراودني أفكار عن ما حصل لي من أحداث يومية وهل من طريقة لرصدها وتوثيقها.تتعدد الطرق والسبل نحو تأطير تلك الأحداث والاحتفاظ بسماتها كاملة دون اقتصاص، وإن بدا أمرًا صعبًا، فأحداثنا ما هي إلا قُصاصات مبعثرة تم تجميعها بعناية. يوجد هناللك صور ملتقطة بشكل عشوائي في الجوال على فترات متقاربة وبعض الكلام المبهم والمتلحف بالكثير والكثير من البطانيات في دفاتر مبعثرة داخل غرفتي، دون أن أنسى تواجد فارق زمني ليس بالهين يفصل إحداها عن الأخرى، مما قد يتطلب تدخل رجل شرطة يفوق المحقق رتبة ولا يقل دهاءً عن “شريف” يتجول داخل بلدات لويزيانا وشرق تكساس لفك شفراتها. وأن تم تفكيك أواصر تلك الشفرة فهل هي فعلًا تشيء عن ماهيتي، أما أنها مجرد تهيؤات وأوهام اضطررت لحشرها داخل تلك الأوراق لأصنع منها حدثًا متكاملاً يصعب إيجاد دلائل على وقوعه. أمر آخر قد يساهم في تكوين صورة لا بأس بها عن كينونتي كما يقولون، رغم كرهي لهذا المصطلح، يرقد في جهاز اللابتوب العديد والعديد من النصوص المبعثرة والغير مكتملة لقصص متخيلة و مولودة من رحم أحداث واقعية. لم ترتقي لتصبح قصصًا صالحة للنشر ألا أنها قد تُفكك أمورًا مبطنة لأحداث لم أتفوه بها، قد تحتاج مرة أخرى لمعاونة ذلك الرجل الجوال في بلدات لويزيانا وشرق تكساس ليوضح لك ما وراء السطور، ولعلي سأقوم بمهمة إرسال تلك النصوص له حتى أتمكن من فهم ذاتي.

غرف المستشفى:

“فحاجتُك إلى الطبيبِ والشاعر ِ سواءً بسواء،

فكلاهما يمنحُ الدواء لكلِّ ما فيكِ من داء. “

لعل ما من شيء يبث في النفس الحنّق ويدعو صنوف الكآبة واكتظاظ الوقت كما تفعل غرف المستشفيات. نافذتها الضخمة والمطلة على المدينة على علو يسمح لك بتتبع كافة مساراتها ودهاليز قيعانها. فليس بالأمر الصعب أن تَقْتَصِّي أثر سيارة وهي تخوض رحلتها الكاملة من وإلى نقطة الوصول. بيد أنه لا متعة مرجوة للتعمق أكثر في المنظر المصاحب كما هو الحال مع نافذة أخرى في مطعم أنيق رفقةً من تحب والتي تعد العنوان الرئيس والساحب للموضوعات المرغوب بها والتي من شأنها ملء دقائق وساعات تواجدكم معًا.

داخل تلك الغرفة تبدو ألوان الحيطان، وأن جلبت أسعدها، هزيلة شاحبة. صوت خلفي لا يتغير والقادم من شاشة التلفاز المثبتة على قناة القرآن الكريم بغية تسريع عملية الشفاء. دلال القهوة والشاي وشتى أنواع الأعشاب المستساغ منها وغير المستساغ، والمرتصة بشكل منظم أشبه بفيلق عسكري ينوي المغادرة صوب أرض المعركة، ( معدات الحضور باستثناء المريض). اللوحة المثبتة والمعنية بمعلومات المريض، والطبيب المسؤول عنه والممرض المكلف به خلال فترات التناوب بينه وبين زملائه. 

بطل ذلك المشهد، المريض نفسه، غارق في هواجسه الداخلية والتي لن يبوح بها لأحد حتى وإن كان على حساب حياته. تتأمل وجهه الشاحب والغارق في أحزانه، تسمعه يصرخ رغبةً منك في إنقاذه بيد أن الصوت لا يُسمع. يُهيأ لك بأنه وهم صنعته بنفسك حتى تبدد لحظات الصمت المربكة. تتعوذ من الشيطان وتطرد تلك الأفكار بعيدًا بطنينها وصفارات إنذارها لتقنع نفسك بعدم صحتها فالطبيب قال في الزيارة الأخيرة إن الأمور مبشرة وسيحاول أن يعجل في خروج المريض بأسرع وقت.

مصعد المستشفى: 

أمر آخر  لا يقل شحوب عن غرفة المستشفى، مصعد المستشفى. المصعد في المجمل مكان مربك لا يرتدي هوية ثابتة، تحدث فيه العديد من مساوئ الفهم والحملقة في الآخر. دون الإغفال عن مراجعة القواعد كافة عند الدخول والخروج منه، دون تطبيق أي منها. مكان مكتظ بزوار ينوون مقابلة المريض أو للتو خرجوا من مقابلة المريض. يهبط المصعد مغادرًا الطوابق واحدًا تلو الآخر، القادمون من الطابق السابع يتكبدون عناء الوقوف عند كل طابق تقريبًا مراقبي اختلاف هيئات الزوار المتسمرين عند باب المصعد. الطابق المختص بأمراض القلب وتشعباتها؛ ينتاب رواده قلق وخوف كون المصاب بلغ أعلى درجات المرض، فالأعضاء داخل الجسد ليست سواء وأن تضافرت معًا في مهمة إبقاء الجسد معافى، بيد أن القلب يظفر بالنصيب الوافر من المحافظة على سلامة عائله، فما عساه يكون فاعلًا أن أصابه عطب ما. الباطنية، البعض مطمئن فهنالك تنطوي عمليات بسيطة يحتاج فيها المريض ليومين كحد أقصى ليعود بعدها لحياته المعتادة وتنتظم معها جداول من هم حوله ومن رغبوا في المكوث رفقته حتى لا يصاب بالوحشة في تلك الغرف الكدرة. وقلة قليلة منهم تنتابهم الهواجس عن مدى عافية المُزار. الطابق التالي أشبه بعرس مصغر لكثرة ما يلج فيه من بالونات وهدايا تتزين باللونين أما الأزرق أو الوردي. الأطفال، وهم من نظن أن المستشفى مكان غير ملائم لهم إلا عند الحاجة، تجدهم في هذا الطابق يتوافدون بكثرة فضولًا في رؤية القادم الجديد وخشيةً من أن يسلبهم صُرّة الاهتمام. هدوء وسكون يسود الطابق المخصص بالعناية الفائقة لا حياة تدب فيه حتى أن المصعد يُعجِّل الرّحِيل عِنْد المرور به كأنّهُ استشعر رغبة قاطِنيه في مغادرة الحياة بسلام.

المنزل العجوز:

“⁠‫البيت كان منظارَ طفولة

⁠‫البيت كان جلدَ إثارةٍ “

  • زبيغنيف هربرت

تكررت على فترات متقاربة قطع لضخ المياه داخل المنزل. ومعها أصبحت زيارات (وايتات) الماء شبه يومية، ولم أعد استغربها. قدِم العمال والمهندسين في أيام متفرقة، وفي كل زيارة تزداد رُتب أولئك المتفحصين في دليل دامغ عن صعوبة استقصاء المشكلة. تشاوروا فيما بينهم واتخذوا قرارات خاطئة لم تنفع في حل المعضلة إلا أنهم في آخر الأمر أقروا تفريغ الخزان وإضافة مادة عازلة لنعيش في المنزل دون أية إمدادات مائية ليومين متتالين. الغريب أنهم ذكروا وجود مستعمرات لا تحصى من النمل الأبيض، أعداد هائلة لسكان كنا غافلين عنهم اقتاتوا على المياه المسربة من الأنابيب. نعم الأنابيب كانت المشكلة أبسط مما تخيلنا. تفحصت الأمر كثيرًا وتعمقت في سبب توافد تلك الحشود واستيطانها لمدة ليست بالبسيطة داخل المنزل،ومتى كان توطينها الأول والمحفز لعملية البقاء دون المغادرة.  حقيقة واحدة لا جدال فيها أن المنزل قد بلغ عمرًا أبتعد فيه عن منطقة الحداثة. كيف لا وهو يحتفظ بصورتي أخرج مِنْهُ مُرْتَدِيَةً مريول المدرسة. وَوَدَّع في حُزْن مكبوت أشخاص عدُوّا من سُكانه. إن تأملته من الخارج استشف من ملامحه بهتانًا يتعلق بمرور الزمن لم يعد كما كان في السابق ينبض بالحياة، وهو أمر يصيب العديد من الممتلكات، ليس مختصًا به وحده، ألا أنه من المؤلم أن تكون الشاهد على هذا الأمر تَرَقُّب في سكون دون قدرة على المقاومة.

مؤخّرًا:

“ومن انفرد فكَّر وتوهَّم واستوحش وتخيَّل، فرأى ما لا يُرى وسمع ما لا يُسمع». 

  • ابن قتيبة

إلتهمت في الأيام الماضية، وما زلت،  يوميات سيلفيا بلاث. كتاب ضخم يحوي العديد من مخطوطات كتبتها سيلفيا تدوينًا لأحداث يومية أو محاولات فاشلة لقطع نثرية لم ترغب في نشرها. كنت متهيبة في البدء من قراءة الكتاب، فلا يسعني إخفاء أن مصير سيلفيا بلاث واتخاذها قرار الانتحار  في عمر صغيرة تجعلني أصد عن قراءة مذكراتها، فمن الصعب أن تقرأ أقاويل شخص وأنت تعلم النهاية المأساوية لتلك الأحاديث. غير أن الأمر بزغ مختلفًا، وأحب دومًا هذا النوع من التحولات، في كلمات صادقة أصيلة تفيض أحاسيس لم ترغب سيلفيا في كبتها أبدًا، ونطقت بأمور قلما تصدح بها النساء. نعم النساء لأننا كائنات مجبولة على حبس الكثير من الكلمات خشية الفهم الخطأ وعلى الرغم من هذا نُفهم خطأ، لأن مهارتنا في التعبير هي في إخفاء التعبير. لا تأبه هنا سيلفيا بأن كانت كلماتها تفيض غيرة من إحداهن، والله يعلم كمْ تتعدد الأسباب المؤدية لذلك الشعور يوميًا لدى النساء، أو تتمعن في امتداح رجل حاز على إعجابها أو الكيل في شتمه دون أن تخشى من إطلاق أحكام عليها،  ” ليس فيها حياء، ولا حِيَل الفتيات القديمة”. ثم استدركت أن سيلفيا كانت تكتب تلك الملاحظات لنفسها ومن هنا أتت الجرأة، خيبة صغيرة، ربما. هذا الأمر جعلني أتساءل عن قراءاتي لكتب كُتبت بواسطة نساء، وهل يختلف تأثيرها علي كما لو كانت قد كُتبت بواسطة رجال؟. لم أعر اهتماما كبيرًا بهوية الكاتب من قبل جل ما أقدره هي الكلمات المكتوبة إلا أن عبارات وتدوينات سيلفيا لمست أشياء كثيرة بداخلي وأضمن أنها ستتعدى غيري. وجدت ايضًا داخل صفحات الكتاب كاتبة تشكك في نتاجها ساعات وتفخر في أخرى بعظمة ما تكتبه، تلك التحولات السريعة بين يوم وآخر وعام بعد عام ليس بالأمر الجلل فحياة الإنسان سلسلة لا متناهية من متغيرات داخلية رفقة الخارجية والمتعلقة بمن هم حوله، فلا أحد يرغب بأن يتحول لمياه راكدة لا حراك فيها.  أعود إلى سيلفيا، والفضل كله يعود لها في حيازة التدوين على القطعة الكبرى من كعكة الكتابة لدي في الفترة الماضية ، والعديد من المزايا تلمستها، فلا صوت ناقد على جودة ما أكتب حيث أرقد في ساحة واسعة للتفريغ بالكتابة. أما عن القادم في قراءاتي سأركز أكثر في الكتابات النسائية. جوان ديديون هي المرشحة تتبعها حتمًا إيمان مرسال. 

نافذة

لعل أول ما يتنامى بداخلك عند الاستيقاظ من النوم لهفة البحث عن مصدر ضوء يُنبئك بحلول يوم جديد وانقِضاء فترة إهلاك الروح بأحلامِ تُبحر بك داخل عوالم لا محسوسة. ستجد عيناك وقد تحركت في حركة لا إرادية صوب النافذة، كونها المَنْفَذ لذلك الضوء بزجاجها الشفاف، دون الإغفال عن أنها حلقة الوصل بينك وبين الخارج. تلك النافذة الشاهدة على ما يدور بالداخل من أُلفة، ودفء. برود، وجفاف. تلك العين الشَاخِصة تجاه أحداث يومية تتراكم بمضي الدقائق والساعات والأيام. تسمع صمتنا وتصّدُ عن عويلنا. وهي لئيمة لا تكتفي بملء سطحها بصور داخلية فقط، فهي تُراقب أيضًا ما يقبع هناك في الخارج. تجلس مترصدة كمن عُيِّن جاسوسًا يعمل لصالح منظمة كلفتها بتسجيل كل شاردة وواردة تتجلى أمامها.  لكن هل يستدعي الأمر تعلقًا كبيرًا وإلتصاقًا تجاهها نظير ما تقدمه لنا؟  

التعلق بفكرة أو قطعة أو حتى شخص أمرُ يحدث للكثير من الأُناس. بيد أن الرسام هنري ماتيس بالغ في التشبث بها حين كان لزامًا عليه، وهو الوحيد الآمر لهذا الفعل، أن يضع نافذة في أغلب لوحاته. لن أدّعي دراسة شاملة لجميع لوحات ماتيس فلم أصل لتلك المنزلة من التخصص في علم خبايا الفنون، إلا أني كشاهدة بسيطة ومطلعة على أعماله أجد نفسي دائمًا أمام تلك النافذة. فأنا أن اخترت عشر لوحات عشوائية له ستبرز تلك النافذة في نصفها ، ثلاث ارباعها رفقة محظياته  اللواتي تبرعن بالمثول إلى جانب النافذة. لن أطرح التساؤل عن سبب تلك العلاقة، فرجل مثل ماتيس كان له النصيب الأكبر من التنقل بين المدن والبلدان ذات التضاريس المنوعة، حيث مكث طويلًا في غُرفِ فندقية تتميز بحُسن هيئة نوافذها. فالغرض الأساسي من تلك العُلب المجوفة تجسيد إلهاء ينسيك ضيق المكان لتتجلى النافذة بحجمها الطاغي وزجاجها الشفاف معطيةً إياك نظرة واسعة لصورة خارجية تنسيك ضيق الحبس المتقوقع بداخله. فما كان من ماتيس إلا الامتثال لتلك الهِبة ليغدق على لوحاته بنوافذ متعددة.

تميزت ألوان ماتيس بأنها خارقة للطبيعة، فمن الصعب إيجاد مثيل لها في الحياة الواقعية، دون أن أغفل عن صبغتها العاشقة للحياة. ولا عجب في ذلك وهو المنتمي إلى المدرسة الوحشية والتي عُرفت باللون كأداة تعبيرعن التفاصيل. والإتيان بلوحات لماتيس تتلمس فيها عنصر النافذة سيكون أمرًا بالغ الصعوبة نظرًا لكثرتها، لكن سأذكر منها البعض القليل. على سبيل المثال اللوحة الأشهر “الغرفة الحمراء” بمعية “نافذة زرقاء” وربيبتها في اللون لا المنظر “نافذة في طنجة”. هنالك أيضًا تبرز لوحة عملاقة بعض الشيء إن أخذنا بالاعتبار أرقام الطول والعرض لتلك اللوحة والمعنونة بـ “المحادثة”، ولعلي هنا سأحكي بعض التفاصيل المتعلقة بتلك اللوحة، لأخالف بذلك وجهة نظر المخرج والكاتب إريك رومر حين صرح على لسان إحدى بطلاته: “الرسم شيء مقدس، الكلمات تُدَنِّسه. الموقف الوحيد الذي تواجه به لوحة هو الصمت”.  فليعذر لي رومر تجاوزي هذا. في تلك اللوحة سنجد العنصر شبه الدائم، والضيف المرحب به على الدوام في عالم ماتيس الخيالي، والذي تتبعته منذ البداية “النافذة”. ستجدها منتصبة في منتصف القطعة الفنية، محاطة بجدار أزرق اللون يتميز بدرجته الصارخة المعتادة من قِبل ماتيس. على يمين النافذة تجلس امرأة على كرسي متكئةً بكلتا يديها على مسند المقعد وكأنها ضَجِرت من الاستماع لحديث الرجل الماثل أمامها والواقف من عند الجهة اليسرى للنافذة. الجميع يشير إلى أن بطلي اللوحة هما ماتيس نفسه وزوجته إميلي، ولعلها كانت لحظة تعبيرية لمشاعر بدأت تطفو بين هذين الزوجين. وهو ليس بأمر مستحدث يختص بحياة ماتيس، فالكثير من العلاقات الزوجية جَانبَت أو تَوصَلت لذات المصير، الفُتور. لكن هذه القطيعة المختبئة في ثنايا اللوحة لم يتم تأكيدها إلا بعد مرور عقدين على رسمها، إذا صحت التحليلات المتعلقة بها. لنستشعر من خلال تلك اللوحة بداية ظهور الشرخ داخل تلك العلاقة والتي ظلت تنمو ببطء طوال السنوات المتتالية لنصل معها للحظة الانفصال النهائية. ولعل الشاهد البارز، والعالم بذلك الأمر الخفي  كان نافذة. 

ذات النافذة نُسجت ملامحها من قِبل شُعار، أحدهم كان ريلكه. وإن أختلف تعلق ريلكه بتلك الهندسة عما كان يغوي ماتيس ناحيتها. تركيز ريلكه يتقوى من خلال مرفق الحبيبة المتكئ على النافذة، فما النافذة هنا إلا ممر عبور لامتداح المعشوقة، والتي سلبت روحه، وكلنا نعلم مدى رهافة روح ريلكه. النافذة هنا تتخذ اتجاهًا معاكسًا لما كان يجذب عيني ماتيس، الاهتمام كله ينصب لما هو موجود بداخلها فلا نلمح رؤية متعلقة بـ الإطلالة البهية للعالم الخارجي. ولا عجب أن تَعلُق ريلكه، مثلما هو الحال مع ماتيس، بقطعة النافذة قد جعله يخص إحدى قصائده بالحديث المسهب عنها. يقول شاكر لُعيبي في كتابه “شعرية التنافذ، ريلكه وتقاليد الشعر العربي” أن قصيدة النوافذ لريلكه تعد من المحاولات النادرة في شعره والتي يتخلى فيها عن ما برع فيه ذلك المفكر المنطوي على كينونته ليخط قلمه محيطه الخارجي والذي أغفل عنه كثيرًا، وكأنه في هذه القصيدة قد خلع رداء الشعراء الشماليين الغارقين في غوامض العالم الداخلي متشبهًا بشعراء جنوب العالم المتعلقين بكنوز العالم الخارجي. و سأستعرض بعض الأبيات من تلك القصيدة لإيضاح ذلك الافتتان.

أولستِ، أيتها النافذة، هندستنا،

⁠‫يا هيئة في منتهى البساطة

⁠‫تحيط دون عناء

⁠‫بحياتنا الهائلة؟

⁠‫تلك التي نعشقها لا تبدو أبدا أجمل

⁠‫إلا حين نراها تتجلى

⁠‫داخل إطارك أنتِ؛ لأنك تكادين، 

 يا نافذة، تجعلينها خالدة.

ربط ريلكه في هذه الأبيات خلود معشوقته عند تموضعها داخل إطار النافذة، وكأنه أراد أن يلمح أن لا وجود لصورة المحبوبة دون تلك النافذة، لأنها ببساطة ستُمكن المتلهف لها بإعطائه صورة ثابتة يستدعيها إذا جَنَبَ إلى لقياها. 

⁠‫لكن هاهي ذي التي تركض، وتميل، وتتوقف لتستريح:

⁠‫بعد رحيل الليل، هاهو الريعانُ السماويُّ المستجد،

⁠‫ها هو، بدوره، يُفصح عن القبول!

لا تتأملُ العاشقةُ الناعمةُ أيَّ شيء في سماء هذا الصباح، 

 ليستْ تتأملُ سوى ذاتِها، سوى هذه السماء، هذا المثال الهائل:

⁠‫هذا العمق، هذا العلو!

⁠‫لا تتأملُ العاشقة سوى حماماتٍ تجوب الفضاءَ في مسارات

⁠‫مستديرة، هناك حيث تضيء طيرانَها أقواسٌ ناعمة،

⁠‫حمامات تستعرضُ هناك عودةَ العذوبة.

يعود ريلكه مرة أخرى للعاشقة ويربطها بالنافذة. ففي هيامها المتجدد والذي يزداد اتقادًا مع آخر ذرات ليلية قبيل تحولها الكامل إلى حبيبات صفراء، تسرح هي في تأمل عميق نحو السماء الممتدة رفقة ما يحوم بداخلها. غيوم وحمام وأشياء أخرى لم يسع ريلكه حصرها. ولعلها أمعنت النظر أكثر فأكثر صوب الحيوانات الطائرة، جاعلةً مساراتها ذو شكلِ هندسي يشبه الأقواس. ومن المؤكد أنها لن تبلغ ذلك المفهوم دون معاونة الجماد الماثل أمامها. وعلى ما يبدو أن ريلكه راق له ما التقطته عيناه عبر النافذة رغم احتمالية اختباء منظر أروع أن تم له الدخول داخل المنزل المحتضن للنافذة. ألا أن شيئًا من هذا لم يحدث، أو لم يُذكر في القصيدة، لتجعلنا نظن بأنه أحد المؤمنين بحقيقة المغناطيس، حيث يكمن التأثير حين التواجد عن بعد ويتلاشى ساعة الاتصال المباشر.

أن تعمقنا في المصطلحات المشتقة من الفعل نافذة ستقفز للأذهان كلمة (التنافذ) والتي يتم جر معناه إلى: “تَنَافَذَ القومُ إِلى القاضي: خَلَصوا إِليه ورفعوا إِليه خصومتَهم”. لكن لنغّض الطرف قليلًا عن المعنى السابق متوجهين صوب الإيحاء العاطفي المشتق منه لتتجلى عذوبة المعنى ورقته في تلك الجملة: “الذهاب للآخر والاتصال به شعوريًا، في التنافذ ثمة ذهاب متبادل نفّاذ نحو الآخر”. وتتجلى رغبة الاتصال تلك عند ذكر المحبوب أو المحبوبة في الشعر العربي، كما تتضح بصورة أخرى في توق المريدين للاتحاد بالله في الشعر الصوفي. وكما يذكر لنا شاكر لُعيبي مرة أخرى في كتابه (شعرية التنافذ) “التنافذ هو الممر الذي يخترقه السرُّ، المخفي والمحجوب. وهو هذه التبادلية للأسرار بين الداخلي والخارجي، بين الغائب والحاضر، وبين المرئي واللامرئي”.

تستدرجني تلك الكلمات نحو الحديث عن هوية النوافذ التي رقدت تحتها. عن من كانت تقبع هناك أمامي عند البحث عن الدلائل الأولى لهطول الصباح بقطعان أشعة الشمس النافذة من خلالها. ورغم ما قد يصيب الذاكرة من عطب طفيف أو حتى عميق نتيجة تراكم السنوات المقضية، إلا أن أول نافذة لمحتها وُصمت بقوة في ذاكرتي. بإطارها المربع، وسياجها المعدنية المرتبطة بعمارة تقليدية مجاورة لأخرى تشبهها، وشقق تتماثل تفاصيلها ومكنوناتها بما يكتض به المنزل المجاور. ولكن هذا الأمر يجرني لطرح مصطلح آخر لتلك المُراقِبة نظرًا لكونها سياجًا معدنيًا أكثر من كونه مطل يتيح رؤية أوضح للخارج. وفي اللغة العربية ارتبط الشباك بتلك الصفة حيث يتميز بعزل لأصحاب الدار عن الخارج دون رغبة في الالتقاء به. فهو غير معني على الأطلاق بالانفتاح على الآخر، أو بأي صبغة ذات دلالات رومنسية، ولعل قريحة ريلكه لن تهمس له بشيء لو كُتب لها المكوث قرب تلك الكوة. وأبرز معاون لوسم وتثبيت تلك الصفة لهذا الحاجز المسمى “شباك” هي السياج المعدنية المتداخلة. 

نفس التصميم في مدينة أخرى ولعله لو لم يذكر لي اننا انتقلنا إلى مدينة تبعد 700 كلم غربًا عن الأولى لكنت ما علمت بهذا الأمر أبدًا. تصميم متطابق وبروز مرة أخرى للشباك لا النافذة دون رسم أية معالم جمالية تستدعي قدوم ذكرى. لعلها كانت باهتة الملامح لا شيء يستحق التتبع خلف هويتها.

فجأة تنبهت لتلك النافذة المتربصة أمامي، وكأني ألمح شيئًا لأول مرة. تلك الأعين المثبتة على الحائط. انتباهي هنا لم ينشأ لكون الملموح قد وُضع حديثًا ويتمتع بخصلة جذب الانتباه في أيامه الأولى، لأسبر ما بداخله بُغية اكتشاف ما لم يُلمح في البدء. بل على العكس من ذلك، فقد استوطنت هذه النافذة تلك البقعة سنوات عدة تقارب العقدان تناقصت خلالها الأجساد المتراصة في كنفها. ألا أن اللمحة هنا قد تغيرت أو لعله اللامِح لها هو من تغير، أو هو مجرد رفع درجة التركيز نتيجة الحديث المطول عن النافذة. صنفت هذا التأمل تحت بند التشريح. تفكيك أوصال تلك القطعة حتى أفهمها بشكل جيد. ما زال الشكل المربع هو الطاغي على المنظر رفقة السياج المعدنية ألا أنها هنا قد اتخذت شكلًا جماليًا يحاول أن يطمس صفة الشباك عنه. تشعر بأن الآخر موجود لكن بحذر، لا بعد متعمد ولا قرب يؤنس به. ظل يحاول أن ينتقل للداخل لكن يأبى في كل مرة أن يكمل رحلته. هي لمحة لا تغريني كثيرًا، بيد أن وجودها يُعدُ مؤنسًا تستطيب الروح للقياه عند أولى لحظات تفتح الأعين.

ديسمبر – يناير

عندما استفاقت اجتاحتها نفحة الملل ذاتها، والتي ظلت ملازمة لها في اليوم السابق، واليوم الذي يسبقه، واليوم الذي يسبقه، حتى نصل معها لليوم الأول. طرحت التساؤل الملح، والواجب قوله، من جلب كل تلك الجزيئات المتراصة والمسؤولة عن تركيب مركب الملل. وهو مركب شديد التعقيد يصعب التعرف على عناصره حتى يصبح من السهل على الملولة فك روابطه وإعادة كل عنصر منهم لمسقط رأسه، بعد أن تربت عليهم، مستحلفةً إياهم بأن لا يعاودوا الارتباط معًا حتى وإن كانت لديهم الرغبة الجامحة لفعل ذلك. 

أحاطت جسدها بذراعيها حتى توضح لي أن الطقس بارد جِدًا، وفي تبرير لطلب أوصت به لعامل المقهى بإطفاء جهاز التكييف. أشفقت عليها بسبب تلك الرعشات التي ظلت تجسدها أمامي لأوافق على برودة الهواء داخل المقهى، رغم اعتراضي على هذا الأمر. مصيبة الخجل.

في لعبة التنس لا بُد من أن تتقن عدة ضربات، فاللعب هنا ليس عَشوائِيًا يبدأ عند رؤيتك للكرة وينتهي بضربة قاسية لها بهدف الخلاص السريع وإيصالها إلى الخصم المباشر. يجب عليك أن تضع أطراف جسمك الأربعة في أماكن محددة وبزوايا مختلفة قبل أن تنوي ضرب الكرة حتى يتسنى لها الانتقال بأمان للبقعة المقابلة. ولعبة التنس جاحدة، ما أن تبتعد عنها قليلًا حتى تعاملك كغريب لم يُكتب له ممارستها من قبل. إحدى تلك الضربات التي تنكرت لي هي ضربة الفورهاند أو ضرب الكرة بالجهة الأمامية للمضرب. يؤلمني أن أعاود التدريب عليها من الصفر، كون وضع القدمين مقابل بعضهما البعض مع ميل الخصر إلى الخلف رفقة الذراع، والتي ينبغي عليها أن تحلق من الأسفل إلى الأعلى دون مبالغة في عملية الطيران أمرُ لا يأتي من تلقاء نفسه. في المقابل هنالك ضربة الباكهاند والتي لم أجد صعوبة في العودة إليها، فما أن أنوي الرحيل حتى أعود مسرعةً لنقطة الانطلاق، وهو فعل أملك الكثير من الخبرة فيه. ثالث تلك الضربات هي  السماش والتي أستبعد حدوثها من قِبلي كون الفعل يتطلب رقمًا معينًا في الطول أوقن بعدم حصولي عليه. أحاول التركيز لضبط الزاوية. كيف يمكنني ذلك؟. سأستعمل النظر حيث لا أملك أداة غيرها. الأقدام في موضعها والأيدي مستعدة لبدء العمل. يجب علي الآن تحريك اليد بشكلٍ نصف دائري من الأسفل إلى الأعلى دونما عجلة. ممتاز السرعة ملائمة، حتمًا ستتحقق معها ضربة الفورهاند المكتملة. إلا أن الشخص الماثل أمامي والذي يمدني بالكرات الواجب إرجاعها لم يتوقف عن الكلام حول السمك وأنواع السمك وأفضل البحار المربية للسمك. “سمك الإسماعيلية أطيب سمك ممكن تذوقيه في حياتك”. لو علم أني لا أطيق رائحة السمك وحديثه عنها يجعلني أشمئز أكثر وأكثر. السمك والكثير غير السمك. الخضار المحتشدة داخل السلطة. حلقات الزيتون. القهوة، شربها لا المقشر المستخلص منها. التمر ومشتقاته من أطباق تشيء بأن من ابتدعها كان مُضطرًا لعدم توفر مكونات أخرى. فلا رغبة لديه في كسب إعجاب المتذوق. ولن أغض الطرف عن الفواكه غير المحببة، لنرى: أكره المنجا والبطيخ والفراولة والعنب. ربما اختصارًا للوقت سأذكر ما أستسيغه منهم وهما اثنان قد يصطف معهم ثالث في أحيان، وأحيان أخرى يبقون منفردين دونه؛ البرتقال والتفاح والمتردد الموز. رغم عدم تذكري لآخر مرة تناولت فيها قطعة من التفاح إلا أن مجرد ذكر اسمه لا يجلب معه الرغبة في الغثيان كما هو الحال مع الحليب. الحليب كيف لي أن أنساه وهو المتصدر في الأطعمة المنبوذة، المسببة أيضًا لأمور لا أنوي التطرق لتفاصيلها. أين كنت؟ نعم في محاولة إتقان ضربة الفورهاند. تفاجأتُ بمرور الكرة من جانبي قابعة هناك في الخلف دون أن ترتطم بالمضرب. هذه المرة كان الإخفاق كبيرًا والذي كان في السابق متشكلًا على هيئة إرجاع الكرة لكن بطريقة خاطئة لتحل محلها معضلة  عدم اللحاق بالكرة. سألقي باللوم على رائحة السمك البغيضة. 

خفض سقف التوقعات كما صرح به محمد عبده “وش اللي عاد أرتجي”

محذرًا إياها من خطر السفر داخل الغرب الأميركي، قبل مئة عام، نبه رجل قبيلة باوني المنتمي إلى السكان الأصليين تلك المرأة المنتقمة بأن عليها أن لا تكتفي بالقوس والسهم في لحظة الدفاع عن النفس، إذا ظهر القاتل، ولكن يجب أن يكون السكين أقرب لها. وأن تستغل لحظة وقوف القاتل لتسبقه بالطعنة. تساءلت لماذا قد يقف القاتل قبل أن يقتلها، أجابها “ليتأمل وجهكِ”. كانت عبارة غزلية في غير موقعها، خطفتها من لحظة عدم الأمان لمنطقة أخرى واضحة المعالم. وهذا ما جعلها جذابة، لاذعة. تشبه لسعة الليمون في الطعام حين تباغتك في أكثر الأوقات انشغالًا.

The English 2022

مواقف الحافلات لمترو الرياض مارست الحياة بشكل عكسي؛ جربت الهجر قبل الأُنس.

لعنصر اليورانيوم عدد نيوترونات كبير تقبع داخل نواة ذرته، مقارنة بـ بروتوناته، وهذا ما يجعله ذو نشاط إشعاعي ضار بغية الوصول للاستقرار. ألا أن هذا الأمر كلفه عمرًا مديدًا يقارب الملايين من السنين، حتى يصل إلى لحظة الاطمئنان تلك. سيصيبك لفحة سكون بأنك لن تضطر في حياتك القصيرة الانتظار كل تلك المدة بغية المكوث في بقعة تفوح طمأنينة، والانتهاء كُلِيًا من رحلة الركض اللامتناهية للحاق بِالسُّكْنَى. هي سنوات قصيرة مقارنةً بذلك العنصر المسكين والذي يُعرف باليورانيوم.

“مفتاح السيارة بطاريته منخفضة” تنبيه يعاود الظهور في كل مرة أهم فيها للخروج من السيارة. وفي كل مرة مفتاح السيارة يعمل دون أي مشكلة.

امتطت سيارتي ظهر رصيف للمرة ….، ألا أنه في هذه الحالة أرادت تلقيني درسًا يسهم في دب الذعر بداخلي. أبت العجلات أن تستجيب لضغطة البنزين التي ما فتئتُ أزيدها قوة عبر قدمي اليمنى. حققت مرادها لأجدني مذهولة من رؤية المنظر بعد نزولي من السيارة، أربع عجلات تلامس الأرض دون أن تبدي رغبة بالحركة. أطلقت كافة الشتائم المسموحة حتى استفزها فتبادر بالتحرك. لأنهي معها هذا الموقف العصيب، بيد أن لاشيء من هذا قد حدث. داخل المواقف الخالية برز رجل أسمر كان يتأمل البدر الذي ظهر هذه الليلة بعد غياب قسري طيلة الأيام الماضية والتي كانت مصحوبة بهطول غزير للأمطار. ولعلي قطعت خلوته ومناجاته عندما صرخت صوبه بأن يخلصني من تلك الورطة. لم يتوانَ عن القدوم مسرعًا رغبةً في المساعدة. أمرني أن أركب السيارة واضغط على دواسة البنزين. استشطت غضبًا فماذا عساي كُنت فاعلة قبل قدومه. ألا أنه أصر قائلًا “تتسهل إن شاءالله”. عملت ذات الفعل الذي قمت به من قبل، وعادت ذات النتيجة للظهور، لا حِراك. أبتعد الرجل قليلًا وكأنه لمح شيئًا يعرفه حق المعرفة. خفت بأن يبتعد هربًا من تلك المسؤولية. تخيلت أن ذلك الحمل قد أرهقه فما عاد قادرًا على التحمل ليبتعد بجسده بعيدًا دونما نية في العودة. ألا أنه سرعان ما تبددت شكوكي حين رؤيتي له عائدًا ناحية السيارة حاملًا بيده قطعة خشبية مهملة من مبنى في طور البناء. قام بوضع القطعة الخشبية ناحية العجلة العالقة، مع صعوبة في رؤية المشهد كاملًا لفهم ما يجري . ما أن أنهى ذلك الفعل الغامض حتى أطلق زفرة الانطلاق “الآن”. عدت لعمل ذات الفعل للمرة الثالثة. وللمرة الثالثة لا حِراك.  أعاد فعل الفعل الغامض مضافًا إليه صوت طرقات أحسب أنها قدِمت من القطعة الخشبية وهي تنهال بالضرب على العجلة العالقة كعقوبة حازمة تجاه ما ارتكبته من تهور. أعاد إشارة الانطلاق مرة أخرى لأعاود الضغط على دواسة البنزين ومعها أحسست بارتفاعَ في السيارة، ليصاحبها ارتفاع في هرمون الأدرينالين ضاربًا مستوى قياسي أظنني قد تخطيت قمته ومعها اجتزت عتبة الرصيف. انهلت بكلمات الشكر والثناء على الرجل مع ذكر مديح طفيف عن تلك الشهامة ليقابلها بكلمات مبهمة احسبها تدل على تواضع رجل اعتاد فعل ذلك الأمر. ركنت السيارة قريبًا من موقع الحدث، لم أستعجل الخروج للحاق بموعدي داخل البناية إلا أني هممت بفعل الخروج في النهاية. كان السكون يحف المكان في وشاية كاذبة عما ضُجَّّ به قبل قليل. أشحت بعيني في كافة الاتجاهات إلا باب العيادة، باحثةً عن العناصر المكونة لمشهد “إنقاذ السيارة”. جميعها اختفت، لا الرجل الأسمر ولا القطعة الخشبية. حتى البدر الذي أضاء لنا الليلة، والمرتبط بتحريك أمواج البحار لأعلى مستوى دون الإغفال عن علاقته الغريبة مع قصص الأساطير، عاد لاحتجابه خلف الغيوم المحتشدة. كأنهم جميعًا أدوا الغرض المنوط منهم في هذا الوقت داخل هذا المكان، لينتقلوا بعدها مكملين مشهدًا آخر يحدث تحت سماء أخرى.

وضع ارهينيوس مفهومًا يفسر سلوك الأحماض والقواعد. آمن بأن المركب الذي يحمل ذرة هيدروجين ويهبها عند تفاعله مع الماء هو حمض والمركب الذي يهب جزيء الهيروكسيد عند خوض ذات التفاعل هو قاعدة. بيد أن النشادر أصابه في دهشة لقدرته على وهب جزيء الهيدروكسيد واحتوائه على ذرة هيدروجين بداخله. امتعض بشدة نتيجة مخالفة ذلك المركب توصياته. أشعر بأن ارهينيوس باح لنفسه معبرًا عن استيائه من النشادر مطلقًا كافة الشتائم المقبولة والمنبوذة، بل وتملكته الرغبة الملحة بإخفاء ذلك المركب عن الوجود خوفًا من أن يدمر نظريته الفتية. لكن لا شيء من هذا حدث كل ما قام به هو أن تجاهل هذا الأمر واضعًا جملة من كلمتين عن سلوك النشادر بقوله: “لا يمكن تفسيره”. 

منبوذًا مثل الكربون. يبنون مدنًا خالية منه، ووقودًا لا يلفظه إلى الخارج. ذلك الخارج الذي عُد مسكنًا لشكله الغازي والذي يأبى الجميع في استنشاقه. 

لحظة سعيدة تتحول إلى ذكرى يتم التحسر على ابتعادها وكلما طالت المدة الفاصلة بين وقت حدوثها والوقت الذي تم فيه استدعاؤها يزداد معها حجم الحسرات. أما الحزينة أو الغليظة فتهرول مسرعة ساعة نشأتها مبتعدةً في قاع لا يُعرف مكان تواجده، فلا يرغب صاحبها في استرجاعها أو حتى تذكرها. باتت آمنة رغم قبحها. 

أصبحت تفضل الاستماع للموسيقى الخالية من الكلمات، تكفيها تلك السيناريوهات المحتشدة داخل رأسها. ولا تملك أدنى رغبة في إضافة المزيد منها عبر الأغاني.

اشتركت في تطبيق DailyArt، وهو تطبيق يعنى بإرسال لوحة لكل يوم، يتذيلها معلومات بسيطة عن الرسام رفقة لوحته. في البدء طرح تساؤل عن الوقت المفضل لدي والذي أرغب فيه بتلقي تلك التنبيهات، اخترت التاسعة صباحًا لا لسبب مغرِ بل لكوني شعرت بأنه ملائم. الغريب أن التطبيق قرر أن يرسل تلك الرسائل عند التاسعة وأربع دقائق. ظننت أنه خطأ يبرز عند البداية إلا أن التطبيق التزم بهذا الوقت دونما حيود، وكأنه قد تلقى أوامر عسكرية بهذا الأمر أن هو أخل بها سيتحصل على عقوبة قد تنهي تواجده الألكتروني. خيالي المحض سرح بي نحو التفكير بتلك الدقائق الأربعة المفقودة. ماذا بوسع تلك اللوحة السابحة أن تفعل داخل الفضاء الإلكتروني؟ وماذا بوسعي أنا أن أفعل خلال دقائق الانتظار الأربعة؟

❞ لو وَقّت كلّ شيء بشكل دقيق، فلربما تزامنا بهدوء في موعد وصولهما. ❝

أحد الأمومة – غراهام سويفت

جو وإدّ

جو

أراقب خطواته، ينتابني خوف لرؤية هذا الرجل. أو ربما خيال هذا الرجل. أحاول طرد تلك الأفكار من رأسي. لحظات ولحظات من النزهات الصامتة التي يقضيها داخل المنزل، من الرواق إلى المرسم وإلى المطبخ. ساعات وساعات من الأفكار السوداء. أرغب بشدة في الذهاب إلى المطبخ إلا أنه قام برسم حدود داخل الشقة الصغيرة، قسم الأرضية لمناطق عدم عبور، يحرم علي التواجد بداخلها. أمكث هناك حبيسة في الخلف، ويتمثل أمامي كتفا إدوارد العريضة.

أصبحت تصرفاته موبوءة، يقوم بفعل إحداها حتى تتفشى التبعات في كافة أرجاء الشقة. تلك الشقة الضيقة والتي ما زلت أتساءل عن سبب استئجاره لها في هذا الطابق المرتفع دون أدنى مقومات العيش الأساسية. كل ذلك رغبةً في تلك الإطلالة الساحرة، حتى يتسنى للإلهام أن يغدق عليه بتلك الأفكار الباهرة والقادرة على التلون لتغدو لوحة فنية.

أتذكر جيدًا رعشة قلبي للقياه بعد سنوات عديدة من الفراق، غير المقصود، والتي تعد كفيلة بإخماد ذلك الشعور تجاهه. إلا أنه عندما شقت عيناي الطريق نحوه، في أول أجزاء تلك اللحظة، تدفقت تلك المشاعر من جديد. قادمةً من ذات الينبوع الذي جزمت بنضوبه. أقترب مني بجذعه الضخم، وطوله الفارع والذي ما انفك أن يزداد كل ما اقترب أكثر. حياني بأفضل منطوقاً لحروف اسمي “جو”. هو يعشق نُطقه مختصرًا، فلا طائل من ذكره كاملًا خشية أن يعطي إيحاءًا بالحشمة. عندها لم أتمالك نفسي لاقتطاع أسمه بذات الطريقة، أخرجته مشذبًا بعناية بهيئة حرفين متلاصقين “إدّ”. كُنت متقدة وآخرا ما أتمناه أن اتسم بالحياء، أو لعل الحياء ظل هاربًا مني على الدوام.

ما بك جوزفين، هذا الشخص هو ما تعلقت به روحك قبل أكثر من عشرين عامًا، حينما جزمتي بأن الوحدة ستكون ملاذك الأزلي، قدِم هو منتشلًا إياكي من تلك الهوة، لتنعمي بعدها بأيامِ ظننتي استحالة حدوثها. كنتي تسيرين خلفها لاهثة في جري محموم وكلما اقتربتي من خط النهاية أدركتي مسارًا جديدًا.

لكن لماذا لم أنتبه لصمته المهيب، ونظرة عينية الصارمة تجاه ساعة الحائط. كدت أجن من الغيرة من تلك الساعة. فأنا أن جمعت عُشر نظراته لها غلبتني في جل لحظات التقاء أعيننا. امتهنت من حيث لا أدري، كيف أتحول من شخص إلى آخر. تنكرت لهويتي حتى بت أتوق لها في فترات متباعدة. قد نسيت بأني “جوزفين” ذات الجسد الضئيل. غديت امرأة شقراء طويلة في لوحته “New York Movie”، واتقنت فن الاغراء بالرقص داخل عمله “Girlie Show”. أجد نفسي محتشمة في أحيان، ومتعرية بالكامل في أحيان كثيرة. أضحيت ظلالًا لشخوص نساء لا أقوى على مجاراتهم في الحيز الملموس. عندما أتمعن في الأمر أكثر أجد أن إدوارد تمتع في تشكيلي حسب رغبته وبما تملي عليه شهوته. لعله بتلك الطريقة أراد إيصال أمر لم يقو على النطق به، في لحظات صمته الطويلة، صدى صوته في القول بأنه ما عاد راغب بي. يطبع تهيؤات على تلك الأقمشة لمن أراد المكوث معهم في الحقيقة.

حيرني إدوارد باتخاذ الوحدة رمزًا للوحاته. أتُراه يلمح دون وعي منه عن المشاعر المترسبة فيما بيننا. ألم نكن سعيدين في بداية زواجنا. كيف لرجل مرتبط بامرأة أن يصرح علنًا بأنه وحيد. تلك الحالة لا تحمل إلا تفسيرًا واحدًا، أنه لا يرغب بالبقاء إلى جوارها. وعلى ما يبدو أن ذات الشعور بدأ يتسلل إلي.

إدّ

بت لا أطيق صوتها، أصاب بالحيرة عندما لا يضنيها التعب جراء التحدث دون توقف. من أين أتت بكل تلك الكلمات؟ تهم بإطلاق بعض الجمل البسيطة لتستمر معها رحلة لا نهائية يستحيل فيها إغلاق العضو المسؤول عن كل تلك الضوضاء. ذلك الفم، وددت لو امتلكت قوة خارقة لاقتلاعه من موقعه حتى يتسنى لي التركيز فيما أنوي القيام به. العالم على شفا الانهيار وحرب مجنونة تدق أبوابها بالقرب من نيويورك وهي حزينة بأني ما عدت أتواصل معها بالشكل الكافي. ألا ترى انكبابي على رسم تلك اللوحة اللعينة العالقة في غباب عالم مجهول لم أتمكن من استقصائه. حتى الرغبة المتكررة في رسمها داخل اللوحة لم تقدِم إلي هذه المرة، لن تكون ضمن الشخصيات المتواجدة بداخلها.

تؤلمني قدماي من كثرة الصعود والهبوط عبر تلك السلالم جالبًا الفحم حتى نمنح الشقة بعض الدفء. تلك الشقة التي بُهرت بها وبنافذتها الواسعة المطلة على ميدان واشنطن. إطلالة تجعلني أتحمل بعض المساوئ الجلية من عدم احتوائها على حمام أو حتى ثلاجة، لكن من عساه أن ينشغل بهما في خضم إنتاج عمله الإبداعي. كم هي باردة نيويورك، أحبها لكن ما تفتأ أن تجلب لي المتاعب كلما حل الشتاء. تلك البرودة القارسة القادرة على تجميد كل طرف متصل بجسدي وأهمها تلك اليدين.

أذكر اللقاء الأول لي مع جو. حين كنا مجرد فتيان يافعين نخطو خطواتنا الأولى في هذه الحياة. وبسبب جرأتها غير المعهودة في ذلك الوقت، اختارها الأستاذ روبرت هنري في مدرسة نيويورك للفنون لتكون العارضة من أجل تطبيق رسم البورتريه. لن أنسى نظرتها الثابتة والتي تضيء بعزيمة قوية، وثوبها المنزلق من كتفها. بالطبع لم أجرؤ على الحديث معها أو حتى الاقتراب منها ألا إن دروبنا تقاطعت في وقت ظن كل واحد منا أن الوحدة ستكون ظله الملاصق والرافض للانفصال عنه حتى وإن احتجب الضوء المسبب في وجوده.

الخوف من الوحدة، أظنه الدافع الرئيسي لارتباطي بها، لم يكن حب ذو طوفان من مشاعر ترغب في الالتصاق بالشخص الآخر دون ترك فرصة تمنحه القدرة على التنفس. صدفة، لا يُفهم مغزاها، جمعتنا في ذات المكان. ألقيت نظرتي الأولى لأتعرف عليها على الفور رغم مرور العديد من السنوات عن آخر لقاء لنا. في الحقيقة كان لقاءً يتيمًا بعد ما حدث داخل غرفة الصف في مدرسة الفنون. إن حسبتها رِيَاضِيًّا ستكون ثلاثة لقاءات بالمجمل. ذلك العدد كان كافيًا لاتخاذ قرار الارتباط والتي قبلت به جو على الفور.

أراها الآن عبر المرآة، وهي تتلصص علي في غمرة انحنائي تجاه اللوحة. لن أنكر تنامي الرغبة بداخلي في استدعائها حتى يتسنى لي إكمال هذه اللوحة من خلال رسمها. سأجد لها مكانًا داخل هذا المقهى، أجلسها بجانب الرجل الممسك بالسيجارة وأجعلها ترتدي الفستان الأحمر. لن يتبادلا أطراف الحديث كون الغرض الأساسي من اللوحة هو شعور كل فرد منهم بالوحدة حتى وإن وجدوا في موقعِ ينبئ بعكس ذلك.

مقهى في أورلاندو

عندما تلتصق بك عادة، يصعب عليك الانفصال عنها. تجد نفسك قاطعًا ما أنت مستمتع به لتنفيذ ما اعتدت عليه. داخل مدينة أورلاندو، تلك المدينة الغرائبية، والتي أصفها بتلك الصفة لا تعبيرًا عن ابهار يشد الناظر إليها، بل استغرابًا من هوية مفقودة تتكبد الكثير من العناء في بحثِ دؤوب عنها. شُيدت المدينة لغرض واحد، هو الترفيه لا غير. في خطة محكمة لجذب رؤوس الأموال الممكنة لإضفاء ازدهار ممنهج يجعل منها قوة جذب لنشاطات إنسانية أخرى. اُختير الموقع بدقة، فهو ينبئ بأحوال طقس ملائمة طوال العام، ضامنةً بذلك توافد السياح دون انقطاع يُنضب محفظة المدينة المالية. مدن ترفيهية تنقلك لعالم ظننت وجوده في كتب الخيال، غالبًا طفولية، فمن مثل الأطفال في إقناع الآباء المكلومين أحقيتهم بتلك الأموال. أردت الابتعاد عن كل تلك الملهيات لأجد نفسي متوجهة صوب ضاحية وينتر بارك. وهي منطقة أراد من خلالها السكان نسيان مدينة أورلاندو، وهو فعلًا ما تم لهم. حدائق شاسعة تمدها أشجار عالية بظلال لا حدود لها، لتمتهن مهنة أخرى خفية تتمثل في وضع حاجز بين البلدة وبين الضاحية. سكان تلك الضاحية يمارسون الركض في كل الأوقات. فالطرق غير مزدحمة، ومرصوصة بحجارة صغيرة تذكرك بتلك الأزقة لبلدة أوربية مطلة على البحر الأبيض المتوسط. مشهد يبدو دخيلًا بعض الشيء إلا أنه أضاف رونقًا جعل الكل مغمورًا بطاقة تم تحويلها للحركية منها متمثلةً في الهرولة. توجد سكة حديد لقطار لا يقطع مسافات طويلة، فما أن ينوي الرحيل حتى يعود مسرعًا لنقطة الانطلاق، لا أعلم الغاية المرجوة منه، إلا أنه أضفى خلفية جميلة لصورة الضاحية. 

تترامى على جنبات وينتر بارك العديد من المقاهي. اتخذت إحداها ملجئًا لي، في إستمرارِ لفعلِ لا أقوى على محوه. صُمم المقهى بأبسط التصاميم ، فالمناظر الخارجية رفقة الكائنات الحية كفيلة بأن تجعل من كل مبنى شُيد على عجل جميلًا وأن لم يحاول في أن يكون كذلك، كل هذا دون تكلف يعقد من منظر المبنى. أخرجت اللابتوب لتبدأ معها رحلة الكتابة في أي شيء. أمعن النظر في الشاشة واشيح ببصري بين الفينة والأخرى صوب اتجاهات مختلفة، أُناس ملفتة، غيمة طافية، شجرة منحنية، أو حشرة تصيبني بالحيرة عن ماهيتها ودرجة الألوان المصطبغة على ظهرها. وبين هذه وتلك أحسست بدنو شخص من الخلف، بيد أني حاولت التنكر لهذا الأمر بالأخذ بعين الاعتبار أن مساحة المقهى صغيرة تحتم اقتراب الأشخاص دون قصد منهم. إلا أنه سرعان ما تبددت تلك الفكرة بعد استماعي لكلمات تخرج من فمه حُملت بواسطة هواء مشبع، سارت على عجل ناحية أذني، وكرد فعل طبيعي لما حدث التفتُ لألتقي بمن احدث كل تلك الضوضاء. شاب طويل اشقر بلحية مبعثرة غير مهملة تعلوها خصلات ذهبية بدأت في التحول تدريجيًا ناحية اللون البني. “مرحبا، اسمي مايكل”. لوهلة انتابني حدس يشير بأن هذا الشخص مألوف لدي، أو لعل السبب يكمن في الأسم ذاته. فأسم مايكل يتم تداوله بشدة بين من يتبنون اللغة الإنجليزية مرفأً لهم، شبيهة بمعضلة اسم محمد في ديارنا. فأسماء الذكور لدينا مكررة بشكل كبير، وما أن تنوي الواحدة منا تجاوز أحدهم يظهر مسرعًا داخل تفاصيل حياتها اليومية؛ اسم شارع، شخصية في مسلسل تهم في متابعته أو اسم يبرز على شاشة الهاتف ينتمي لشقيقها الأكبر يلح في السؤال عن أحوالها وتوبيخها بلطف لقلة تواصلها معه وعدم التفاعل مع ما يتم إرساله داخل قروب العائلة في الواتساب. لابد من إحداث ثورة في أسماء الذكور كما هو الحال مع الإناث حيث لا تنفك تلك الأسماء بالتطور والاختزال في أقل عدد ممكن من الحروف. فما عاد هنالك أسماء مكررة تحتاج فيها لذكر الاسم الثاني أو الثالث، هي المرة الأولى التي تستمع فيها لهذا الاسم وهي الأخيرة حتمًا. بينما على النقيض تمامًا، هو يحمل اسم جده وجده يحمل اسم عمه وعمه سُمي على عابر طريق أحدث موقفًا رجوليًا نال من خلاله شرف تسمية ابن من قدم له يد العون ويا للمصادفة هذا الاسم يحمله جاره.

بالعودة لمايكل، في البدء لم أستغرب فعلته. فالرجل ينتمي للجنسية الأمريكية ومن أُسس تلك الهوية هو الحديث مع الغرباء، بل أكاد أجزم بأن من أفتعل هذا الفعل وجعله عُرفًا يتجنبه البعض ويستحسنه الآخرون هم الأمريكيون ذاتهم. رددت عليه التحية بشكل مقتضب رغبةً مني في إنهاء الحديث سريعًا فلا طاقة لي بأن أناقش أحوال الطبقة العاملة في بلدان أوروبا الشرقية. استرسل في نسج الكلمات معبرًا عن الطقس وعن جماليته في فلوريدا ومنافعه التي أدت لتحسين حالته النفسية، فقد قدِم من ولايات الشمال الشرقي، تحديدًا بنسلفانيا، حيث البرودة الشديدة والقاتلة لكل رغبة في الحياة. في المقابل كنت ثابتة على الكرسي دون حراك يذكر، وما من دلالات أبعثها تفيد باستلاطفي لهذا الحوار. لم أنطق بشيء يستدعي انتباهه، كل ما بدر مني كان كلمات بسيطة غالبًا مؤيدة لما يقوله، إلى أن بدأت في ملاحظة تغيير في مجرى الحديث والذي أخذ منعطفًا آخر، منعطف تعجبت من جرأة مايكل على طرحه، “أن كانت لديك الرغبة في الانضمام لنا، فنحن مجموعة من الأشخاص نمر جميعًا في ذات التيه والبحث عن حصادنا الأول لبذور زرعناها منذ زمن. بيد أنها تأبى في أن تنبت”. 

حلت علي برهة من الزمن أضعت فيها جسدي، فما عدت قادرة على تحسسه في محاولة مستميتة مني لإنكار ما استمعت إليه، لماذا نطق بكل تلك الترهات وما الحافز الخفي وراءها. رددت عليه بحنق “وما الذي جعلك تجزم بأني كذلك”. عدل من وقفته كمن أراد أن يلتقط نفسًا لمحاولة اقناع شخص عنيد لا ينوي الاعتراف بغلطته “تسنى لي رؤيتك ساعة قدومك للمقهى والبدء في النقر على لوحة المفاتيح لكتابة ما ترغبين في كتابته، إلا أنكِ ظللت فترات طويلة تهربين من أداء تلك المهمة بعمل أي شيء يسحب البساط من أداء الغرض الأساسي لقدومك إلى المقهى. دون أن أغفل عن علامات الاستياء الكبيرة والبارزة للعيان تجاه ما تكتبينه”.

أردت الوقوف لمواجهته فقد أغدق علي بملاحظات لم أطق سماعها ناهيك عن جرأته واعتداده بنفسه وأن ما ينطق به هو الصحيح المطلق وغيره من الأقوال محض كذب وافتراء. بيد أني قد تمالكت نفسي في رسم ابتسامة صغيرة في محاولة بائسة لقبول آراء مناقضة لما أؤمن به. “لكن أليس الفعل الأول للكاتب هو كره ما يكتب” رجوت بذكري لتلك العبارة أن أوجه ضربة قاضية لمايكل رغبة مني في البحث عن ظفر متأخر، غير أنه رد بشكل لم أتوقع وتيرته ليردف قائلًا “صحيح لكن في العادة تكون فكرة مستحسنة أن كان الفاعل كاتبًا له نتاج ملموس يجعله في خضم مقارنات بين ما فات وما هو قادم. لكن في حالتك الوضع معاكس”.

 مرة أخرى يجزم بأمر يخصني لا علم له به، ويدعي معرفته ببواطن الأمور. تلك النوعية من البشر تحترف استقراء الغرباء مع رمي إدعاءات قد تصيب وقد تخطئ. هدفهم الأساسي إبهار متعمد يجذب المتلقي ناحية التفاصيل الصغيرة التي أثبتت صحتها مع التغافل عن الأخطاء الكبيرة في تلك الرواية المحكية. وجدت نفسي وكلي رغبة في إغلاق جهاز اللابتوب والابتعاد بأكبر قدر ممكن من الأميال عن المدعو مايكل والذي أحس بدوره في رغبتي الجامحة في الإنسحاب. “لن أثقل عليكِ بالحديث، لكن لدي فضول في معرفة تاريخ ميلادك. أهوى كثيرًا ربط أحداث حصلت عند قدوم الشخص وبين ما يحصل معه في الوقت الحاضر” . لاح لي تفسير واضح لكل ما بدر منه، هو ممن يؤمنون بشدة بعلم الكونيات، كان علي أن استنتج ذلك منذ البداية، تنبؤاته التي ظل يلقيها على مسمعي، هدوءه القاتل والذي ينبأ بشخص روحاني يُعنى بعلم الماورائيات. بُحت له بتوقيت قدومي لهذا العالم، عن طريق ذكر جميع الأرقام التي تشير لتلك اللحظة؛ اليوم، الشهر، السنة. سكت قليلًا،سكت كمن أراد أن يربط بعض الأمور بعضها ببعض أو رغبة في التأكد قليلًا من أمر جلل. أخيرًا نطق لسانه ببعض الكلمات بعد هذا الصمت المريب “أتعلمين أنه ذات اليوم الذي ظهر فيها مذنب هالي؟”. أنا على علم بإسم هذا المذنب لكن تخفى علي بقية التفاصيل المتعلقة بمواعيد ظهوره وما يترتب عليه من أمور قد تصيب سكان الكرة الأرضية، ناهيك عن أنه مجرد جرم محلق في الفضاء قد يصطدم يومًا ما بكوكبنا أن حد عن المسار. “وهل تعتبره أمرًا حسنًا أم هو نذير شؤم” “لا يمكنني الجزم بإطلاق حكم مطلق، لكن قد يساعدكِ هذا الأمر أن اعتليتِ منصب قائدة جيش وقررتِ خوض حربًا ضد شعب آخر”.

عائدة إلى الفندق، ظل اسم مذنب هالي يتردد داخل رأسي. لم أستطع مقاومة إغراء النقر على الهاتف المحمول والدخول على صفحة جوجل والسؤال عنه، إلا أنه تملكتني لحظة ضعف أن يكون هنالك تفسير لا يروق لي أو أمر يجعلني نافرة على نحو لا يطاق. صحيح أن التطير ليس في حساباتي، أن استثنيت منها توجسي من شهري سبتمبر ومارس نظرًا لحدوث أمور جلل داخل نطاق أيامهما، غير أني أردت إشباع فضول لا أكثر والشعور بالأهمية كوني مشاركة في حدث كوني. كتبت العبارة المطلوبة ليظهر على وجه السرعة اقتراح بتحويلي إلى موقع اليوتيوب لمشاهدة أغنية بيلي إيليش – مذنب هالي. ارتحت كثيرًا لرؤية هذا الاقتراح لأغلق بعدها صفحة البحث وانطلق مسرعة للتجول داخل كوكب الأرض.

مناخ استوائي

أصبح خوان بونثي دي ليون على قرار كان قد تمخض داخل رأسه طيلة الليلة السابقة، سيبلغ الملك بهدف حملته راجيًا منه أن يوفر المال الكافي لسفن تلك الرحلة، هو يملك المال الوفير وبمقدوره أن يقوم بالأمر من تلقاء نفسه لكن رغبة ملحة تتغلغل بداخله في تلقي دعم الملك ومباركته.

 “البحث عن ينبوع الشباب” ستكون تلك العبارة مفتاحًا لجذب انتباه الملك لعلها تحلق بخياله بعيدًا داخل حلم يقظة يرى الملك نفسه وقد غدا شابًا من جديد. تلك الأسطورة المتناقلة عبر الأجيال والتي ظل الأوروبيين لقرون يرددونها طويلًا أملًا في الالتقاء بماء الحياة، ألا أنها ما فتأت أن تضمحل لعدم ثبوت صحتها في كل الرحلات المنجزة لذلك الغرض والتي ابتليت بالفشل في عدم حدوث أي أمر يذكر داخل تلك الينابيع المستكشفة. إلا أن الأسطورة عادت للبروز مع اكتشاف العالم الجديد، بسبب همسات السكان الأصليين أمام المستعمرين الأسبان عن تواجد ينبوع يحمل ذات الصفات المتعارف عليها بما تقدمه من خدمة جليلة للبشرية بالإبقاء على نسلهم شابًا للأبد. قد تصدق تلك الأحاديث وقد تخطئ، فمن يعلم قد تكون لعبة أراد السكان الأصليون لعبها مع أولئك الغزاة لإصابتهم بالإعياء نتيجة التوهان داخل القارة الجديدة. ألا أن الأمر الغريب الذي يبرز هو تعلق خوان بونثي دي ليون بذلك الينبوع وفي إشتهاء طعم تلك القطرات المجددة للجسد والتي لا تتواءم كليًا مع فكرة أنه قد بلغ للتو عامه الأربعين. لماذا الهوس في أن يعود شابًا وهو لم يبتعد كثيرًا عن تلك المرحلة. لعلها رؤية مستقبلية تم استبصارها عن قرب رحيله والذي سُجل في عامه السابع والأربعين. 

رست سفينة دي ليون في 27 مارس من العام 1513 على شواطئ أرض لم تطأها قدم أوربي من قبل، رغم أن الأولويات باتت غير ذي أهمية نظرًا لتضخم عدد الأقدام المغروسة في تلك الأراضي، ألا أن هذه الأرض ينظر لها دي ليون نظرة المتعطش لرشفة ماء من فم الينبوع المنتظر، ولم لا رفقة القليل من الذهب. قبل أن يبدأ في مهمة البحث، تفكر دي ليون في إسم يلائم هذه البقعة، تفحص الظروف المحيطة ليتذكر وقوع هذه الأيام ضمن الأسابيع المقدسة والمصادفة لعيد الفصح، وبالنسبة لدي ليون والأسبان المرافقين له تترسخ صفة التدين والرغبة الملحة في القيام بأفعال مرتبطة بالدين في كل شؤونهم اليومية، فما كان من القائد دي ليون إلا أن اختار اسمًا دينيًا يتلاءم مع هذا الحدث. وبلغة إسبانية هي جل ما ينطق به لسانه أطلق على تلك الأرض مسمى “La Pascua de las Flores”  وهو المصطلح الذي اعتاد الأسبان تسميته على أسبوع عيد الفصح والذي يعني مهرجان الزهور، ألا أن دي ليون أردته صفعة خيبة أمل من “فلوريدا” فلا ينبوع حياة قد وجد ولا التماع قليل من ذهب يساهم في إضفاء بريق على تلك الرحلة الخائبة. 

بعد خمسمائة عام وبضع سنين وطأت قدمِي بلدة سانت أوغسطين في فلوريدا داخل كاستيلو دي سان ماركوس أو قلعة القديس ماركوس. في مكان ليس ببعيد عن آثار أقدام المخفق في تحقيق هدف إطالة الشباب المستكشف دي ليون، لا أعلم يقينًا أين حط لكن المصادر تشير إلى البلدة المتواجدة بها والتي أُنشئت بعد رحيله بخمسين عامًا. أحمل المنشور التوضيحي وشمس حارقة ترسل أشعتها بسرعة هائلة لتتمركز داخل رأسي جاعلةً من رؤية الكلمات المطبوعة على المنشور ضبابية يصعب التقاطها، هي حتمًا إعلان تم إرساله من قِبل جسدي عن احتمالية الإصابة بضربة شمس. من المثير للرثاء أني قد قدمت من مكان تسطع فيه الشمس بكامل طاقتها طيلة أيام السنة ولم تدون ذاكرتي أية إصابة باعتلال في توازني ضريبة التعرض المباشر لها، وهأنذا في منطقة تعد أقل توهجًا في إشعاعها الشمسي بيد أن الجسد بدأت تخور قواه في محاولة بائسة منه لإضفاء صفة عدم الاعتياد على الحرارة العالية. نتج عن هذا الوضع خطأ في انتقالي بين قاعات القلعة والمدون بداخلها الخط الزمني لحكامها وما أعقبها من أحداث، فعلى ما يبدو أني قد سلكت الطريق الخطأ. تلك الغرف لم تكن مرتبة على التوالي كما افترضت، بل عليك أن تسير في خطوط أفقية للقاعة ونظيرتها المواجهة لها، لأجد نفسي وقد قلبت بعض التسلسل الزمني برؤية البريطانيين أولاً ثم الأسبان لمرتين متتاليتين لأنهيها مع القوات الأمريكية، بيد أن السجل التاريخي الفعلي لهذا المكان كان أسبانيًا، بريطانيًا ثم إسبانيًا مرة أخرى لينتهي كما هو معروف تحت راية العلم الأمريكي. على الرغم من كل تلك التحولات فكل ما تلمحه العين في تلك البلدة يمكن اعتباره إسبانيًا، المباني المشيدة على طراز نشأ في شبه الجزيرة الإيبيرية، أسماء الشوارع والأبنية الأثرية كانت بلغة إسبانية واضحة للمستمع. ستجد صعوبة بالغة في إستقطاب روح إنكليزية أو أمريكية لتلك البلدة عدا العملة المعترف بها داخل المقاهي والمحلات الصغيرة والمطبوع على واجهتها صور الآباء المؤسسين للولايات المتحدة.

بعد انتهائي من صراع الأمم المتناحرة على أحقية امتلاك تلك الأرض، كان لابد من زيارة المحيط المتكأ بثقله على شاطئ البلدة، ذلك المحيط المهيب في حجمه وقوة الدفع لأمواجه والتي ما هدأت أبدًا رغم وقوعي في يوم يُعد صحوًا لا تعتريه منغصات من شأنها أن تثير غضب تلك المياه الجائعة. تيقنت الآن السبب الرئيسي في عدم نجاة أي راكب من حملة بانفيلو دي نارفاييث من تلك العاصفة الهوجاء التي ألمت بها غير بعيد من هنا، باستثناء الثلاثة المحظوظين رفقة مملوكهم المغربي والذي أسهب في سرد روايته المنسية في كتاب “ما رواه المغربي”. 

تصفع الرياح القادمة من المحيط كل ذرة في جسدي، ورغم سرعتها العالية والتي تجعلك تصاب بثقل في الحركة أن أردت أن تدخل جسدك في غياهب مياهها، رغم ذلك فأن نشوة تعتريك عند قدوم موجة مندفعة لا يفصل بينها وبين رفيقتها سوى ثواني معدودة تجعل من عملية التقاط النفس مستحيلة، هي حتمًا ستؤلمك ان كنت في وضع مخالف لما عليه حالك الآن، إلا أن السعادة وجدت لها بابًا أطلت من خلاله على ثنايا روحي وغمرته بما يتواءم  مع ما أشعر به. 

في غمرة كل تلك الأحاسيس لفتني منظر لأم وابنتها أنهكها كثرة اللحاق بها في محاولات مستميتة لمنع الصغيرة من دخول الماء، ظل بصرها متعلقًا بساقي الابنة لاهية بذلك عن جمالية المنظر المحيط بها. كانت مرتبكة في تلك اللحظات القليلة وقلقة تترقب حدوث أمر سيء اُبتُدِع داخل رأسها، تُرى هل قدر الأم أن تَرقُب بحذر خطوات أبنائها طوال حياتهم لتنسى معها وقع خطواتها؟ 

في الناحية المعاكسة يقف أب وابنه حاملًا بيده صنارة في مشهد يوحي بمحاولات متعددة صدرت من قِبل الأب لتعليم الأبن حرفة صيد السمك، ناول الأب الصنارة للأبن، يلتقطها منه دون حماسة تذكر وفي خضم عملية الانتقال مازال الأب يصدر كلمات غير مسموعة متأملًا  أن تفضي في إتقان ابنه تلك المهارة. أدركت حينها امرًا لا أعلم صحته، وهو أن الأب يقضي مع ابنه عطلة نهاية أسبوع كانت قد حُددت له من خلال المحكمة بعد الانفصال عن زوجته، لعله ظل طوال الأيام السابقة يعد العدة لهذا اليوم المنتظر متصورًا حماسة الطفل ناحية ما رتب له. المشهد القائم أمامي يوحي بعكس ذلك تمامًا. 

أردت أن أبعد  نظري بعيدًا عنهما بعد أن أحسست بضيق لم أرغب في قدومه الآن. كانت صورة منفرة للمراقب من الخارج لكن قد تبدو ممتعة لهم من الداخل.

نحن نعرف ما سيأتي

في المعركة الخالدة للهروب من المهام اليومية، وجدت نفسي مطلعة على بعض الملاحظات المدونة في هاتفي الشخصي. تبرز جملة غير مكتملة في المقدمة، تتبعها ملاحظة كنت قد أديت المأمول منها، وأخرى أثارت تساؤلًا بداخلي عن مدى أهميتها الآن. إلا أن عبارة أصابت الهدف بشدي بقوة ناحية موقعها دون إمعان، سُطرت حروفها على هذا النحو (رواية “نحن نعرف ما سيأتي” وعن الواقع المحفز للخيال).

لم يستغرق الأمر سوى بضع ثواني حتى بدأت الذاكرة في استدراج بعض الالتقاطات من تلك الرواية والتي بُعثرت بشكل عشوائي دون إخلال في ترتيب قد يفقدها الرونق الخاص بها. الأبرز كان ربطها بلفظ الواقع المحفز للخيال. استأذنت الرجل المحترم عمدة كاستربردج كي أضعه جانبًا لأعيد إستخلاص الرواية ورؤية ما شدني فيها. تتخذ القصة شكلًا من أشكال الخيال التاريخي، حيث أنها تدعي حدوث أمر ما لأشخاص عاشوا في الماضي إلا أنه لم يتم. فهو في مجمله خيال محض ألا أنه حُفز بواسطة شخصيات تم التعمق داخل قصصهم في كتب التاريخ والسير الذاتية، أو من خلال كتاباتهم الأدبية كما هو الحال مع أبطال تلك القصة. 

كلايست وجوندروده رجل وامرأة مارسوا فعل الكتابة بما تملي عليه أرواحهم. هو عَشِق المسرحيات والقصص القصيرة أما هي مارست تلوين الكلمات برقة مشاعرها منتجةً قصائد كانت رفيقة الدرب في الحياة الوجيزة. كلاهما في الواقع أنهى حياته في عمر مبكر بالأقدام على الانتحار، والفاصل الزمني بينهما كان مجرد خمس أعوام تكاد لا تذكر في عداد الزمن والحارس الفطن القاطن بجوارها. لعل الكاتبة استوقفها أوجه الشبه الكبيرة بين الشخصيتين والنهاية الدرامية لحياتهما دون الإغفال عن تقارب فترة تواجدهم على هذا الكوكب، لأجل هذا ابتغت لقاءً لم يكتب له النشوء في وقت حضورهم. أمسكت بسلاح القلم ورسمت وقائع تتحكم فيه وحدها عن طريق إخراج المشاهد.افتعلت حفلًا ادبيًا للكُتاب الألمان يحضر فيه كلًا من الشخصيتين المنكوبتين، ومعها تستدرج كلايست وجوندروده لخارج ذلك الحفل في نزهة طويلة بجانب نهر الراين لتملأها بحوارات وحوارات لا تنتهي، ذكرتني تلك اللقطات بأفلام ريتشارد لينكليتر و وودي آلن حيث لا إبداع يُجمل الفيلم سوى الكلمات المنطوقة والتي ما فتئت تبهرني. هل التقى كلايست وجوندروده في مكان واحد؟ لا أحد يعلم، وهل من الممكن أن يكون قد أقاما حديثًا طويلًا أدى لتأكيد رغبتهما في الرحيل عن هذه الحياة؟ أيضًا لا أحد يعلم لأن الإجابة تكمن داخل جسديهما المتحلل في باطن الأرض. قد يتمكن بعض المتخاطرين بالأرواح من التواصل معهم أو إيهام السائل بمعرفة ما دار في ذلك الوقت، ألا أن المقتنعين بتلك الرؤية لن يكملوا عدد أصابع اليد الواحدة، فلن يأتي التأكيد الحتمي لتلك النظرية من خلال رؤى تتراىء لشخص يدعي امتلاكه قدرات خارقة.

تلك القصة والتي اختلقتها الكاتبة لا تختص بها فقط، فكل واحد منا يسرح بخياله بعد رؤيته لأحداث تقع تحت ناظريه لتبتدع عضلة المخ بعدها مناظرًا لم تطرأ في المشهد الأصلي. وكأن الكتابات المتدافعة في جري محتوم نحو الورق ما هي إلا اقتباسات عن وقائع طرأت بالصدفة في خط حياة ذلك الكاتب. وكدليل دامغ لهذه المعضلة القَسم المتكرر من قِبل الكُتاب قبيل بدء الفيلم أو المسلسل الراوي لتلك الأحداث بعدم استنادها على وقائع وشخصيات حقيقية وان حدث هذا فهو من باب المصادفة لا أكثر (الجميع يعلم انها ليست مصادفة). 

بحبال وثيقة يمتطي الواقع بالخيال متتبعًا ضحكات عمرها مئات السنين أو بضع ثواني. ذلك الصدى يعود منعكسًا بشكل مختلف، يضاف عليه بعض الأصوات المختلقة والتي يؤمن ساردها بضرورة حضورها، ليجد نفسه متعلقًا بتلك القصة أو ما توهمه من تلك القصة. قد تكون مجرد أسطورة وقد تكون واقعًا لا يراد له أن يحدث، في كل الأحوال هي تملأ عليه تفاصيل حياته، حياته الذي ظل محاولًا باستماتة تغير روتينها.

أن نفهم أننا مسودة-ربما تُرفض، وربما تُستكمل مرة أخرى

– كريستا فولف

أخيلة حقيقية (2): مايفلاور ووادي السيليكون

استجمع قواه لمواجهة ما كان يؤرقه طيلة الأشهر الماضية، عقد العزم لبذل ما في وسعه تحقيقًا لمبتغاه. مضت فترة زمنية طويلة بعد اتخاذ ذلك القرار، فالعمل لدى السفير لم يكن كما كان متوقعًا من قِبله. قدِم ويليام بروستر إلى هولندا وكله حماسة تجاه العمل الدبلوماسي داخل السفارة البريطانية. ألا إن اعمالًا روتينية وأساليب لم ترق له كانت سببًا في اتخاذه القرار الحاسم. 

عدل من هندامه، وانتصب للحظات مضت كساعات، ليفقد معها حساسيته تجاه الوقت. ألقى نظرة خاطفة على مقعد السفير، ليجده كما اعتاد أن يكون عليه متمللًا يطالع السقف بتمعن فلكي يأمل في اكتشاف جرم يستحيل تحديد هويته. أقدم على الخطوة التالية بتحريك قدميه إلى الأمام، تلك الحركة كانت كافية لإزاحة بصر السفير عما كان يتأمل، ليجتذب كافة انتباهه ناحية بروستر.

  • “ويليام، منذ متى وأنت تقف هنا”
  • “للتو سعادة السفير”

بدأ بعدها بروستر في شرح ما رغبت به روحه، معللًا قرار الاستقالة بالشوق للعودة إلى البلاد ورؤية والده المريض، والذي يعد سببًا مقنعًا من وجهة نظر السفير. ألا أن الأسباب التي ذُكرت على مسمعة لم تكن الحقيقة التي أدت إلى لقطة الختام للبطل بروستر. بيد أن العادة جرت على تحريف الأسباب الواقعية لصالح أخرى متخيلة ذات طابع إنساني. نتج عن ذلك الاستجداء إعفاء ويليام بروستر من ذلك المنصب أواخر العام 1589.

 لم يكن بروستر يومًا يشبه من هم حوله وظل منذ سنوات دراسته في كامبريدج متأثرًا بأفكار دينية ثورية تدعو للانفصال عن الكنيسة الإنجليكانية الحاكمة في إنكلترا، جعلت منه غريبًا في أكثر الأماكن ألفة بالنسبة إليه. تلك الحركة وهي مشتقة من البروتستانتية تدعو إلى إنشاء كنيسة غير خاضعة لشخص أو حكومة، بل على العكس من كل ذلك ستعد مستقلة يميزها الالتزام بتعاليم الدين المسيحي الصافية من دون تدخلات تُقدم من أي شخص. 

وطئت قدما بروستر موطنه بعد غياب دام ست سنوات. تلمس الأرض بعناية فتلك التربة المسودة تميز أرضه عن يابسة الأراضي المنخفضة. لم يتوهم شوقًا اُعتبر مندثرًا، فعلى النقيض من ذلك أحس بضيق يجتره صوب موضعِ ظن زواله. كانت قد لازمته  في الأيام اللاحقة للدارسة الجامعية قبيل المغادرة ناحية بلاد الطواحين الهوائية، ولعل تلك الضائقة حدته  على قبول تلك الوظيفة الدبلوماسية.   وجد نفسه بالقرب من والده المريض يعيله ويرقب حالته. وفي خضم الأوقات الصعبة تتجلى فرص لم يكن لها أن تنشأ لولا تلك الظروف.  أتيح له العمل داخل مكتب والده البريدي، ليسير بلا كلل ولا ملل ممتطيًا المناصب الواحدة تلو الأخرى.  وتمضي السنون به جاعلةً منه رئيسَا للمكتب البريدي. 

سلم زمامه رهنًا لتلك الوظيفة، آنس وضعه الجديد رغم عدم توافقه مع ما كان يشغل باله دومًا. وعلى الضفة المقابلة لذلك الاستكنان بدأت تبرز ملامح تحول تعصف بملامح المجتمع الأنجليزي، فتلك المعتقدات والتي ظلت حبيسة داخل قضبان قفصه الصدري، بدأت في الظهور شيئًا فشيئًا للعلن. لم يعد المنتمين لتلك الطائفة الدينية يهابون التعبير عن هويتهم وأن ظل محظورًا من قبل السلطات الإنجليزية. أُقيمت التجمعات داخل المنازل وأُنشئت على إثرها الجماعات الانفصالية، وجد بروستر نفسه منتميًا لإحداها دون تردد منه، فما انفكت تلك الأجواء إلا أن تعيده لسابق عهده وتعلقه بتلك الأفكار الثورية.

كونهم جماعة انفصالية، وُجد على الطرف المناقض لهم أوامر باعتقالهم وإيقاف دعوتهم واتهامات عدة بالخيانة، شعر بروستر بالخوف على حياته وأنه لم يعد في مأمن داخل موطنه فقرر الهجرة والذهاب مرة أخرى إلى هولندا، ففي اعتقاده يوجد هناك تسامح ديني أكثر مما هو عليه الحال في إنجلترا. تمت له الهجرة بمعاونة من جون روبنسون رفقة العديد ممن رغبوا في البحث عن موطن جديد لهم. ظل كل من بروستر وروبنسون ينقبون بحثًا عن مكان يلائم حاجتهم الملحة في الابتعاد عن أعين المتربصين من بني جلدتهم و المتواجدين على الأراضي الهولندية . عُدت أمستردام خيارًا مستبعدًا لازدحامها بأولئك المراقبين، لتتجه الأنظار ناحية المدينة الأخرى ليدن. مرفأ يعج بسفن شحن تجوب المحيطات الشاسعة قاطعةً مسافات يضيع معها العد عند الربع الأول، إذا كنت قبطانًا لسفينة ومتطلعًا إلى التجارة في المنسوجات، ستبحر حتمًا إلى ليدن. ألا أن بروستر لم تستهوه تلك الأعمال بل رغب في التقاط رصيف يعجل في رحيله ساعة وقوع الخطر. فقد ظل القلق قرينًا يتكئ بكامل ثقله على ظهره جاعلًا منه يترنح وأن ظهر على عكس تلك الحالة. 

اضطر بروستر لقبول العمل كمعلم للغة الإنجليزية سعيًا في كسب بعض الأموال التي استثمرها رفقة توماس بروير في طباعة الكتب الدينية، ليعمل على تصديرها وبيعها داخل الأراضي الإنجليزية في تحدي واضح للحكومة والتي حظرت أنشطة جماعته. بعد أن أطال مدة المكوث في مدينة ليدن، أستشعر بروستر قرب الكارثة بحدس أم ناحية تبدل حال أبنائها، فتلك الأعمال التي تصنف عدائية من قبل حكومة بلاده لن تتوانى في التقصي عن هوية المتسببين لها، لتنشأ معها حلقة تحري تتعقب خطوات المتهمين ملاحقةً إياهم  أثناء هبوط الليل وبزوغ ضوء النهار في نهم كبير وشهية مفتوحة لأصطياد المتمردين.  لتقضم الفريسة ما هُيأ لها ويسقط  بروير في شباك مُهدت من السلطات الهولندية تم تحريكها بواسطة خيوط لُفت حول أصابع السفير البريطاني.لاذ بروستر بالفرار ليجد نفسه عائدًا لمدينته الأم، مختبأً بين أزقتها يترقب نزوحه في أقرب فرصة. ألتقى برجلِ يقطن في ذات الأوضاع. مواقف الرجلين المتشابهة جعلت فكرة المغادرة تتخذ طريقًا سريعًا لا عودة فيه. قرر كل من ويليام بروستر وروبرت كوشمان تملك صك أرض من شركة فرجينيا والتي عُرفت بمهامها الاستيطانية في العالم الجديد وتحديدًا بمحاذاة الساحل الشمالي الشرقي منه. 

صباح شهر سبتمبر من العام 1620، وفي الوقت الذي بدأت فيه سرعة الرياح بالتبدل ودرجات الحرارة بالهبوط معية انقلاب درجة لون أوراق الشجر، انكشفت السفينة “مايفلاور” عند ميناء بلايموث والمطلة على المحيط الأطلسي، مستعدة لخوض مغامرة يستحيل التنبؤ بخاتمتها. لن تسير وحيدة ففي معيتها ركاب آمنوا برغبة العيش في أمان دون مضايقات من أي شخص. هنا أصبحت أمريكا في نظرهم هي الأرض الموعودة والتي من المفترض أن يسود فيها العدل بعد أن يتم تطبيق عقيدتهم. 

أمواج تلطم ميمنة السفينة ومقدمتها، وظلام كالح يجعل من الرؤية معدومة. بيد أن المنغصات تلك لم تحرك ساكنًا لدى ويليام بروستر، لأن روحه شعرت بالخلاص من مقيدها والأرض المقبلة تُنبأ بأيام يسودها السلام والطمأنينة.

1958 –  كاليفورنيا:

أخرج قلمه، وراح يسطر الكلمات المتراصة داخل عقله. استشعر أهمية اللحظة ولم يرغب في تفويت فرصة تدوينها. وكونه يشغل منصب مدير الأبحاث في مؤسسة فيرتشايلد لأشباه الموصلات، والتي أسسها العام الفائت، أراد أن يطلع الجميع على تلك الملاحظة. ليبدأ روبرت نويس في الكتابة على ورقته بتلك الكلمات:

” حبذا لو استطعنا إنتاج أجهزة متعددة على قطعة سيليكون واحدة، وذلك لإجراء ترابطات بين الأجهزة كجزء من عملية التصنيع، وبالتالي تخفيض حجم العنصر النشط ووزنه وما إلى ذلك، إضافة إلى خفض التكلفة”

ولدت تلك الكلمات منتجًا غير من مفهوم التقنية في العالم. ليقدم معها الشريحة الإلكترونية ذات الإسم الشهير Chip. تلك الرقاقة المشغلة للأجهزة الألكترونية والتي ما انفكت أن تمارس التطور منذ تلك اللحظة الفاصلة، فاتحةً المجال لعصر يختلف كليًا عن سابقه مسهلةً بذلك حياة قاطني كوكب الأرض.

ليس من السهل أن تترعرع داخل محيط يتسم بالتشدد، بيد أن نويس وجد نفسه عالقًا تحت رعاية قس من ولاية أيوا، القابعة في الغرب الأوسط، والمنعزلة معية ماكثيها عن بقية الولايات الأمريكية. ذلك الاختلاء ولد رغبة جامحة  في جوف نويس للأبداع بُغية الرحيل بعيدًا لأماكن خلق الفرص. لم يكن الأمر مستحيلًا ولم يحتج نويس لجني أزرق حتى يلبي رغبته الملحة، فخلايا دماغه تكفلت بأداء المهمة الصعبة فاتحة له الطريق نحو شهادات علمية في أفضل الجامعات الأمريكية. ذلك  التميز لفت أنظار الجميع ناحيته، من ضمنهم ويليام شوكلي والحائز للتو على جائزة نوبل لاختراعه الترانزستور. أراد شوكلي أن يستقطب الخريجين حديثًا للعمل معه في مختبره الناشئ “أشباه موصلات شوكلي” وذلك بعد أن رفض العديد من زملائه العمل تحت إمرته. تحدث شوكلي مع نويس وقد كان الآخر ملتزمًا الصمت فرحًا برؤية أحد أبطاله يقدم عرضًا وظيفيًا لإعجابه بتفوقه العلمي. لم يصدق عيناه بأن هذا الرجل نفسه يطلب منه الانضمام إلى مختبره الناشئ والذي يطمح من خلاله إلى تأسيس شركات أكبر في عالم أشباه الموصلات. تمت المصافحة  بين الرجلين موثقةً الموافقة الغير مقيدة بأية شروط سوى شرف العمل تحت تصرف ويليام شوكلي. 

أقبل نويس على مقر عمله في ماونتن فيو، ليشهد على وجود عدة أشخاص يشابهونه في العديد من الصفات، وكأن العالم شوكلي قد خاض رحلة في البحث عن النظراء. ذلك الأمر جعل من مهمة الاندماج مع الزملاء سريعة دون أية معوقات منطلقين معًا في خوض مغامرة تُعد سابقة لشباب بمثل أعمارهم.  جرى داخل المختبر نقاشات تقود لنظريات قد تخلق منتجات من شأنها أن تُحدث تحولًا في عالم التقنية. كان لابد من نقل تلك الحماسة للمسؤول الأول عن إشعالها، فما فائدة التواجد تحت مظلته إن كان غائبًا عن تلك الجدالات. ذهب نويس بنفسه إلى مكتب ويليام شوكلي، جامعًا أكبر قدر من الكلمات والتي بإمكانها أن تصف الشرارة المتقدة داخل جوف كل واحدِ منهم. التقت عيناه مع اعين شوكلي، والتي برزت من خلف النظارة الزجاجية السميكة. ينتاب نويس رعب مستنكر كل ما اقترب من ظل المدير، شعور وأن حاول إغفاله إلا أنه ما انفك أن يتجلى على هيئة قشعريرة تضرب جسده.

 أشاح شوكلي ببصره بعيدًا بعد فراغه من الإستماع لنويس. ليجد نويس نفسه  في حالة استغراب من ردة فعل مدير المختبر. أنتظر دقائق أخرى متطلعًا لرد فعل أوضح، ألا أن شيئًا لم يتغير بل على العكس من ذلك أطلق شوكلي جملةً كان لها كبير الأثر في نزع الثقة المبنية داخل روح نويس حين قال:

  • “أتمنى أن لا تعيدوا التفكير في الأمر مرة أخرى. فمن يحدد العناصر المشكلة لتلك الرقاقات داخل هذا المختبر شخص واحد يدعى ويليام شوكلي”

خرج نويس مذهولاً بما شهده للتو. عجل في خطواته حتى يتمكن من الالتقاء بزملائه، إلا أنه وعند منتصف الطريق شعر بانقباض شديد جعل من عملية إدخال الأكسجين وإخراج الغاز السام عملية مميتة. اضطر للتوقف ممدًا ساقيه على بلاط الممر، والذي كان لامعًا لحداثة تدشينه، فلم تمضِ سوى ستة أشهر على إنشائه. تأمل حاله تلك وآمن أن الوضع خاطئ إذ لا بد من اتخاذ قرار جريء يمكنه من النهوض مرة أخرى. فكرة المغادرة لاحت له من العدم، ألا أنه أراد استشارة الرجال المتواجدين بقربه. عزم ضخم كهذا بحاجة ماسة لمعاونين يمكنونه من الوصول إليه، ولن يجد أفضل منهم للقيام بنجدته.

أشرق صباح صيفي من العام 1957 لتضيء أشعته قاعة ريدوود في فندق كليفت داخل مدينة سان فرانسيسكو. لم تكن القاعة العتيدة خالية، بل ضُجت بثمانية رجال تحيط بهم شكوك يتبعها حماسة لما هو قادم. توسط هذا الجمع روبرت نويس ليبدأ معها في إلقاء خطابه المحفز لما هو قادم : 

  • “جميعنا ضقنا ضرعًا من تصرفات شوكلي، أصبح انعدام الثقة صلة الوصل معه. كل ما أرجوه أن نتفق جميعًا على المغادرة الفورية من مختبر “أشباه موصلات شوكلي” لنُنشئ معها مؤسسة “فيرتشايلد لأشباه الموصلات”.    

 اعتبر الاجتماع كوثيقة لإعلان إنفصالهم عن شوكلي. والشاهد على ذلك الحدث ورقة دولار خُطت عليه تواقيع “الثمانية الخونة”، ليتم بعدها إنشاء شركتهم الخاصة. قرر الجميع تعيين روبرت نويس رئيسًا لتلك الجماعة الانفصالية، والبدء من خلاله في وضع أسس وتشريعات تنظم سير الأعمال داخلها.  تلك الجماعة الإنفصالية كان لابد لها من مستوطنة جديدة تؤسس وفق ما يؤمنون به  ليتم وضع “فيرتشايلد لأشباه الموصلات” في منطقة أصبحت فيما بعد نقطة الانطلاق في عالم التقنية وتمثل قبلة الحجيج المتعلقين بتلك العوالم والذي عُرف فيما بعد بـ “وادي السيليكون”.

استعاد نويس تلك الصورة الملتقطة مع زملائه السبعة في أول أيام التمرد. تلك التفاصيل الصغيرة. تأمل لحظة الانتصار التي تحققت له، وتذكر شكل البداية المربكة والمجهولة قبل عام مضى. ألا أن هذا الأمر جعله يستذكر مقولة لأبيه، رغم افتقار نقاط الالتقاء بينهما، حين ظل يذكره بهوية أجداده وصراعهم الذي خاضوه أبان القرن السابع عشر لغرض ممارسة معتقداتهم الثورية بسلام. “لم يهابوا ولم ييئسوا وبالأخص جدك الأعظم ويليام بروستر” كان غالبًا ما يرفع إحدى يديه عاليًا عند ذكر اسمه لضمان تعظيم أهمية هذا الرجل داخل عقل الأبن. إلا أن نويس في وقته الحاضر أضاف على حديث والده استطرادًا أعتقد أهميته:

“بروستر حتمًا يشبهني، وأن اختلفت توجهاتنا، فكلانا قرر الانفصال عن ما ظل يؤرقه في رغبة جامحة لتحقيق النجاح في مكان آخر”.