(١)
أستعد هذه الأيام لمراجعة ما تم دراسته أبان الأيام الجامعية عن علوم الكيمياء وما حولها. أولى القرارات تمثلت في طلب نقلي للمدرسة الثانوية لامتهان تعليم الكيمياء فعلًا، بعد مضي سنوات في الهرب منها والاكتفاء بتعليم مادة العلوم، الأسهل كثيرًا، للمرحلة الإبتدائية. القرار لم يأتي بتحفيز من رغبة كامنة بداخلي بل أتت من الطمع في التغيير لا أكثر. ظلت الكيمياء مثل لعنة ملتصقة بي لم أرغب بها ولا أعلم أن كانت قد رغبت بي. لعبة القط والفأر ظللنا نمارسها في سعي حثيث للهرب كل من الآخر في جهاد ذاتي نحو عدم الالتقاء. كأننا شخصين يتلصص أحدهما على الآخر دون أن تلتقي نظراتهما عند أداء مهمة التجسس. أما الآن فقد حانت ساعة المكاشفة وعلى ما يبدو أن الطريق طويل لتعويض ما فات. قدرة الإنسان عجيبة في فقد مهاراته بسرعة توازي سرعة الضوء أو ربما هي مبالغة لتوضيح مدى سرعة الفقد، في المقابل حتى يتسنى حشد تلك المهارات يتطلب الأمر عدادًا لن يحسب لك إلا من خلال وحدة السنوات فما فوق.
(٢)
حديث مسهب:
” سقطت قطرة أخيرة من قطرات المطر متأخرة بعد فترة، مثل متسابق في سباق الدراجات تأخر عن زملائه .”
-بيتر هاندكه
أعتقد أن المطر ناداني. أراد التحدث معي. في ليلة صيفية في لندن لا تشبه أبًدًا فصل الصيف الذي نعيه. كنت نائمة بعمق -على الأقل هذا ما تصورته- لأستيقظ رويدًا رويدًا بحركة بطيئة كما لو أنني سلحفاة تتمطى أن كانت قادرة فعلًا على الإتيان بهذا الفعل. العين لا ترغب في فتح ستائرها. والأطراف الأربعة لا ترغب في التحرك. سمعت هسهسة لقطرات مطر بدا لي كحفيف اوراق الشجر. ألا أن أذني وبعد أن بدأت في شحن لواقطها أقنعتني بمطر غزير منهمر يدوي قويًا وإن رغب في إخفاء زئيره. الظلام كان دامسًا ولم أرغب في رؤية الوقت. تصورت انه بين الثانية والثالثة في عتمة الليل ولن أقول صباحًا لأن الشمس ما زالت تغط في سبات عميق. أصخت السمع طويلًا بتلك الطرقات التي ظل المطر يشنها على زجاج النافذة. وأنا في سكوني منصته له. طالت المدة ومعها أحسست بمرور بطيء للزمن. غادرت السرير ملبية ذلك النداء و وقفت متأملة المنظر من النافذة، ذلك المنظر الذي اعتدت رؤيته مرات عدة. القبة الزجاجية المغطية لقاعة الإفطار الصباحي وملامح مباني المدينة بطوبها الأحمر، رغم اضمحلال وهجه كون الشمس مختبئة وأنوار المدينة لا تفي بالغرض. توقف المطر وهرب الظلام خلسةً ساعة بروز الشمس وانا على ذات الحالة وصوت طرقات المطر يكتظ بداخلي. لم يكن مطرًا عاديًا. كان حديثًا مُسهبًا.
(٣)
امرأة عند النافذة:
توقف سائق أوبر في الجهة المعاكسة لموقع متحف The Courtauld لاستهجن ذلك الفعل على الفور وأقول له بثقة العالمة بخبايا المدينة دون أن يستشف أنها المرة الأولى التي أزورها فيها: “جوجل مابز يُظهره في الجهة الأخرى”، معاوني الفذ والذي لا يتوانى في الذود لنجدتي. أخذ السائق في التأكيد على أن ما يهم هو راحة ركابه فأن كنت أرغب في النزول عند الجهة المقابلة فحتمًا سينفذ مطلبي، وفي الحقيقة المسافة لم تكن بعيدة لتسبب تلك البلبلة إلا أن المطر كان قد همّ بالنزول ولا تتملكني أدنى رغبة في أن ابتل. هبطت في موقعي المراد، أو الموصى به من قِبل جوجل مابز ليأمرني بعدها بالسير خطوات بسيطة حتى أصل للمبنى المطلوب حيث لا لوحات تشير إلى تواجد ذلك المتحف. امتثلت لوصاياه لأجد نفسي أمام ساحة كبيرة تؤدي لمبنى ضخم يهيأ لي أنه قد اُستخدم من قبل كمركز حكومي ينهي إجراءات العديد من حاجات المواطنين، فذلك هو التفسير الوحيد لهيئته ولا أعلم مدى صحة هذا الادعاء من عدمه ولم أبحث عنه حتى هذه اللحظة. ظللت في تقصي علامة تشير للمتحف، حالة شبيهة بالبحث عن إبرة في كومة القش بيد أنه لا توجد أكوام متكدسة سواءً كانت لأشياء أو أُناس. وجدت سيدة أمن تجيب عن بعض تساؤلات السياح القلة وتشير بيديها صوب الوجهة المنشودة من قِبلهم اقتربت منها وسألتها عن موقع المتحف لتجيبني على عجل وكلها رغبة جامحة في تبيان غبائي عند قولها: “لقد تعديته انظري إليه هناك خلفك”. فوجئت حينها بباب قد انزوى مواربًا عن أعين العامة قبيل الساحة التي وطئتها قبل قليل والمؤدي لذلك المبنى المهيب المجهول الهوية. أقتربت منه لأجد ملصقًا قد انتصب ويشيء بالمتحف ليخبرني بلطف أنه هنا موجود خلف هذا الباب الصغير. عبرت الباب رفقة مظلتي والتي لم تبارح مقدمة رأسي لأسمع ضجيجًا كان قد قدِم من شخص عقدت العزم بعد لقائه أن نشرت سيرة حياتي يومًا ما أن أشير إليه بالرجل الأشد فظاظة، ولا أود في ألتقي بمن هم أشد وطأة منه. تشكل صراخه نتيجة تواجد مظلتي في موقعها المعتاد أعلى قمة الرأس، نهر تلك الفعلة وزمجر عن ضرورة إغلاق المظلة وأخذ الكيس البلاستيكي الذي لم ألمحه بجانب الباب، وعلى ما يبدو أن هذا المتحف عقد العزم على مواربة الأشياء بخلسة كمن يرغب في لعب الغميضة مع الآخرين. أديت المطلوب مني في ثبات صلب وجمود ملامح لا تنقل حقيقة ما أشعر به من حنق غير أني عقدت العزم على المضي قدمًا والاستمتاع بتلك الجولة دون أية منغصات.
أتى هذا المعرض في آخر جولاتي الفنية داخل لندن، وفي الحقيقة أنه قدم بشكل مباغت وعلى حين غرة قبل يوم من تاريخ المغادرة، تنازلت فيها مجبرة عن حقي البديهي في جعل أخر أيام السفر كاملًا في ممارسة ما أحب من تسوق. ولا أعلم صراحة ما الذي جعلني أقوم بهذا الفعل خصوصًا وأن تلك المعارض أصابتني بالتخمة الفنية ومن الصعب جدًا التركيز في أعمال فنية مهولة ضمن نطاق زمني وجيز دون أن تنساب منك أعمال أخرى تستحق انتباهك. لذا ظننت أن الرحلة انتهت عند هذا الحد لحين زيارة أخرى لمدينة أخرى.
صعدت السلالم المؤدية لغرف العرض، وأود أن أنوه أن تلك السلالم تعد تحفة فنية تضاهي وربما تزيد تلك اللوحات المعروضة بهاءً. اللوح المعروضة قليلة مقارنةً بما شهدته في معرضي ذا ناشونال وتات بريتين. قدومي للمتحف لم يكن بغرض رؤية لوحة بعيينها كما حصل في متحف تات معية لوحات جون سارجنت ومعرض الأخوة روسيتي أو متحف ذا ناشونال مع العديد والعديد من الغنائم، قدِمت وكلي معرفة بأن هناك عدد لا بأس به من أعمال الانطباعيين. تنقلت على مضض بين اللوحات واستعجلت الهروب للطابق الأعلى كونه يضم لوحاتهم؛ الطوابق الأولى كانت مجرد أعمال تنتمي لعصور أقدم بكثير لا أجد نفسي تهواها. طفت بخفة دون تركيز مبالغ فيه بين عمل وآخر ليراودني شعور بأن موعد خروجي قد أزف وأن الرحلة انتهت في وقت أقل مما كان متوقع.
إلا أن الحال انقلب ليسفر عن تصنم جسدي أمام واحدة من تلك اللوحات والتي وضعت بجانب البوابة وكأنها تؤدي تحية الوداع لمن أراد المغادرة على عجل أو حتى مواربًا، ألا أن هذا الأمر لم ينطلي علي لأخالف ما دُبر لي من أمر وأتمعن النظر في تلك اللوحة. هي لوحة للفرنسي إدغار ديغا، والشهير بلوحاته الراقصة والمغتصة بفتيات الباليه وقد شاهدت إحداها قبيل معاينتي تلك الأخاذة. هي نقيض لمحتوى ما رسمه ديغا سابقًا فملامح المرأة المرسومة هنا باهتة متشحة بالظلام وكأن ينابيع الألوان استنفذت مخزونها. وقد خدعتني حتى أني ظننت بأن وجهها قد رسم من الخلف متمعنة بالمنظر الخارجي عبر النافذة، واللوحة تحمل عنوان هذا المشهد “امرأة عند النافذة”. ألا أنه وبعد تعمقي أكثر وجدتها تشيح بنظرها للأسفل في الجهة المعاكسة غير آبهة بما يحدث في الخارج عبر ذات النافذة.
هناك لوحات تصيبك بشيء معين شيء لا يمكن تفسيره أو تتهرب عن الإفصاح به، هذه اللوحة هي إحداها. تأثير اللوحة كان قويًا بسبب تواجدنا في ذات المكان لأني أجزم بأني لن ألقي لها بالًا لو رأيتها في كتاب أو على صفحات الانترنت.
لم أرد أن ألوث ما التقطته عيناي وأبعثر ذلك الشعور بقراءة الأحدوثة المتعلقة بتلك اللوحة، ألا أن فضولًا انتابني ورغبة تملكتني بضرورة قراءة القصة المخفية عنها. وجدت وصفًا دقيقًا لما أرادت اللوحة إيصاله أو على الأقل ما تم استشعاره من قِبلي. رُسمت هذه اللوحة أبان حصار باريس من قِبل الجيش البروسي والعارضة التي امتثلت لديغا لغرض رسم اللوحة كانت ترغب في مقابل غير معتاد عند أداء تلك المهمة، فبدل أن تقبض النقود نظير ما عملته اكتفت بقطعة لحم تمكنها من العيش نتيجة المجاعة التي يعاني منها سكان المدينة، وهو ما استشفيته من عدم محاولة إلقاء نظرة عليها كونها غدت غير مرغوبة في تلك الظروف الصعبة. هو نوع من انقضاء التوق تجاه شيء عنى الكثير فيما مضى.
(٤)
استعدادًا للعودة إلى الرياض وحين انكبابي على الحقيبة في محاولة جديدة لإغلاقها. ولا أعلم لماذا طرأ علي تعليق جين فوندا عن صعوبة فك سحاب فستان السهرة الذي أضطرت للنوم دون خلعه، فقد ألفت الوضع مشابهًا. وجدت نفسي مرغمة على الرمي بثقل جسدي كاملًا حتى يساهم في عملية الضغط ليسهل معها انزلاق سحاب غطاء الحقيبة. وفي حركة مستعجلة غير مفهومة مني قمت بالقفز قليلًا بركبتي المثنية لإضافة دعم أقوى لتلك العملية. ألا أن أمرًا مباغتًا حصل أصابني بالرعب لمدة وجيزة، فحين انتهائي من القيام من تلك الحركة الفجائية تصلب الجزء الأيمن من ظهري ممتدًا من منتصفه إلى الحافة. كأنه قد غادر مأواه صوب جهة غير معلومة. ولوهلة ظننت أن شيئًا ما قد قُطع ولقلة خبرتي في علم التشريح فلا اعلم يقينًا ما الشيء الرابض تحت جلدي في تلك المنطقة إلا أنني توسمت أنها عضلة. ومع تصلب تلك العضلة تصلب جسدي تمامًا وخشيت أن أنا أديت المنوط مني من عملية مغادرة الحقيبة وتركها على حالها سيزداد الأمر سوءًا أو أن القطع سيتمدد. منحنية الظهر توجهت ببطء شديد صوب السرير. استلقيت على ظهري وفي مخيلتي أن الألم سيهدأ أن وجد في وضعية استرخاء. بيد أن ما حدث كان النقيض، لازال الألم ينبض حياةً دون رغبة في مغادرتها. ظللت في محاولات شتى لتجاهله، فهو الحل الوحيد المتاح لدي فموعد الرحلة لم يتبقى عليها الكثير ولا أحتمل وضع سيناريوهات متخيلة تدور أحداثها داخل أروقة المستشفى. “سيذهب من تلقاء نفسه كل ما أحتاج إليه هو القليل من الراحة” ظللت أهمس بتلك الكلمات حتى أهدئ من روعي ومن سطوة الألم المسيطرة علي. بيد أن الألم لم يبارح مكانه، ظل متشبثًا طوال ساعات رحلة العودة بالطائرة، اشمئزاز يضاهي الآلام المصاحبة لرحلة عبور الأطلسي بل زادها تقززًا. امتثلت بعدها لفطرة الإنسان الطبيعية حين عودته لمكان الإقامة الدائم من محل الإقامة المؤقتة بالنوم طويلًا دون التفات لمنغصات، بعد ابتلاع مسكن للألم بالطبع. استيقظت بعدها دون أن أغفل عن تشيك منطقة الألم بحذر كمن يتحسس أرضًا مُلئت بالألغام ولا يرغب في نهاية مأساوية. قمت بعدة اختبارات لجس النبض استدرت يمنة ويسرة علّ هذا الألم يخرج من قمقمه إلا أنه ظل نائمًا. حاولت استفزازه بأداء حركات فجائية وسريعة تذكره بما مضى بيد أنه ظل في غيبوبته أو عله غادر جسدي دون رغبة في عودة. غمرني فيض من راحة ممزوج باستغراب لمغادرة ذلك الألم المفاجئ، حضوره كان سريعًا مؤلمًا إلا أنه لم يطل مكوثه ولم أفكر بعدها في ماهيته او أسباب تواجده. بإمكاني أن استشف حكمة من هذا الموقف العرضي غير أن طبيعتي لا تسمح بلعب دور الواعظ لنفسي، أو لا سمح الله للآخرين، كل ما أجيده رمي الألم وراء ظهري دون التقصي عن مسببات.
(٥)
غرف المستشفى….. مرة أخرى:
كان والدي يقوم بالأمر مزدوجًا وهو الذي ذاق اليتم منذ أن ابصر الدنيا، فلا يتذكر حضور أب في حياته. كان لزامًا عليه أن يضاعف من فعل الأبوة في حزم جامد عند العقاب وغدق بالحنان أكثر من المعتاد. ولذكائي كنت أستغل ذلك الأمر بالاقتراب منه عند هنيهات الرخاء والابتعاد كثيراً ساعة الغضب لأن مجادلته ستعد مضيعة للوقت، فأنت لا تجادل شخصًا حانقًا بل اثنان غاضبان. وقد اختبرت هذا الأمر مرات عديدة في جدالات لا منتهية. فكلانا لا ينتمي لنفس الحقبة ولا الأمزجة، فأجد نفسي غائصة داخل دوامة من مشاعر حب وكره في آن واحد تفضي بي إلى غضب منه تصورت عدم انطفائه إلا أنه هدأ من تلقاء نفسه دون أن أعي لماذا. أما الآن وفي حالة المرض أشعر به مضاعفًا حتى وإن بدا بسيطًا يسهل علاجه بأدوية غير متعبة. ألمه الصغير غدا غولًا ينهش من ساعات نومه، ومن عادته المحببة في إلقاء قصائد شعبية استصعب إلتقاط كلماتها المندثرة. أمر روتيني كارتقاء عتبات باب المنزل بات يهدد سلامة جسده، يستوجب اتمامها معاونة وملاحظة من الآخرين حتى لا يحصل ما لا يحمد عقباه. معه فهمت الأخطار المترتبة من تلك الأدوية المهدئة والتي نبجلها ساعة الشعور بالألم كونها تمدنا بتلك السكينة الخاشعة. رأيت فعلتها المشينة بالجسد والنفس، لديها قدرة هائلة في تحويل المريض لشخص آخر لا صلة له بمن تعرفه. بت أفهم دعوات المنادين بالعودة للطبيعة وترك تلك المواد الكيميائية، فهمتها لكن لم أعتنقها حتى الآن.