طريق الملك عبدالعزيز (جنوب)

أثناء قراءتي لكتاب عام التفكير السحري لجوان ديديون لفتني نص عبرت فيه عن تجنب القيادة داخل طرق ألفتها  في مدينة لوس أنجلوس حتى تتفادى الذكريات المسكونة بداخلها. لم تكن البطل الوحيد في تلك الرحلات، فقد شاركت الابنة معظم تلك الومضات. والتي ترقد أبان كتابة تلك السطور في المستشفى. مشوار إيصال وأخذ الطفلة من المدرسة. رحلات إلزامية للالتقاء بالأصدقاء. وأماكن فضلت السهر بداخلها رفقة زوجها والذي ودعته مؤخرًا. اعتمدت طريقًا مغايرًا لما يعد الأسهل بين مكان إقامتها وغرفة الراقدة في غيبوبة. فأن هي سارت في ذات الاتجاه ستجتاحها عاصفة من الذكريات التي لا تود استقبالها رغم طابع السعادة المحاط بها أو ربما الاعتيادية المطعمة بالحنين، ولعل من فعّل سمة الحنين الحدث المأساوي الذي وقع على حين غرة بمرض ابنتها. تلك القصة احالتني لحكاية متعلقة بي. وأن اختلفت سردية الأحداث ألا أن صلب الأحدوثة متشابه.  اعتدت منذ زمن ليس بالبسيط سلك خط رحلة لم يتغير كثيرًا. وأن حال عليه الزمن و اضطررت لتغييره فتلك التحديثات لا تعد ملحوظة. طريق الملك عبدالله (غرب) ثم الانعطاف يسارًا باتجاه طريق الملك عبدالعزيز (جنوب) أو كما يعرف سابقًا بطريق المطار القديم. سلكته طالبة في سنوات الدراسة الأولى وسلكته يافعة أبان الدراسة الجامعية ومرة أخرى نحو عالم الاستقلال المادي في الوظيفة الأولى فالثانية لتلحقها في بداية هذا العام داخل مقر الثالثة. المسافة تزداد مرات وتتقلص في أحيان كثيرة. 

في الرحلات الأولى كانت تمتد لتتخطى دوار القاعدة الجوية إلى طريق صلاح الدين (شارع الستين)، لتتحول بعدها بانعطافة نحو اليمين من داخل نفس الدوار باتجاه الغرب والتعمق في منطقة الوزارات إلى أن أصل في أيامي هذه بعدم إدراج الدوار ضمن الرحلة لتشكل نقطة النهاية في منطقة أقرب. 

ظللت أعود لتلك المنطقة رغم هجرة سكان مدينة الرياض لها صوب الضواحي الشمالية الشرقية، في زماني على الأقل قبل أن تحل الهجرة العظمى في السنوات الأخيرة هناك في أقاصي الشمال وماوراء طريق الملك سلمان والذي بات منطقة مجهولة بالنسبة لي في مدينة ظننت أنها مدينتي. ولعل السبب الكامن للعودة مرارًا لذات المنطقة هو الألفة كونها احتضنت المسكن الأول. فحتى بعد انتقالنا للمسكن الثاني والثالث، التزمت بارتياد مدرستي هناك رغم بعد المسافة عن مسكننا الجديد. وظلت والدتي تعود، وأنا بمعيتها رفقة الشقيقات، لزيارة الجيران هناك والحديث هنا لا ينطوي على منزل واحد أو اثنين بل عن سلسلة متصلة لا تنتهي. فتلك المساكن عبارة عن عمائر متراصة في داخل كل منها ستة أدوار تشغلها أربع شقق بينها ساحة مربعة تعد مرتعًا لأطفال هذا الطابق. وبما أن القصة تجر القصة. تلك الطوابق المتعددة كانت مغرية لفتاة صغيرة تود اكتشاف العالم. العالم المطمور بداخل تلك العمارة. وبما ان شقتنا تواجدت في الدور الأول اجتاحني فضول لمعرفة شكل الشقق في الدور الأخير، والأشخاص الذين يقطنون هناك. نويت المغامرة بركوب المصعد لوحدي وفي هذا السن كان مرعبًا إلى حد ما. لأرغب في شريك لتلك المغامرة . كان ابن الجيران الأكثر ازعاجًا من بين أطفال هذا الطابق، والذي يليه، يصدح بكرته كالعادة و المرتطمة جيئة وذهابًا في الحوائط الأربعة. كنت أشاركه تلك اللعبة في أحيان إلا أنها ما تنتهي دومًابندم شديد نتيجة اللعب العنيف الذي يجيده. وفي صفقة تبادل منفعة اقترحت أن نغامر بركوب المصعد والذهاب إلى الطابق الأخير لرؤية معالمه والعودة سريعًا إلى بر الأمان داخل طابقنا الأول ليجيب بحماسة نحو قبول خوض تلك المغامرة. كل الظروف كانت مواتية لتحقيق تلك الرحلة السريعة. الآباء عادوا من أعمالهم ووجبة الغداء تم الانتهاء من التهامها معلنة عن قدوم قيلولة العصر المطولة. ومعها تبدأ الأمهات في رحلة المكالمات الهاتفية الطويلة دون أن يشوش عليهم الزوج في إنهاء تلك المحادثات بحجة عدم اشغال خطوط الهاتف حتى يتسنى لهم التقاط المكالمات المهمة، والتي لم تأتي على الأطلاق. تم ركوب المصعد والضغط على الرقم ستة، مغارة علي بابا في قصتنا. ألا أن عطبًا قد أصاب تلك الأحداث المتفق عليها حين همّ (سليمان) بالقفز خارج المصعد قبل إغلاقه. وتلك الأبواب لم تمتلك تلك الحساسات الدقيقة التي تتواجد في مصاعد أوقاتنا الحالية، ليكمل رحلته غير ابهِ بالشخص المرتطم بشقي بابه. غدت حماسة الرحلة خوفًا يكتم على نفسي. حاربتها بالجلوس على الأرض رغبةً في عدم مغادرتها في رحلة المصعد العلوية. وصلت للطابق المشؤوم والذي ظهر شبيهًا بالطابق الذي غادرته للتو. فما عساها أن تكون غير نظائر لتلك الشقق. عوالم تلك المكعبات العمودية. فقانون التشابه هو السائد هناك. أسفرت تلك المغامرة عن خيبة أمل كبيرة بعدم رؤية ما يدهش العين ويبهرها. لأجر معها أذيال خيبتي مع درجات الطوابق الستة. لأظل بعدها لسنوات في علاقة متوترة مع تلك المصاعد.

أطلت علي خلال تلك الرحلات، ولازالت، تحولات عدة لشكل مسرح الأحداث الشبه اليومي. معالم تسلب العين ومعالم انزوت دون انتباه مني. قصر الرياض حلم الفتيات في زمن مضى لإقامة حفل الزفاف بداخله. ومبنى غرائبي  لطالما لفت انتباهي في مراحل مبكرة من تلك الرحلات. بسبب تواجد عنكبوت ضخم على واجهته ، وأعني هنا بمجسم ذو أبعاد لا لوحة رسمت على سطح الواجهة. ذلك العنكبوت أثار بداخلي تساؤلات عدة عن هوية تلك البناية. والإجابة الوحيدة الملائمة لغرابة ذلك المنظر أنها شركة تعنى بمكافحة الحشرات. تلك الرحلة أخذت منعطفًا طويلًا في خضم إصلاحات شهدها الطريق لجعل رحلة عبوره أقصر. والذي أسفر عن بروز نفق العروبة ومعالم المترو فيما بعد. تلك الانعطافة طال تواجدها وأزعم باختفاء مبنى العنكبوت أثناء نشوء تلك التصليحات أو لعله في زمن أبكر. تلك الانعطافة غيرت من منظر طريق الملك عبدالعزيز (جنوب) كثيرًا. كأن يدًا أمسكت بالطريق لتجره بأقصى قوة ممكنة كما يشد فيه الرامي قوس السهام. فتلمح معها ملامح الطريق المألوف بالنسبة لك وقد تحول لسراب بأتربة وضوضاء جل مناها أن تنسى ما كان متواجدًا لتبرز معها تساؤلات عن هوية الطريق البديل الذي حل محله.

أنهيت مؤخرًا كتاب “نبش الغراب في واحة العربي: الجزء الثالث – الأشياء” لمحمد مستجاب. ولم أقرأ الأجزاء السابقة من تلك السلسلة  لأن موضوعاتها ليست بالمغرية كما هو الحال هنا. ربما لأهمية الأشياء في رحلة الحياة. رغم المحاولات العديدة بعدم الالتفات لها فقد شُغلت أعيننا بالأشخاص الداخلين و الماضيين. تحدث عن كل شيء تقريبًا عن السوق والسلم والجبل والماء والقميص والتوابل والسينما والقمر والبيت والحذاء والساعة والمطر والباب والصحن والصدف. لم تخلو تلك الأحاديث من الظرافة المتعمدة و سلسلة لا متناهية من معلومات تربط بين الشيء المختار ومعانيه العديدة مع الإبحار في سرد تاريخه. اضطر معها مستجاب للغوص داخل سيرته الذاتية لبث الحياة داخل تلك الجمادات، وإعطائها سمة النديم المواظب على خلق المشاعر المتضاربة حين تذكره. وهذا الطريق كان إحداها بالنسبة لي.

منزل أعلى الجبل

ما من طريقٍ إليه

⁠‫كمنزلٍ ريفيّ وسطَ المروج

⁠‫لا درب يهتدي إلى بابهِ الضيّق

⁠‫المتوحّدِ فوق العتبة

  •  بسام حجار

في سنوات مضت، كنت أقطن مدينة الطائف. تحديدًا في الصف الثاني والثالث ابتدائي. فتعريفي للسنوات قد ارتبط بمقعد الدراسة لا التاريخ المدون، فتلك السنة كنت أدرس الصف الثاني الابتدائي وتلك كانت السنة التحضيرية في الجامعة وهكذا. أما بعد مغادرة تلك المقاعد أصبح لزامًا علي البحث عن حدث مميز بداخلها  كي تبرق سريعًا عند التطرق لها، أو أعانها الله ستغادر مجبرة لتتمدد على  آرائك النسيان. 

اعتدنا خلال فترة إقامتنا هناك الذهاب كعائلة في عطل نهاية الأسبوع لجبل منزوِ يخلو من الزوار والمصطافين. وقد تبدو كلمة منزوِ غريبة بعض الشيء أن أُخذ بعين الاعتبار الطبيعة الجغرافية لمدينة الطائف والتي تقع في نهاية سلسلة جبال السروات أي أن الجبال تقدم نفسها كخرزات مترابطة داخل سلسلة ودون أية فواصل تبعدها عن بعضها البعض فظاهرة تواجد جبل وحيد إن صح ذلك التعبير تعد مستحيلة بيد أن ذاكرة الطفلة تحذف ما شاء لها من صور. 

طريق صغير عُبد على عجل يمكنّ الزائر من الصعود لأعلى قمة ذلك “الجبل الوحيد” ولا أعلم كم يبلغ ارتفاعه بالمقاييس المترية ولا أعلم إن كان شاهقًا بحق كما برز في مخيلتي الطفولية.  المؤكد ان زواره قلة ومن النادر أن تتواجد عائلة أخرى معنا في ذات الوقت. أما عن سبب ترددنا عليه فالعلة تكمن في عدم وجود أقارب في تلك المدينة نملأ بهم فراغات تلك العطل. نتسامر معهم و نتزاور فيما بيننا كما كانت أغلب عوائل ذلك الزمن تفتعل الأمر في لحظات فراغها. عالمنا تمركز في الرياض وضواحيها.

هناك في الأعلى انتصب وحيدًا وشامخًا منزل بسور يسهل رؤيته من مختلف الجهات، كون الرائي يظل دومًا في أرض منخفضة بالنسبة إليه، فما أن ترفع عينيك حتى يتباهى بمكانته العالية. نظرة مغرورة يرمقك بها تتغلغل داخل جوفك ساعة التقائكما. وكنوع من مجابهة ذلك العلو كنت أصعد قمة صخرة ضخمة قد وسمتها باسمي ولا أدري أن كان الاسم قد ظل موجودًا أو احتوته عوامل التعرية بيديها الرحبتين. “أسماء” حُفر هكذا دون نقصان، بهمزتي القطع والمتطرفة، رغم عدم جدوى الأخيرة. وقد قرأت مؤخرًا للروائية أولغا توكارتشوك على لسان بطلتها في رواية “جر محراثك  فوق عظام الموتى” عن غباء الأسماء التي نحملها،  وعبثية الاختيارات التي تحدث رغمًا عنّا. “فقر في الخيال” هكذا وصفته وبسبب ذلك ظلت تطلق الألقاب على الأشخاص الذين تلتقيهم دون أن تنادي أي منهم باسمه ظناً منها أن الصفات أفضل في مطابقة  حقيقة الأشخاص من الأسماء. أما أنا فعلى ما يبدو وعلى عكس بطلة أولغا كنت سعيدة باسمي. ربما لسبب لو علمت عنه كانت قد غفرت لي تلك النشوة الصغيرة.  فقد قصت علي والدتي مرارًا وتكرارًا قصة إنقاذي من خطر ماحق ومستقبل مظلم نظير إصرار والدي  إطلاق اسم”…..” علي تيمنًا بوالدته، جدتي رحمة الله. “لو تعلمين ماذا فعلت حتى عدل عن رأيه” تلك كانت جملتها المغذية لفرحتي والتي ما فتئت أجهر بها دومًا كوثيقة نصر وتلك الصخرة كانت الشاهدة، “أنا أسماء لست …..”.

لننسى الاسم ونعود لذلك المنزل المترصد. رغبت بشدة في استعادة الصور المتعلقة به وهنا أتحدث عن صور ملموسة فوتغرافية لا خيالية مهترئة اجتُرت من الحصُين داخل الدماغ. سألت والدتي مرارًا وتكرارًا وهي المسؤول الأول عن حماية ألبومات الصور العائلية أن تخرج لي ذاك المخصص لفترة إقامتنا في الطائف، ألا أنها دائمًا ما ترد معترضة، وكأنها مهمة شاقة توازي فتح مغارة علي بابا. لأن إخراج الألبومات جميعها واستخراج ذلك المرغوب ومن ثم إعادتهم مرة أخرى مهمة وَعِرة لا بد من أن ينشأ خلالها ضياع بعض من تلك الصور. أشعر أن أمي تتهرب من رؤية الصور كون من هم بداخلها كبروا وغدا معظمهم آباء وأمهات لأشخاص يكبرون أولئك المتجمدين بداخلها. 

عودة لتلك الليالي الجبلية تراءى لي مرأى سكان ذلك المنزل أو بالأصح الساكن الوحيد، بما أنه معزول لا بد أن يكون مالكه في تواءم معه. لن أبالغ في تخيلاتي فكان دائمًا ما يتهيأ لي من دون ملامح كظل يركض مبتعدًا كلما أردت أن أتصوره.  تراه ماذا يفعل طوال اليوم داخل ذلك المنزل؟ هل يراقب من يقبعون في القعر بعيدًا  خشيةً منهم أم تهكمًا. أو لعله مولع بالثقافة اليابانية والتي تقدس الجبال في مورثها، “حرم الآلهة” كما أطلقوا عليها. وسواء التقطت تلك الإجابات أم لا الشيء المؤكد الذي كنت أشعر به تجاه المنزل و قاطنه هي الغبطة المحضة. 

مؤخرًا عاد أخي من رحلة عمل إلى الطائف، لأجد نفسي وبسرعة أسأله أن كان قد ذهب لصخرتنا الشهيرة والمنزل المتربص فوقها. ليرد علي قائلًا “تقصدين المبنى العسكري”. تجمدت للحظة فذلك وصف لا يطابق ما تهمس به مخيلتي. ليكمل أخي الحديث في محاولة منه للتذكير به “كان يوجد بجانبه برج اتصالات ضخم وهو سبب استعماله منشأة عسكرية” وبشكل سريع بدأت الصور في التدفق لتظهر على حين غرة بوابة محكمة الأغلاق تمنع أي شخص من العبور خلالها أسفل ذلك المبنى وهي الشبيهة بتلك المتواجدة بجانب المنشآت العسكرية والذي على ما يبدو وكونه غير ملائم لأحداث قصتي المتخيلة كان قد حُذف من ذاكرتي عمدًا. فقد تقمصت ذاكرتي دور المشذَّب رغبةً منها في إضفاء متعة داخل قصصي المتخيلة ألا أنها قد نسيت أن هنالك أدمغة أخرى قد تقوم بإنارة تلك الصور المخبأة لافتضح معها كذِبها الأبيض معي. ما أقبح الحقيقة. لا أود الاستماع إليها. مكتفيةً كنت بذلك الوهم والخيالات المتمسكة بها. الآن ما عساي فاعلة بعد أن أفلت خيط تلك القصة من يدي.

نافذة

لعل أول ما يتنامى بداخلك عند الاستيقاظ من النوم لهفة البحث عن مصدر ضوء يُنبئك بحلول يوم جديد وانقِضاء فترة إهلاك الروح بأحلامِ تُبحر بك داخل عوالم لا محسوسة. ستجد عيناك وقد تحركت في حركة لا إرادية صوب النافذة، كونها المَنْفَذ لذلك الضوء بزجاجها الشفاف، دون الإغفال عن أنها حلقة الوصل بينك وبين الخارج. تلك النافذة الشاهدة على ما يدور بالداخل من أُلفة، ودفء. برود، وجفاف. تلك العين الشَاخِصة تجاه أحداث يومية تتراكم بمضي الدقائق والساعات والأيام. تسمع صمتنا وتصّدُ عن عويلنا. وهي لئيمة لا تكتفي بملء سطحها بصور داخلية فقط، فهي تُراقب أيضًا ما يقبع هناك في الخارج. تجلس مترصدة كمن عُيِّن جاسوسًا يعمل لصالح منظمة كلفتها بتسجيل كل شاردة وواردة تتجلى أمامها.  لكن هل يستدعي الأمر تعلقًا كبيرًا وإلتصاقًا تجاهها نظير ما تقدمه لنا؟  

التعلق بفكرة أو قطعة أو حتى شخص أمرُ يحدث للكثير من الأُناس. بيد أن الرسام هنري ماتيس بالغ في التشبث بها حين كان لزامًا عليه، وهو الوحيد الآمر لهذا الفعل، أن يضع نافذة في أغلب لوحاته. لن أدّعي دراسة شاملة لجميع لوحات ماتيس فلم أصل لتلك المنزلة من التخصص في علم خبايا الفنون، إلا أني كشاهدة بسيطة ومطلعة على أعماله أجد نفسي دائمًا أمام تلك النافذة. فأنا أن اخترت عشر لوحات عشوائية له ستبرز تلك النافذة في نصفها ، ثلاث ارباعها رفقة محظياته  اللواتي تبرعن بالمثول إلى جانب النافذة. لن أطرح التساؤل عن سبب تلك العلاقة، فرجل مثل ماتيس كان له النصيب الأكبر من التنقل بين المدن والبلدان ذات التضاريس المنوعة، حيث مكث طويلًا في غُرفِ فندقية تتميز بحُسن هيئة نوافذها. فالغرض الأساسي من تلك العُلب المجوفة تجسيد إلهاء ينسيك ضيق المكان لتتجلى النافذة بحجمها الطاغي وزجاجها الشفاف معطيةً إياك نظرة واسعة لصورة خارجية تنسيك ضيق الحبس المتقوقع بداخله. فما كان من ماتيس إلا الامتثال لتلك الهِبة ليغدق على لوحاته بنوافذ متعددة.

تميزت ألوان ماتيس بأنها خارقة للطبيعة، فمن الصعب إيجاد مثيل لها في الحياة الواقعية، دون أن أغفل عن صبغتها العاشقة للحياة. ولا عجب في ذلك وهو المنتمي إلى المدرسة الوحشية والتي عُرفت باللون كأداة تعبيرعن التفاصيل. والإتيان بلوحات لماتيس تتلمس فيها عنصر النافذة سيكون أمرًا بالغ الصعوبة نظرًا لكثرتها، لكن سأذكر منها البعض القليل. على سبيل المثال اللوحة الأشهر “الغرفة الحمراء” بمعية “نافذة زرقاء” وربيبتها في اللون لا المنظر “نافذة في طنجة”. هنالك أيضًا تبرز لوحة عملاقة بعض الشيء إن أخذنا بالاعتبار أرقام الطول والعرض لتلك اللوحة والمعنونة بـ “المحادثة”، ولعلي هنا سأحكي بعض التفاصيل المتعلقة بتلك اللوحة، لأخالف بذلك وجهة نظر المخرج والكاتب إريك رومر حين صرح على لسان إحدى بطلاته: “الرسم شيء مقدس، الكلمات تُدَنِّسه. الموقف الوحيد الذي تواجه به لوحة هو الصمت”.  فليعذر لي رومر تجاوزي هذا. في تلك اللوحة سنجد العنصر شبه الدائم، والضيف المرحب به على الدوام في عالم ماتيس الخيالي، والذي تتبعته منذ البداية “النافذة”. ستجدها منتصبة في منتصف القطعة الفنية، محاطة بجدار أزرق اللون يتميز بدرجته الصارخة المعتادة من قِبل ماتيس. على يمين النافذة تجلس امرأة على كرسي متكئةً بكلتا يديها على مسند المقعد وكأنها ضَجِرت من الاستماع لحديث الرجل الماثل أمامها والواقف من عند الجهة اليسرى للنافذة. الجميع يشير إلى أن بطلي اللوحة هما ماتيس نفسه وزوجته إميلي، ولعلها كانت لحظة تعبيرية لمشاعر بدأت تطفو بين هذين الزوجين. وهو ليس بأمر مستحدث يختص بحياة ماتيس، فالكثير من العلاقات الزوجية جَانبَت أو تَوصَلت لذات المصير، الفُتور. لكن هذه القطيعة المختبئة في ثنايا اللوحة لم يتم تأكيدها إلا بعد مرور عقدين على رسمها، إذا صحت التحليلات المتعلقة بها. لنستشعر من خلال تلك اللوحة بداية ظهور الشرخ داخل تلك العلاقة والتي ظلت تنمو ببطء طوال السنوات المتتالية لنصل معها للحظة الانفصال النهائية. ولعل الشاهد البارز، والعالم بذلك الأمر الخفي  كان نافذة. 

ذات النافذة نُسجت ملامحها من قِبل شُعار، أحدهم كان ريلكه. وإن أختلف تعلق ريلكه بتلك الهندسة عما كان يغوي ماتيس ناحيتها. تركيز ريلكه يتقوى من خلال مرفق الحبيبة المتكئ على النافذة، فما النافذة هنا إلا ممر عبور لامتداح المعشوقة، والتي سلبت روحه، وكلنا نعلم مدى رهافة روح ريلكه. النافذة هنا تتخذ اتجاهًا معاكسًا لما كان يجذب عيني ماتيس، الاهتمام كله ينصب لما هو موجود بداخلها فلا نلمح رؤية متعلقة بـ الإطلالة البهية للعالم الخارجي. ولا عجب أن تَعلُق ريلكه، مثلما هو الحال مع ماتيس، بقطعة النافذة قد جعله يخص إحدى قصائده بالحديث المسهب عنها. يقول شاكر لُعيبي في كتابه “شعرية التنافذ، ريلكه وتقاليد الشعر العربي” أن قصيدة النوافذ لريلكه تعد من المحاولات النادرة في شعره والتي يتخلى فيها عن ما برع فيه ذلك المفكر المنطوي على كينونته ليخط قلمه محيطه الخارجي والذي أغفل عنه كثيرًا، وكأنه في هذه القصيدة قد خلع رداء الشعراء الشماليين الغارقين في غوامض العالم الداخلي متشبهًا بشعراء جنوب العالم المتعلقين بكنوز العالم الخارجي. و سأستعرض بعض الأبيات من تلك القصيدة لإيضاح ذلك الافتتان.

أولستِ، أيتها النافذة، هندستنا،

⁠‫يا هيئة في منتهى البساطة

⁠‫تحيط دون عناء

⁠‫بحياتنا الهائلة؟

⁠‫تلك التي نعشقها لا تبدو أبدا أجمل

⁠‫إلا حين نراها تتجلى

⁠‫داخل إطارك أنتِ؛ لأنك تكادين، 

 يا نافذة، تجعلينها خالدة.

ربط ريلكه في هذه الأبيات خلود معشوقته عند تموضعها داخل إطار النافذة، وكأنه أراد أن يلمح أن لا وجود لصورة المحبوبة دون تلك النافذة، لأنها ببساطة ستُمكن المتلهف لها بإعطائه صورة ثابتة يستدعيها إذا جَنَبَ إلى لقياها. 

⁠‫لكن هاهي ذي التي تركض، وتميل، وتتوقف لتستريح:

⁠‫بعد رحيل الليل، هاهو الريعانُ السماويُّ المستجد،

⁠‫ها هو، بدوره، يُفصح عن القبول!

لا تتأملُ العاشقةُ الناعمةُ أيَّ شيء في سماء هذا الصباح، 

 ليستْ تتأملُ سوى ذاتِها، سوى هذه السماء، هذا المثال الهائل:

⁠‫هذا العمق، هذا العلو!

⁠‫لا تتأملُ العاشقة سوى حماماتٍ تجوب الفضاءَ في مسارات

⁠‫مستديرة، هناك حيث تضيء طيرانَها أقواسٌ ناعمة،

⁠‫حمامات تستعرضُ هناك عودةَ العذوبة.

يعود ريلكه مرة أخرى للعاشقة ويربطها بالنافذة. ففي هيامها المتجدد والذي يزداد اتقادًا مع آخر ذرات ليلية قبيل تحولها الكامل إلى حبيبات صفراء، تسرح هي في تأمل عميق نحو السماء الممتدة رفقة ما يحوم بداخلها. غيوم وحمام وأشياء أخرى لم يسع ريلكه حصرها. ولعلها أمعنت النظر أكثر فأكثر صوب الحيوانات الطائرة، جاعلةً مساراتها ذو شكلِ هندسي يشبه الأقواس. ومن المؤكد أنها لن تبلغ ذلك المفهوم دون معاونة الجماد الماثل أمامها. وعلى ما يبدو أن ريلكه راق له ما التقطته عيناه عبر النافذة رغم احتمالية اختباء منظر أروع أن تم له الدخول داخل المنزل المحتضن للنافذة. ألا أن شيئًا من هذا لم يحدث، أو لم يُذكر في القصيدة، لتجعلنا نظن بأنه أحد المؤمنين بحقيقة المغناطيس، حيث يكمن التأثير حين التواجد عن بعد ويتلاشى ساعة الاتصال المباشر.

أن تعمقنا في المصطلحات المشتقة من الفعل نافذة ستقفز للأذهان كلمة (التنافذ) والتي يتم جر معناه إلى: “تَنَافَذَ القومُ إِلى القاضي: خَلَصوا إِليه ورفعوا إِليه خصومتَهم”. لكن لنغّض الطرف قليلًا عن المعنى السابق متوجهين صوب الإيحاء العاطفي المشتق منه لتتجلى عذوبة المعنى ورقته في تلك الجملة: “الذهاب للآخر والاتصال به شعوريًا، في التنافذ ثمة ذهاب متبادل نفّاذ نحو الآخر”. وتتجلى رغبة الاتصال تلك عند ذكر المحبوب أو المحبوبة في الشعر العربي، كما تتضح بصورة أخرى في توق المريدين للاتحاد بالله في الشعر الصوفي. وكما يذكر لنا شاكر لُعيبي مرة أخرى في كتابه (شعرية التنافذ) “التنافذ هو الممر الذي يخترقه السرُّ، المخفي والمحجوب. وهو هذه التبادلية للأسرار بين الداخلي والخارجي، بين الغائب والحاضر، وبين المرئي واللامرئي”.

تستدرجني تلك الكلمات نحو الحديث عن هوية النوافذ التي رقدت تحتها. عن من كانت تقبع هناك أمامي عند البحث عن الدلائل الأولى لهطول الصباح بقطعان أشعة الشمس النافذة من خلالها. ورغم ما قد يصيب الذاكرة من عطب طفيف أو حتى عميق نتيجة تراكم السنوات المقضية، إلا أن أول نافذة لمحتها وُصمت بقوة في ذاكرتي. بإطارها المربع، وسياجها المعدنية المرتبطة بعمارة تقليدية مجاورة لأخرى تشبهها، وشقق تتماثل تفاصيلها ومكنوناتها بما يكتض به المنزل المجاور. ولكن هذا الأمر يجرني لطرح مصطلح آخر لتلك المُراقِبة نظرًا لكونها سياجًا معدنيًا أكثر من كونه مطل يتيح رؤية أوضح للخارج. وفي اللغة العربية ارتبط الشباك بتلك الصفة حيث يتميز بعزل لأصحاب الدار عن الخارج دون رغبة في الالتقاء به. فهو غير معني على الأطلاق بالانفتاح على الآخر، أو بأي صبغة ذات دلالات رومنسية، ولعل قريحة ريلكه لن تهمس له بشيء لو كُتب لها المكوث قرب تلك الكوة. وأبرز معاون لوسم وتثبيت تلك الصفة لهذا الحاجز المسمى “شباك” هي السياج المعدنية المتداخلة. 

نفس التصميم في مدينة أخرى ولعله لو لم يذكر لي اننا انتقلنا إلى مدينة تبعد 700 كلم غربًا عن الأولى لكنت ما علمت بهذا الأمر أبدًا. تصميم متطابق وبروز مرة أخرى للشباك لا النافذة دون رسم أية معالم جمالية تستدعي قدوم ذكرى. لعلها كانت باهتة الملامح لا شيء يستحق التتبع خلف هويتها.

فجأة تنبهت لتلك النافذة المتربصة أمامي، وكأني ألمح شيئًا لأول مرة. تلك الأعين المثبتة على الحائط. انتباهي هنا لم ينشأ لكون الملموح قد وُضع حديثًا ويتمتع بخصلة جذب الانتباه في أيامه الأولى، لأسبر ما بداخله بُغية اكتشاف ما لم يُلمح في البدء. بل على العكس من ذلك، فقد استوطنت هذه النافذة تلك البقعة سنوات عدة تقارب العقدان تناقصت خلالها الأجساد المتراصة في كنفها. ألا أن اللمحة هنا قد تغيرت أو لعله اللامِح لها هو من تغير، أو هو مجرد رفع درجة التركيز نتيجة الحديث المطول عن النافذة. صنفت هذا التأمل تحت بند التشريح. تفكيك أوصال تلك القطعة حتى أفهمها بشكل جيد. ما زال الشكل المربع هو الطاغي على المنظر رفقة السياج المعدنية ألا أنها هنا قد اتخذت شكلًا جماليًا يحاول أن يطمس صفة الشباك عنه. تشعر بأن الآخر موجود لكن بحذر، لا بعد متعمد ولا قرب يؤنس به. ظل يحاول أن ينتقل للداخل لكن يأبى في كل مرة أن يكمل رحلته. هي لمحة لا تغريني كثيرًا، بيد أن وجودها يُعدُ مؤنسًا تستطيب الروح للقياه عند أولى لحظات تفتح الأعين.

ديسمبر – يناير

عندما استفاقت اجتاحتها نفحة الملل ذاتها، والتي ظلت ملازمة لها في اليوم السابق، واليوم الذي يسبقه، واليوم الذي يسبقه، حتى نصل معها لليوم الأول. طرحت التساؤل الملح، والواجب قوله، من جلب كل تلك الجزيئات المتراصة والمسؤولة عن تركيب مركب الملل. وهو مركب شديد التعقيد يصعب التعرف على عناصره حتى يصبح من السهل على الملولة فك روابطه وإعادة كل عنصر منهم لمسقط رأسه، بعد أن تربت عليهم، مستحلفةً إياهم بأن لا يعاودوا الارتباط معًا حتى وإن كانت لديهم الرغبة الجامحة لفعل ذلك. 

أحاطت جسدها بذراعيها حتى توضح لي أن الطقس بارد جِدًا، وفي تبرير لطلب أوصت به لعامل المقهى بإطفاء جهاز التكييف. أشفقت عليها بسبب تلك الرعشات التي ظلت تجسدها أمامي لأوافق على برودة الهواء داخل المقهى، رغم اعتراضي على هذا الأمر. مصيبة الخجل.

في لعبة التنس لا بُد من أن تتقن عدة ضربات، فاللعب هنا ليس عَشوائِيًا يبدأ عند رؤيتك للكرة وينتهي بضربة قاسية لها بهدف الخلاص السريع وإيصالها إلى الخصم المباشر. يجب عليك أن تضع أطراف جسمك الأربعة في أماكن محددة وبزوايا مختلفة قبل أن تنوي ضرب الكرة حتى يتسنى لها الانتقال بأمان للبقعة المقابلة. ولعبة التنس جاحدة، ما أن تبتعد عنها قليلًا حتى تعاملك كغريب لم يُكتب له ممارستها من قبل. إحدى تلك الضربات التي تنكرت لي هي ضربة الفورهاند أو ضرب الكرة بالجهة الأمامية للمضرب. يؤلمني أن أعاود التدريب عليها من الصفر، كون وضع القدمين مقابل بعضهما البعض مع ميل الخصر إلى الخلف رفقة الذراع، والتي ينبغي عليها أن تحلق من الأسفل إلى الأعلى دون مبالغة في عملية الطيران أمرُ لا يأتي من تلقاء نفسه. في المقابل هنالك ضربة الباكهاند والتي لم أجد صعوبة في العودة إليها، فما أن أنوي الرحيل حتى أعود مسرعةً لنقطة الانطلاق، وهو فعل أملك الكثير من الخبرة فيه. ثالث تلك الضربات هي  السماش والتي أستبعد حدوثها من قِبلي كون الفعل يتطلب رقمًا معينًا في الطول أوقن بعدم حصولي عليه. أحاول التركيز لضبط الزاوية. كيف يمكنني ذلك؟. سأستعمل النظر حيث لا أملك أداة غيرها. الأقدام في موضعها والأيدي مستعدة لبدء العمل. يجب علي الآن تحريك اليد بشكلٍ نصف دائري من الأسفل إلى الأعلى دونما عجلة. ممتاز السرعة ملائمة، حتمًا ستتحقق معها ضربة الفورهاند المكتملة. إلا أن الشخص الماثل أمامي والذي يمدني بالكرات الواجب إرجاعها لم يتوقف عن الكلام حول السمك وأنواع السمك وأفضل البحار المربية للسمك. “سمك الإسماعيلية أطيب سمك ممكن تذوقيه في حياتك”. لو علم أني لا أطيق رائحة السمك وحديثه عنها يجعلني أشمئز أكثر وأكثر. السمك والكثير غير السمك. الخضار المحتشدة داخل السلطة. حلقات الزيتون. القهوة، شربها لا المقشر المستخلص منها. التمر ومشتقاته من أطباق تشيء بأن من ابتدعها كان مُضطرًا لعدم توفر مكونات أخرى. فلا رغبة لديه في كسب إعجاب المتذوق. ولن أغض الطرف عن الفواكه غير المحببة، لنرى: أكره المنجا والبطيخ والفراولة والعنب. ربما اختصارًا للوقت سأذكر ما أستسيغه منهم وهما اثنان قد يصطف معهم ثالث في أحيان، وأحيان أخرى يبقون منفردين دونه؛ البرتقال والتفاح والمتردد الموز. رغم عدم تذكري لآخر مرة تناولت فيها قطعة من التفاح إلا أن مجرد ذكر اسمه لا يجلب معه الرغبة في الغثيان كما هو الحال مع الحليب. الحليب كيف لي أن أنساه وهو المتصدر في الأطعمة المنبوذة، المسببة أيضًا لأمور لا أنوي التطرق لتفاصيلها. أين كنت؟ نعم في محاولة إتقان ضربة الفورهاند. تفاجأتُ بمرور الكرة من جانبي قابعة هناك في الخلف دون أن ترتطم بالمضرب. هذه المرة كان الإخفاق كبيرًا والذي كان في السابق متشكلًا على هيئة إرجاع الكرة لكن بطريقة خاطئة لتحل محلها معضلة  عدم اللحاق بالكرة. سألقي باللوم على رائحة السمك البغيضة. 

خفض سقف التوقعات كما صرح به محمد عبده “وش اللي عاد أرتجي”

محذرًا إياها من خطر السفر داخل الغرب الأميركي، قبل مئة عام، نبه رجل قبيلة باوني المنتمي إلى السكان الأصليين تلك المرأة المنتقمة بأن عليها أن لا تكتفي بالقوس والسهم في لحظة الدفاع عن النفس، إذا ظهر القاتل، ولكن يجب أن يكون السكين أقرب لها. وأن تستغل لحظة وقوف القاتل لتسبقه بالطعنة. تساءلت لماذا قد يقف القاتل قبل أن يقتلها، أجابها “ليتأمل وجهكِ”. كانت عبارة غزلية في غير موقعها، خطفتها من لحظة عدم الأمان لمنطقة أخرى واضحة المعالم. وهذا ما جعلها جذابة، لاذعة. تشبه لسعة الليمون في الطعام حين تباغتك في أكثر الأوقات انشغالًا.

The English 2022

مواقف الحافلات لمترو الرياض مارست الحياة بشكل عكسي؛ جربت الهجر قبل الأُنس.

لعنصر اليورانيوم عدد نيوترونات كبير تقبع داخل نواة ذرته، مقارنة بـ بروتوناته، وهذا ما يجعله ذو نشاط إشعاعي ضار بغية الوصول للاستقرار. ألا أن هذا الأمر كلفه عمرًا مديدًا يقارب الملايين من السنين، حتى يصل إلى لحظة الاطمئنان تلك. سيصيبك لفحة سكون بأنك لن تضطر في حياتك القصيرة الانتظار كل تلك المدة بغية المكوث في بقعة تفوح طمأنينة، والانتهاء كُلِيًا من رحلة الركض اللامتناهية للحاق بِالسُّكْنَى. هي سنوات قصيرة مقارنةً بذلك العنصر المسكين والذي يُعرف باليورانيوم.

“مفتاح السيارة بطاريته منخفضة” تنبيه يعاود الظهور في كل مرة أهم فيها للخروج من السيارة. وفي كل مرة مفتاح السيارة يعمل دون أي مشكلة.

امتطت سيارتي ظهر رصيف للمرة ….، ألا أنه في هذه الحالة أرادت تلقيني درسًا يسهم في دب الذعر بداخلي. أبت العجلات أن تستجيب لضغطة البنزين التي ما فتئتُ أزيدها قوة عبر قدمي اليمنى. حققت مرادها لأجدني مذهولة من رؤية المنظر بعد نزولي من السيارة، أربع عجلات تلامس الأرض دون أن تبدي رغبة بالحركة. أطلقت كافة الشتائم المسموحة حتى استفزها فتبادر بالتحرك. لأنهي معها هذا الموقف العصيب، بيد أن لاشيء من هذا قد حدث. داخل المواقف الخالية برز رجل أسمر كان يتأمل البدر الذي ظهر هذه الليلة بعد غياب قسري طيلة الأيام الماضية والتي كانت مصحوبة بهطول غزير للأمطار. ولعلي قطعت خلوته ومناجاته عندما صرخت صوبه بأن يخلصني من تلك الورطة. لم يتوانَ عن القدوم مسرعًا رغبةً في المساعدة. أمرني أن أركب السيارة واضغط على دواسة البنزين. استشطت غضبًا فماذا عساي كُنت فاعلة قبل قدومه. ألا أنه أصر قائلًا “تتسهل إن شاءالله”. عملت ذات الفعل الذي قمت به من قبل، وعادت ذات النتيجة للظهور، لا حِراك. أبتعد الرجل قليلًا وكأنه لمح شيئًا يعرفه حق المعرفة. خفت بأن يبتعد هربًا من تلك المسؤولية. تخيلت أن ذلك الحمل قد أرهقه فما عاد قادرًا على التحمل ليبتعد بجسده بعيدًا دونما نية في العودة. ألا أنه سرعان ما تبددت شكوكي حين رؤيتي له عائدًا ناحية السيارة حاملًا بيده قطعة خشبية مهملة من مبنى في طور البناء. قام بوضع القطعة الخشبية ناحية العجلة العالقة، مع صعوبة في رؤية المشهد كاملًا لفهم ما يجري . ما أن أنهى ذلك الفعل الغامض حتى أطلق زفرة الانطلاق “الآن”. عدت لعمل ذات الفعل للمرة الثالثة. وللمرة الثالثة لا حِراك.  أعاد فعل الفعل الغامض مضافًا إليه صوت طرقات أحسب أنها قدِمت من القطعة الخشبية وهي تنهال بالضرب على العجلة العالقة كعقوبة حازمة تجاه ما ارتكبته من تهور. أعاد إشارة الانطلاق مرة أخرى لأعاود الضغط على دواسة البنزين ومعها أحسست بارتفاعَ في السيارة، ليصاحبها ارتفاع في هرمون الأدرينالين ضاربًا مستوى قياسي أظنني قد تخطيت قمته ومعها اجتزت عتبة الرصيف. انهلت بكلمات الشكر والثناء على الرجل مع ذكر مديح طفيف عن تلك الشهامة ليقابلها بكلمات مبهمة احسبها تدل على تواضع رجل اعتاد فعل ذلك الأمر. ركنت السيارة قريبًا من موقع الحدث، لم أستعجل الخروج للحاق بموعدي داخل البناية إلا أني هممت بفعل الخروج في النهاية. كان السكون يحف المكان في وشاية كاذبة عما ضُجَّّ به قبل قليل. أشحت بعيني في كافة الاتجاهات إلا باب العيادة، باحثةً عن العناصر المكونة لمشهد “إنقاذ السيارة”. جميعها اختفت، لا الرجل الأسمر ولا القطعة الخشبية. حتى البدر الذي أضاء لنا الليلة، والمرتبط بتحريك أمواج البحار لأعلى مستوى دون الإغفال عن علاقته الغريبة مع قصص الأساطير، عاد لاحتجابه خلف الغيوم المحتشدة. كأنهم جميعًا أدوا الغرض المنوط منهم في هذا الوقت داخل هذا المكان، لينتقلوا بعدها مكملين مشهدًا آخر يحدث تحت سماء أخرى.

وضع ارهينيوس مفهومًا يفسر سلوك الأحماض والقواعد. آمن بأن المركب الذي يحمل ذرة هيدروجين ويهبها عند تفاعله مع الماء هو حمض والمركب الذي يهب جزيء الهيروكسيد عند خوض ذات التفاعل هو قاعدة. بيد أن النشادر أصابه في دهشة لقدرته على وهب جزيء الهيدروكسيد واحتوائه على ذرة هيدروجين بداخله. امتعض بشدة نتيجة مخالفة ذلك المركب توصياته. أشعر بأن ارهينيوس باح لنفسه معبرًا عن استيائه من النشادر مطلقًا كافة الشتائم المقبولة والمنبوذة، بل وتملكته الرغبة الملحة بإخفاء ذلك المركب عن الوجود خوفًا من أن يدمر نظريته الفتية. لكن لا شيء من هذا حدث كل ما قام به هو أن تجاهل هذا الأمر واضعًا جملة من كلمتين عن سلوك النشادر بقوله: “لا يمكن تفسيره”. 

منبوذًا مثل الكربون. يبنون مدنًا خالية منه، ووقودًا لا يلفظه إلى الخارج. ذلك الخارج الذي عُد مسكنًا لشكله الغازي والذي يأبى الجميع في استنشاقه. 

لحظة سعيدة تتحول إلى ذكرى يتم التحسر على ابتعادها وكلما طالت المدة الفاصلة بين وقت حدوثها والوقت الذي تم فيه استدعاؤها يزداد معها حجم الحسرات. أما الحزينة أو الغليظة فتهرول مسرعة ساعة نشأتها مبتعدةً في قاع لا يُعرف مكان تواجده، فلا يرغب صاحبها في استرجاعها أو حتى تذكرها. باتت آمنة رغم قبحها. 

أصبحت تفضل الاستماع للموسيقى الخالية من الكلمات، تكفيها تلك السيناريوهات المحتشدة داخل رأسها. ولا تملك أدنى رغبة في إضافة المزيد منها عبر الأغاني.

اشتركت في تطبيق DailyArt، وهو تطبيق يعنى بإرسال لوحة لكل يوم، يتذيلها معلومات بسيطة عن الرسام رفقة لوحته. في البدء طرح تساؤل عن الوقت المفضل لدي والذي أرغب فيه بتلقي تلك التنبيهات، اخترت التاسعة صباحًا لا لسبب مغرِ بل لكوني شعرت بأنه ملائم. الغريب أن التطبيق قرر أن يرسل تلك الرسائل عند التاسعة وأربع دقائق. ظننت أنه خطأ يبرز عند البداية إلا أن التطبيق التزم بهذا الوقت دونما حيود، وكأنه قد تلقى أوامر عسكرية بهذا الأمر أن هو أخل بها سيتحصل على عقوبة قد تنهي تواجده الألكتروني. خيالي المحض سرح بي نحو التفكير بتلك الدقائق الأربعة المفقودة. ماذا بوسع تلك اللوحة السابحة أن تفعل داخل الفضاء الإلكتروني؟ وماذا بوسعي أنا أن أفعل خلال دقائق الانتظار الأربعة؟

❞ لو وَقّت كلّ شيء بشكل دقيق، فلربما تزامنا بهدوء في موعد وصولهما. ❝

أحد الأمومة – غراهام سويفت

نحن نعرف ما سيأتي

في المعركة الخالدة للهروب من المهام اليومية، وجدت نفسي مطلعة على بعض الملاحظات المدونة في هاتفي الشخصي. تبرز جملة غير مكتملة في المقدمة، تتبعها ملاحظة كنت قد أديت المأمول منها، وأخرى أثارت تساؤلًا بداخلي عن مدى أهميتها الآن. إلا أن عبارة أصابت الهدف بشدي بقوة ناحية موقعها دون إمعان، سُطرت حروفها على هذا النحو (رواية “نحن نعرف ما سيأتي” وعن الواقع المحفز للخيال).

لم يستغرق الأمر سوى بضع ثواني حتى بدأت الذاكرة في استدراج بعض الالتقاطات من تلك الرواية والتي بُعثرت بشكل عشوائي دون إخلال في ترتيب قد يفقدها الرونق الخاص بها. الأبرز كان ربطها بلفظ الواقع المحفز للخيال. استأذنت الرجل المحترم عمدة كاستربردج كي أضعه جانبًا لأعيد إستخلاص الرواية ورؤية ما شدني فيها. تتخذ القصة شكلًا من أشكال الخيال التاريخي، حيث أنها تدعي حدوث أمر ما لأشخاص عاشوا في الماضي إلا أنه لم يتم. فهو في مجمله خيال محض ألا أنه حُفز بواسطة شخصيات تم التعمق داخل قصصهم في كتب التاريخ والسير الذاتية، أو من خلال كتاباتهم الأدبية كما هو الحال مع أبطال تلك القصة. 

كلايست وجوندروده رجل وامرأة مارسوا فعل الكتابة بما تملي عليه أرواحهم. هو عَشِق المسرحيات والقصص القصيرة أما هي مارست تلوين الكلمات برقة مشاعرها منتجةً قصائد كانت رفيقة الدرب في الحياة الوجيزة. كلاهما في الواقع أنهى حياته في عمر مبكر بالأقدام على الانتحار، والفاصل الزمني بينهما كان مجرد خمس أعوام تكاد لا تذكر في عداد الزمن والحارس الفطن القاطن بجوارها. لعل الكاتبة استوقفها أوجه الشبه الكبيرة بين الشخصيتين والنهاية الدرامية لحياتهما دون الإغفال عن تقارب فترة تواجدهم على هذا الكوكب، لأجل هذا ابتغت لقاءً لم يكتب له النشوء في وقت حضورهم. أمسكت بسلاح القلم ورسمت وقائع تتحكم فيه وحدها عن طريق إخراج المشاهد.افتعلت حفلًا ادبيًا للكُتاب الألمان يحضر فيه كلًا من الشخصيتين المنكوبتين، ومعها تستدرج كلايست وجوندروده لخارج ذلك الحفل في نزهة طويلة بجانب نهر الراين لتملأها بحوارات وحوارات لا تنتهي، ذكرتني تلك اللقطات بأفلام ريتشارد لينكليتر و وودي آلن حيث لا إبداع يُجمل الفيلم سوى الكلمات المنطوقة والتي ما فتئت تبهرني. هل التقى كلايست وجوندروده في مكان واحد؟ لا أحد يعلم، وهل من الممكن أن يكون قد أقاما حديثًا طويلًا أدى لتأكيد رغبتهما في الرحيل عن هذه الحياة؟ أيضًا لا أحد يعلم لأن الإجابة تكمن داخل جسديهما المتحلل في باطن الأرض. قد يتمكن بعض المتخاطرين بالأرواح من التواصل معهم أو إيهام السائل بمعرفة ما دار في ذلك الوقت، ألا أن المقتنعين بتلك الرؤية لن يكملوا عدد أصابع اليد الواحدة، فلن يأتي التأكيد الحتمي لتلك النظرية من خلال رؤى تتراىء لشخص يدعي امتلاكه قدرات خارقة.

تلك القصة والتي اختلقتها الكاتبة لا تختص بها فقط، فكل واحد منا يسرح بخياله بعد رؤيته لأحداث تقع تحت ناظريه لتبتدع عضلة المخ بعدها مناظرًا لم تطرأ في المشهد الأصلي. وكأن الكتابات المتدافعة في جري محتوم نحو الورق ما هي إلا اقتباسات عن وقائع طرأت بالصدفة في خط حياة ذلك الكاتب. وكدليل دامغ لهذه المعضلة القَسم المتكرر من قِبل الكُتاب قبيل بدء الفيلم أو المسلسل الراوي لتلك الأحداث بعدم استنادها على وقائع وشخصيات حقيقية وان حدث هذا فهو من باب المصادفة لا أكثر (الجميع يعلم انها ليست مصادفة). 

بحبال وثيقة يمتطي الواقع بالخيال متتبعًا ضحكات عمرها مئات السنين أو بضع ثواني. ذلك الصدى يعود منعكسًا بشكل مختلف، يضاف عليه بعض الأصوات المختلقة والتي يؤمن ساردها بضرورة حضورها، ليجد نفسه متعلقًا بتلك القصة أو ما توهمه من تلك القصة. قد تكون مجرد أسطورة وقد تكون واقعًا لا يراد له أن يحدث، في كل الأحوال هي تملأ عليه تفاصيل حياته، حياته الذي ظل محاولًا باستماتة تغير روتينها.

أن نفهم أننا مسودة-ربما تُرفض، وربما تُستكمل مرة أخرى

– كريستا فولف

في صُحبة المقهى

داخل الغرفة الكبيرة المغلقة ذو النافذة الزجاجية العريضة والتي يتوسطها باب يفتح كل بضع دقائق معلنةً دخول شخص آخر لهذا المكان ومنبهةً لك بكثرة من يقطن هذه المدينة، فالكل يختبر ذات الأحوال الجوية وأن كانت تتسم دائمًا بالاستقرار والشمس المشرقة طوال السنة في مدينتنا، لكنه شعور جميل بوجود ألفة بين كل أولئك الغرباء. 

يتواجد رجل داخل المقهى منذ جلوسي لحين مغادرتي ملازمًا لهاتفه يتحدث مع شخص شارحًا له عن أمور ضلت عالقةً داخل رأسه طيلة الأيام الماضية، وصلت لهذا الاستنتاج لأنه السبب الوحيد المقنع لتفسير كل هذا الحماس أثناء الحديث، لا يكف عن إخراج كلمة تلو الكلمة من داخل فمه لتتلقاها أذن الطرف الآخر المتواجد على الهاتف معه، وحتى عندما ظننت بنهاية حديثه أنتقل إلى شخص آخر يتجاذب معه الكلام في مواضيع أخرى، يا ترى من أين أتى بكل تلك الجمل ليملأ وقته بها، من المؤكد أنه ذو شأن كبير في عمل أكبر جعلت حياته ممتلئة بتلك الحوارات والأكيد أنها ممتلئة بالتجارب جعلت منه واثقًا كما يبدو حاله عند رؤيته للمرة الأولى. في الزاوية صديقتان تتبادلان الكلمات بصوت خافت حينًا وبعلو الضحكات حينًا أخرى، يبدو من خلال أحاديثهم والهيئة الظاهرة لهم أن تلك الصداقة كُتب لها العمر الطويل، ويبدو كذلك أن تلك الصداقة تجاوزت العديد من المطبات والانعطافات وأصبحت كل واحدة ملجأ للأخرى تلجأ إليه عندما تهب العواصف لتتمسك أحداهما بالأخرى كشراع رابض على سارية سفينة داخل الأمواج الهادرة.

أمامي شخص مركز بصمت طوال الساعتين التي قضيناها برفقة بعضنا البعض، دون تبادل أي أطراف حديث، مركزًا في شاشة كمبيوتره كما هي حالي ومع تحريك الرأس يمينًا وشمالًا من حين لآخر لأخذ لمحة سريعة عن المتواجدين، لا أخفيكم أنا أيضًا أقوم بذات الفعل. هذا التركيز الشديد لا بد أن يكون مرتبطًا بعمل يمثل المستقبل بالنسبة له، قد تكون رسالة ماجستير، وقد تكون قضية يحاول فك تعقيداتها كمحامي. لا أعلم أي قصة هي الأنسب لشخصيته لكنِ أرجح الثانية، أو ربما هو تأثير سهرتي البارحة على فيلم يتحدث عن محامي صاعد يشق طريقه نحو القمة. ياترى هل يفكر في ذات الشيء عني؟ وماذا لو علم أن حملقتي بتلك الشاشة كانت مجرد تقليب بين مقالات لا أنهي قرائتها بحثًا عن إلهام أطارده لكتابة مقالة لا أعلم أي شيء عن كيفية نشرها، سيذهل من النتيجة أنا متأكدة. على الزاوية اليسرى تجلس فتاة تحمل كتابًا ظلت ممسكة بجلدته بشدة ومقلبة أوراقه رغبةً منها بإنهاء أكبر كمية منه، يوجد هناك امتزاج بين ما ترتديه وبين غلاف الكتاب فكلاهما من درجات الأخضر، السؤال هنا هل هو مقصود أم صدفة غير محسوبة كُتب لها الحدوث؟

من خلال الواجهة الزجاجية يمكن رؤية ثلاثة أصدقاء يتناقشون بصوت غير مسموع، كون الزجاج يعد عازلًا للصوت، لكن من المؤكد أن نقاشهم كان حادًا والذي تتضح معالمه من خلال مراقبة حركات الفم مع إشارات اليد التي تعلو بين الحينة والأخرى. في جلستهم أدخنة السجائر كانت تسير فيما بينهم متخذةً طرقًا ملتوية للارتفاع عاليًا هاربة من حدة أصواتهم، أو ربما هي مجرد تطبيق للقوانين الفيزيائية، يرتفع الهواء الساخن دائمًا للأعلى بعكس البارد ذو الضغط المرتفع يهبط بسلام بمحاذاة سطح الأرض. 

الشخص الصامت والمركز في عمله والمتواجد أمامي يرتفع صوته متحدثًا مع شخص من خلال الهاتف، فبعد سماع الرنين نزع نظارته ليتحدث بعدها بأريحية مع ابتسامة خفيفة، هي حتمًا ليست مكالمة عمل. قطع حديثه بعد اخباره الطرف الآخر أنه سيقوم بتأدية الصلاة الآن مع معاودة الاتصال عند الأنتهاء منها، لكن تلك الإعادة لم تحدث.  

في المقهى حدثت لي صدفة غريبة فعيناي وقعت على شخص جمعنا عمل فيما مضى، أذكره جيدًا. هو يتمتع بشهرة عريضة فملامح وجهه لن تنسى ناهيك عن وجودها في صفحات الأنترنت بشكل كبير، لم أبادر بالسلام خشيتًا مني بعدم معرفته بي، أكره تلك اللحظات دائمًا ما أتنبأ بالأسوء وأوهم نفسي بأنِ غير مرئية. هو على الطرف الآخر لا أعلم ما دار داخل رأسة من محادثات، وربما أنها لم تحدث من الأساس فطوال وقت جلوسه داخل المقهى كان مركزًا في شاشة جهازه المحمول وعازلًا نفسه بسماعات ضخمة وضعها على أذنيه. 

في الثواني الأخيرة لتواجدي داخل هذا المكان وعند خروجي منه وانقضاء وقتي فيه لفت انتباهي شخص قام بتكتيف يديه ومحدقًا في شاشة الايباد بعينين متجحظتين ترغب في رؤية أكبر قدر من الأرقام المعروضة على الشاشة، أو ما تعرف بالأسهم، هو لم يلفت انتباهي في هذه اللحظة لكن ما شدني هو اتخاذه نفس الوضعية منذ دخولي لحين خروجي، جميل ذلك الارتباط الوثيق الذي لا يتأثر بأي متغيرات تجري من حوله هو السلام الذي نطمح بالوصول إليه حتى ولو بدأ مزعجًا من الخارج. 

الهروب إلى الأمام

في صباح يوم الأحد 13 من سبتمبر تعرضت لأول حادث سيارة، كان قد تم اقتناؤها قبل شهرين تقريبًا ومعها بدأت الرحلات في شوارع المدينة. إذا أردت أن أعرج على تفاصيل الحادث فلن تكون طويلة مجرد اصطدام بالسيارة التي أمامي بعد توقفها المفاجئ عند المخرج، حمدًا لله لم تكن ساعة ذروة فعدد السيارات المتواجدة لم يكن بتلك الكثرة فنتج عنها مسافات متباعدة حمت السيارات الأخرى من التصادم المتتالي، وإلا كانت النتائج لتكون أعظم، صدمة من الأمام وصدمة أخرى من الخلف. كانت تلك اللحظة التي ارتطمت بها سيارتي السيارة الأخرى متوقعة ومحسوسة من قبل أن تحدث فلم تصبح من النوع المباغت أو المفاجئ والتي ينتج عنها هلع شديد. تعاملت مع الموقف سريعًا فلم يتم استدعاء نجم وايقاع اللوم على أحدنا، أردت أن أنهي الموضوع بأسرع وقت ممكن، تم قيادة السيارة بعدها للعودة للمنزل وكان مشوارًا اعتياديًا لم ينتج عنه غرابة في قيادتي أو في السيارة نفسها رغم شكلها الخارجي الغريب ولم أكن على عجلة من أمري حيث توقفت عند صيدلية في الطريق لشراء بعض الحاجيات غير الضرورية. بعد الوصول لم أخبر أحد عما حدث صعدت إلى غرفتي لأعود لبعض الأمور الاعتيادية، اتصلت أمي بعد ساعتين لتخبرني عما حدث للسيارة حيث شاهدتها عند ذهابها للسوبر ماركت، صوتها كان قلقًا ولا ألومها لأنها مفاجئة ومنظر الصدمة من الأمام يخبر المشاهد بحدوث حادث عنيف، رغم أنه لم يكن كذلك أعتقد أنه ذنب السيارات الصغيرة والخفيفة، طمأنتها بأن الموضوع صغير جدًا وأنه ليس بالحادث الكبير حتى أن السيارة لم يصبها مكروه فقد تحركت بعدها ولم يتم ملاحظة خلل تقني بها. 

في اليوم التالي قدِم اتصال آخر من بنت الجيران، والتي لا أعلم متى كان آخر اتصال فيما بيننا، صوتها كان يرغب في طمأنتِ رغم ذهولها من ما تم رؤيته في المواقف الخارجية أمام المنزل، لتذكرني بقصتها العام الماضي عندما صدمتها سيارة من الجانب الأيمن بعد مرور شهر على اقتنائها وأنها أمور متوقع حدوثها ولا يجب أخذ موقف متشنج تجاهها. تم التطرق للموضوع في تويتر بعدها بثلاثة أيام ومرة أخرى انهالت التعليقات المختلفة من الأصدقاء مذكرةً نفسي بأنِ لست الوحيدة في هذا الأمر فأغلب الناس مر بتجارب مشابهة لها، حادث سيارة بعد اقتنائها بفترة بسيطة. بعد كل تلك المهدئات القادمة من أناس أعتز بوجودهم في حياتي واقعيًا أو افتراضيًا بدت تتضح أمامي لحظة سكون فلا وجود للقلق ولا وجود للخوف من الإمساك بالمقود مرة أخرى رغم هذا لم أحبذ التطرق للأمر ولم أرد التعامل مع السيارة في مرحلة ما بعد الحادث من تصليحات وتوفير القطع المتضررة وغيرها رغم وجود الأيادي الممتدة للمساعدة من قبل أخوتي، كان هناك رغبة عارمة في مسح الأمر والانتقال إلى مرحلة أخرى. المسح هنا لا يعني شطب المهمة من قائمة المهام لا بل إخفائها وعدم التعامل معها والانتقال لأمر آخر والعمل على انهائه في الوقت المناسب ليتم بعدها السير بخطوات واثقة نحو الأمام مع التأكيد على عدم الالتفات.

هذا الحدث جعلني أمعن النظر في كيفية تعاملي مع الأحداث المفاجئة الغير مخطط لها بشقيها الصعب والسهل. لاحظت أن صفة الهروب وعدم مواجهتها تتضح بشكل كبير، بل مع محاولة أكبر في الإسراع لتخطي الأمر وتجاهله، “رغبة عارمة في عدم المواجهة” يمكن جعلها شعارًا دائمًا لتلك المواقف. هل يمكن تصنيفه تحت قائمة “الجُبن”؟ هو حتمًا ليس ببعيد عنها، تلك المشاعر والرغبة في عدم التعامل مع الأمر أجدها تصرخ بصوت عالي داخل رأسي مرارًا وتكرارًا في كل مرة أمر بها بتلك الظروف. الحدث الجديد ليس الأول فدفتر الحياة مليء بمواقف مشابهة بل وبشكل أكبر، فعلى سبيل المثال العام الماضي أتيحت لي فرصة الذهاب لدورة تدريبية من قِبل العمل لمدة عام واحد في الخارج، في ذهن “أسماء” هذا يمثل الحلم الذي سعت له لسنوات، ورغبة العيش في الخارج وتجربة الحياة لوحدي كان أقصى ما أتمناه، لكن فكرة الهروب إلى الأمام وعدم المواجهة برزت بشكل جلي في هذه الحالة، بدأً من المعوقات التي من المتوقع بروزها عند أتخاذ فتاة مثل هذا القرار في حياتها، معارضة من هنا و تأييد على مضض من هناك. تلك الأمور جعلت الخوف يتسلل إلى داخلي مشككًا في كل فكرة آمنت بها بدأً من تقليل أهمية البلد التي سأذهب لها (كانت غلاسكو) وذكر عيوب عديدة لها: باردة، كئيبة مدينة ريفية لا تصلح للعيش وحيدًا، الشمس لا تظهر إلا أيامًا معدودة، اللهجة الغريبة لسكانها. كيف تم التعامل مع الأمر؟ من دون المواجهة مع الأشخاص المعنيين ومن دون ذكر وجهة نظري لهم، بل على العكس تمامًا تم تجاوزها ورفضها والعودة إلى العمل المعتاد الروتيني والمكروه من قِبلي. هكذا ببساطة، لم تكن هناك صدامات وانفعالات، ولم تكن هنالك جدالات حسمت أمرًا مقابل آخر بل على العكس تمامًا تم الأمر بهدوء حتى أن العديد ممن كانوا حولي لم يعلموا عن القرار المتخذ إلا بعد مرور فترة زمنية (كان في اعتقادهم بأنِ عاقدة العزم على الذهاب). الغريب أن في لحظتها ينتابني أحساس بالأمان والراحة وكأن جبلًا أزيح من على ظهري لكن ما يلبث هذا الجبل إلا أن يعاود البروز بعد فترة ليست بالقصيرة وبطريقة جلد ذات مرعبة، مع تذكير نفسي دائمًا بأن ما من أحد ملام غيرك، أنتِ السبب في كل ما حدث. تبدأ الأسئلة في التشكل على طريقة “ماذا لو؟” و “ماذا لو؟” أسئلة تجد إجابات واحدة مليئة بالعتابات و الاتهامات المبطنة لنفسي.

الموضوع أشبه بكتابة كلمات على Word أو Google Docs فيبدأ المصحح بوضع خطوط حمراء تحت الكلمات الواجب تصحيحها، فتمضي قدمًا في الكتابة حتى لا تضيع منك تلك الكلمات والتي ترغب بشدة في نقلها سريعًا من عقلك إلى جهازك مع مرور الوقت سوف تتناسى تلك التنبيهات لتتفاجئ بعد نشر موضوعك بكمية الأخطاء الموجودة. ببساطة إهمال تلك الإشارات وعدم التعامل معها في لحظتها قد يؤدي لتلك النتيجة الغير مرضية. أنا إلى الآن لم أستطع التعامل مع الأمر وما زلت أحاول إن أغير تلك الصفة فيني، هل الموضوع مرتبط بالمثالية؟ لا طبعًا لكنه أمرٌ أرغب في إنهائه لأنه يتعبني كثيرًا وأريد أن أكون أكثر راحة.

سلم

ظلت تتبع الإرشادات الصحيحة لتخطي عتبات ذلك السلم حتى تنهي تلك المهمة بنجاح. أخبروها بضرورة الصبر حتى لو مرت فترة طويلة دون تحقيق تقدم يذكر فعند خط النهاية تنتظرها جائزة تستحق ذلك العناء مع رؤية مختلفة لهذا العالم. تخفض رأسها كثيرًا حتى تستطيع التركيز في كيفية إيجاد أفضل طريقة لإنزال قدمها المحلقة عاليًا على الدرجة التالية وأحيانًا ما بعد التالية. خطواتها الأولى كانت مبشرة وتنذر بنتيجة مبهرة ستكون حليفتها بالطبع، لكن عند المنتصف بدأت أصابع قدميها بالتشكي فقد ملت ذلك الطريق المعتاد وتلك الخطوات المرسومة، ارادت ان تنحرف قليلًا عن المسار لتضع نفسها أمام تحدي حقيقي يتطلب جهدًا مضاعفًا يعطي القوة والمرونة لتلك الأصابع، لكن تم مصادرة تلك النزوة والعودة لدرجات السلم، فكل ما تبقى بضع خطوات على خط النهاية ولا وقت لمغامرة جنونية الآن. 

“هيا هيا” نطق لسانها بتلك الكلمات من أجل التحفيز وحتى تلهي نفسها عن ذلك الثقل الغير مبرر، أصبح هذا الشعور يهبط من عزيمتها يجعلها ميالة للكسل مع رغبة ملحة في التوقف. المشكلة أن قامت بإيقاف حركة جسمها على هذا السلم ستصبح غير عالمة بكيفية أخذ الراحة، وهل توجد أماكن مخصصة لهذا الفعل؟. مع زيادة عداد الرحلة بدأت روحها شيئًا فشيئًا بالأنفصال عن جسدها، الحركة المرئية والفعل المنفذ لا يمت بصلة لما يدور بداخل جسمها. أصوات مزعجة وغريبة تتردد داخلها تؤثر على تركيزها وتجعل منها مشتتة البال غير آبهة بما يحصل أمامها. ترى هل يستحق هذا الأمر كل هذا العناء؟

أصبح صوت الشك طاغيًا كل متر يقطع تتعالى فيه أصوات مثبطة من نوعية ما فائدة كل هذا، هل أنتِ سعيدة الآن؟. بدأت تقل عدد الدرجات المتبقية أصبحت الوجهة النهائية تتضح معالمها رويدًا رويدًا، ومعها أرتفع الحماس لأقصاه هاهي تلك الأصابع تحط رحالها على آخر بقعة يفترض بها لمسها، توقفت تمامًا، عم الهدوء المكان التفتت حولها لترى المفاجأة، تعجبت قليلًا لرؤية ذات المنظر الذي شاهدته عند خط البداية يا ترى لماذا؟ تفحصت السلم بنظرة سريعة على جميع أجزائه، استوعبت الحدث أكثر، فقد تبين لها أن ذلك السلم ومن جعلته الداعم لخطواتها نحو الهدف كان في وضع أفقي.

هاملتون

20130816_161817

في أيامي الأولى من الدراسة الجامعية والمحاولات العديدة للتأقلم معها، كنت في قاعة الانتظار عند بوابة الخروج أعد الدقائق والثواني لحين قدوم السائق، فالوقت يمضي ببطء ومحاولات تضيعه بفتح الهاتف النقال والاستمتاع به لم تكن ميزة موجودة في أيامنا تلك فقمت بأبسط فعل يساهم في عملية تزجية الوقت، الإستماع لأحاديث من بجانبي. صديقات من أربع فتيات يبدو من هيئتهن وكثرة الأحاديث فيما بينهن أنه  قد مضى زمن ليس بالقليل على تلك الصداقة التي تجمعهم، إحدى تلك الفتيات تتوسط موقع الجلوس وقد استلمت دفة الحديث فيما ظل البقية بهيئة مستمعات مع بعض التعليقات البسيطة والأسئلة الملحة بين الحين والآخر، كانت الفتاة تتحدث عن رحلتها الصيفية إلى نيويورك حيث ذكرت الأماكن المميزة والمطاعم الرائعة والتسوق العجيب، الذاكرة هنا لا يسعها تذكر التفاصيل فالموقف حدث منذ زمن بعيد لكن ظلت جملة نطقت بها الفتاة ظلت راسخةً في بالي حين ذكرت بأنه لا يمكن لها أن تنسى حضور مسرحية في برودواي فهو نشاط اعتادت عليه هي وامها منذ زمن بعيد. مسرحية؟ أتذكر حالة الاستغراب التي طرأت علي عند سماعي لتلك الكلمة، ففي ذلك الوقت والعمر الصغير لم أكن أعي كثيرًا عن كيفية قضاء عطلتك الصيفية، أو حتى الاهتمامات التي كانت تعنيني وقتها فقد كانت مختلفة عما هي عليه الآن، لم أكن أتصور أن يضيع شخصًا ما وقته الثمين في الإجازة بالذهاب لمسرحية.

بعد عشر سنوات من تلك القصة كتب الله لي زيارة إلى نيويورك من دون تخطيط مسبق حيث أُتخذ القرار على عجل قبل العودة للرياض من واشنطن، تم تأخير العودة يومين إضافين لنجعل نيويورك آخر محطة لنا في الولايات المتحدة ولكن فقط لثمانِ وأربعين ساعة. الوقت القصير وعدم الحجز المسبق أدى إلى إلغاء فكرة حضور مسرحية، والاستفادة من تلك الساعات لرؤية أهم معالم المدينة. تمضي سنوات قليلة و كمتابعة جيدة للفن بدأ يلفت انتباهي اسم مسرحية هاملتون، حيث تكرر ظهوره في الأحاديث الفنية أما بالحديث عن روعته، أو باستضافة فناني المسرحية نفسها في برامج التوك شو، اتذكر جيدًا ففي وقتها زاد شغفي بالأعمال الموسيقية أو ما تعرف بالميوزيكال حيث تكون الحوارات فيما بين الشخصيات بطريقة غنائية والفضل يعود لفيلم لا لا لاند. حينها دفعني الحماس لمشاهدة العرض التشويقي الخاص بالمسرحية في اليوتيوب، لتظهر معها طريقة الغناء من نوع الراب لأوقف المشاهدة سريعًا ويتوقف بعدها بحثي عنها، لأنِ ببساطة لا أستسيغ هذا النوع من الفن.

المحب للقصص التاريخية دائمًا ما يُعجب بقصة تأسيس الولايات المتحدة، ففكرة تأسيس البلاد و استقلالها من بريطانيا والإعلان الخاص بها ملهمة من نواحي عديدة. حكاية الآباء المؤسسين وأول رؤسائها عُرضت كثيرًا في الكتب والوثائقيات والأعمال الفنية سينمائيةً كانت أم متلفزة. أسماء ظلت راسخة في بالي مثل جورج واشنطون جون آدامز وتوماس جيفرسون، لن أدعي على علمي الكامل بما قاموا به لكن توجد لمحات من حياتهم السياسية ظلت في ذاكرتي. قد يكون هاملتون أقل اسم من بين تلك الأسماء ذكرًا وتداولاً، ليس بمعنى عدم المعرفة التامة به لكن بعدم معرفة الأعمال التي كان خلفها، فهذا الرجل كان وراء العديد من القرارات التاريخية والمصيرية للولايات المتحدة، هذا الجانب الدرامي جذب صناع المسرحية لعمل مقتبس عن حياته لأنه وببساطة تتواجد بداخله الخلطة الكاملة لقصة درامية شيقة، رجل قدم من دون نسب كافح لبناء نفسه حتى أصبح من ضمن علية المجتمع، كأنه تطبيق فعلي لما يود الدستور الأمريكي في وقتها الاستناد عليه.

في العام الماضي تقرر عمل فيلم للمسرحية بنسخة خاصة للمشاهدين في كل مكان، وكأنها رسالة محبة لكل من لا تسمح ظروفهم برؤيتها في مكان عرضها داخل مدينة نيويورك، وأتت جائحة كورونا وعجلت بإصدار تلك النسخة وتوفيرها رقمياً. أصابني فضول لرؤية العمل رغم علمي بموسيقى الراب الموجودة فيها والمكروهة من قِبلي لكن يمكن حسابها كتجربة جديدة لن أخسر الكثير فيها. منذ بدء المسرحية إلى نهايتها ظللت بتركيز عالي دون أي تشتيت، جميع ما ذكر في المسرحية والأسطر الغنائية المذكورة ظللت مشدودة لها دون أن أفقد تركيزي، الموسيقى كانت معبرة ومختلفة وحماسية بشكل لا يمكن وصفه في أحرف بسيطة، ستستشعر بطاقة هائلة بعد الانتهاء من مشاهدة المسرحية لتظل معك فترة غير بسيطة. قد يكون نوع موسيقى الراب هي السبب رغم أن المسرحية ليست بالكامل ضمن هذا النطاق فيتواجد ضمن مقطوعاتها الغنائية أنواع أخرى من الموسيقى وكما أعتدنا عليه في أعمال موسيقية أخرى. العمل ممتع فقد احتوى على القليل من اللمحات الكوميدية ولعلها خاصية اكتسبتها المسرحية وجعلتها تتفوق على غيرها أو لنقل تميزها كون الموضوع المطروح هنا تاريخي وغالبًا ما يتسم هذا النوع من الأعمال من الجدية مع إضافة مشاهد ملحمية. وأن استمرينا في حديثنا عن التميز والمختلف في هذا العمل يجب علينا التطرق إلى أبطال المسرحية فقد تم اختيار الممثلين من أعراق مختلفة كليًا عن هوية الشخصيات التاريخية الأصلية فترى جورج واشنطون قد مُثل من قِبل ممثل ذو ملامح مكسيكية وأرون بور قد اختير لأداء دوره ممثل أمريكي/أفريقي، هي رسالة أراد صناع العمل إيصالها بأنها قصة الولايات المتحدة تُروى من خلال أبناء هذا الجيل باختلافاتهم العرقية. 

لكل منا قائمة أمنيات في هذه الحياة تزداد أعدادها مع تقدم السنين قد تتحقق بعضها وقد لا تتحقق أخرى المهم هنا هو السعي وراء تحقيقها وبذل كل ما في استطاعتك لرؤيتها واقعًا. أعرف الآن أنه قد تمت إضافة واحدة إلى قائمتي وهي مشاهدة مسرحية هاملتون في برودواي، وأعلم أنه الآن تقام من دون الطاقم الأصلي لكن حتمًا روح العمل ستكون حاضرة بقوة داخل أرجاء القاعة وهو كل ما يهم. 

 

.Dying is easy, Living is harder

أنا وأنطوان والطائرة

الطائرة، تلك الآلة المسؤولة عن تنقلنا من خط عرض إلى آخر في فترة زمنية قصيرة. تبعدنا عن كل ما هو صلب لنغوص معها في أعماق الهواء دون شعورنا بأن أوزاننا باتت كالريشة. دائمًا ما ترتبط الطائرة بعنصر الخوف، ففكرة كونها معلقة في السماء دون أساس ترتكز عليه مرعبة إلى حد ما، فقد عانيت لسنوات طويلة من رهاب السفر بالطائرة، فعند ركوبها لا يمكنني النطق بكلمة واحدة، لساني ينعقد وكأنه لم يتعلم الكلام من قبل وقوة التركيز على التفاصيل الصغيرة تزداد عند تواجدي بداخلها، هنا اعوجاج على جناحها، وقطعة قماش الأرضية منزوعة من مكانها، كلها ملاحظات تبدو بسيطة لكن عقلي يضخمها بدرجة كبيرة جاعلًا منها حاجزًا وهميًا بين الطمأنينة والقلق. لا أعلم منذ متى بدأت تلك الرهبة من الطائرة لكن تتضح جليًا صور لرحلة من الرياض إلى الطائف وأنا صغيرة بالعمر والمطبات الهوائية كانت شديدة لدرجة فتح أدراج الأمتعة العلوية لتتساقط الحقائب بشكل متتالي ليتبعها خط الأنارة الأحمر على الأرضية ويقوم الكابتن بترديد دعاء السفر مرة أخرى، حيث جرت العادة ذكره عند بداية الرحلة، مرت الأوضاع السيئة بالطبع ليتبعها هبوط بسلام أو على ما أعتقد هذا ما حصل كون الذاكرة ليست دقيقة بسبب صغر عمري. على العكس تمامًا أذكر تمامًا تلك اللحظة التي تلاشت فيها جميع المخاوف المتعلقة بالطيران، تلك اللحظة أتت دون مقدمات ولا تهيئة للنفس من خلال دورات معدة لمثل هذه الأمور بل على العكس تمامًا كأن نفسي هدئت من روعها من تلقاء نفسها. كانت الرحلة من الرياض إلى واشنطن، والمدة الزمنية تزيد قليلاً عن ثلاثة عشر ساعة وهناك ملحق آخر لرحلة أخرى تصلني بمدينة لوس أنجلوس والتي يبلغ طولها 4 ساعات و45 دقيقة. أن أجريتم عملية حسابية بسيطة ستجدون مجموع الرحلتين يساوي 18 ساعة. يوم كامل وأنا معلقة بين السحاب فوق بحار ومحيط وجبال وصحاري وكل ما تفرزه الجغرافية من تضاريس مختلفة. كنت مشغولة البال قبل الرحلة بأسبوع، أو لعله أكثر، كيف سأقضي كل تلك الفترة الزمنية في السماء ماذا سأفعل كيف سأتمكن من تهدأت نفسي،  لأن الوضع الغريب الذي أصبح عليه لا يحتمل زيادة مدته الزمنية. ذاكرتي الصورية الجيدة ترسل لي مقاطع من تلك الرحلة اللامنتهية الركاب كانوا قلة وعدد الكراسي الخالية أكثر بكثير من عدد المسافرين. سهولة التنقل بين المقاعد كان أجمل ما في الرحلة، هنا أستطيع الاستلقاء ومحاولة النوم، وهنا أستطيع إعادة الكرسي إلى الخلف لإراحة الأقدام والرقبة والتي نادرًا ما تحدث في الدرجات الخلفية من الطائرة. أذكر مشاهدتي لمسرحية لولاكي كاملة، وبعض حلقات فريندز وأذكر أيضًا تنقلي إلى المقعد المجاور للنافذة لرؤية المحيط الأطلسي، بعد ظهور الطائرة على المسار الموازي له على الخريطة التفاعلية، تلك الزرقة الممتدة كانت عظيمة تشعر بأنها كتاب أزرق مفتوح يحوي من الأسرار ما يعجز الإنسان عن اكتشافه، هناك طمأنينة غريبة سرت في جسدي عند رؤيتي للمحيط ورغم قوة المطبات التي كانت تحدث أثنائها وإضاءة إشارة تنبيه ربط الأحزمة، إلا أن كل هذه الأمور لم تكن تعنيني أمام منظر المحيط من الأعلى، هنا حدث السكون وكانت نقطة التحول.

كان أنطوان طيارًا متخصصًا في نقل الشحنات الجوية بين قارات عدة، و لتمييزه عن بقية طياري عصرنا الحالين كان يمتهن تلك الوظيفة في العام 1926 وكنتيجة لذلك يعتبر من الأوائل الذين مارسوا هذه الوظيفة. فمازالت الطائرة اختراعًا حديثًا تقام عليه التجارب، واكتشاف الطرق الواصلة بين المدن والقارات في طور بداياتها وتولد من خلال الطيارين أنفسهم، فمهمتهم هنا انتحارية، كون الآلة التي يمتطونها غير مهيأة بمعدات السلامة والمتوفرة في أيامنا هذه، و يمكن القول أن معدل تعطل محرك الطائرة أعلى بكثير من معدل نجاته. غالبًا ما يجد نفسه أنطوان وهو مظطرًا للهبوط في أعماق الصحراء بين قبائل الطوارق واللذين يرغبون في رؤيته ميتًا قبل الترحيب به من أجل الضيافة أو في أعالي قمم جبال الأنديز حيث يندر وجود البشر وأن وجدوا تتضح على ملامحهم سمات بعيدة كل البعد عن ما أعتاد عليه بنو البشر في أصقاع الأرض الأخرى. كل هذا جعل قلم أنطوان يخط حروف وجمل جميلة عن مراقبة الأرض من الأعلى من خلال رحلاته المختلفة لتوصيل الطرود البريدية. هذه الأداة كانت وسيلة لأنطوان من أجل اختلائه بنفسه ومراقبته لأناس آخرين لن تتاح له رؤيتهم بوظيفة مكتبية في بلده الأم فرنسا، رؤية الأراضي الشاسعة من الأعلى تجعل الإنسان يصغر بهمومه وأوهامه التي ما انفكت تملأ رأسه من غير جدوى حارمةً أياه متع الحياة البسيطة.

*من خلال هذه الطائرة عاش أنطوان مغامرة حياة وموت في أعماق الصحراء الليبية، فتمت أصابته بالهذيان لفترة من الوقت لتأتي أمامه صور لأناس ومعالم ليس لها وجود على أرض الواقع وكل مرة يخبو الأمل ليعود مرة أخرى بعلو أكبر معلنة استمراره في هذه الحياة رغم اعتقاده بمغادرتها. هذه المغامرة حدثت بسبب هبوط الطائرة في المكان الخطأ لرداءة تحديد المواقع والاتجاهات التي توفرها تلك الآلة وضعف الإشارات المرسلة من قِبل المراقبين الجويين، ولقلة عددهم أيضًا، كل تلك العوامل اصطفت لتحكي لنا قصصًا لا أظن أن تكتب في زماننا هذا أو ستقل حتمية حدوثها على عكس ذلك العصر، تلك المغامرات المثيرة تتكرر بشكل مستمرة لأنطوان أو زملائه الطيارين.

 

لسنوات قليلة اعتدت على شراء الأجندة من ماركة moleskine، لتصميمها المميز والذي يُسهل علي العديد من المهام المطلوب مني كتابتها. اعتادت الشركة على تزيين تلك الأجندات ببعض الشخصيات الخيالية القادمة من القصص الشهيرة، عليكم تجربة تصفح منتجاتهم على الأنترنت ورؤية جمال الرسومات التي تزيين أغلفة تلك الأجندات، أحد تلك الشخصيات هي شخصية الأمير الصغير. جميعنا نعرف ذلك الكرتون الشهير المقتبس منه وقصص تنقل أميرنا من كوكب لآخر، ذلك الخيال المفعم بالسعادة والفضول في آن كانت رسوماته ملازمة لأجنداتِ. وما زال اختياري يقع عليه كل عام حتى ولو كان مجرد دفتر ملاحظات يومية المهم هو رؤية ذلك الأمير الصغير قبل كتابة ما في رأسي من أفكار. زميلنا أنطوان هو مخترع تلك الشخصية فيصعب علي عدم الربط بين مغامراته في الطيران وميلاد تلك الشخصية، فلا يمكن تصور تلك الرائعة دون خوض كاتبنا مغامراته مع الطائرة وبقائه معلقًا في السماء ومتمسكًا بها أكثر من تلك الأرض الصلبة. ساعات الطيران الطويلة  جعلت خياله خصبًا لتلد لنا تلك الشخصية اللطيفة والتي ظلت ملازمة لجميع دفاتر ملاحظاتي.

لعل الطائرة ليست بالآلة الموحشة بعد كل هذا، فهي تتيح لنا آفاقًا لم نتخيل أنفسنا أن نصلها يومًا ما، وكما فعلت بأنطوان حين أخرج للعام تحفته “الأمير الصغير”، من يدري ماذا يمكن أن تفعل بك أنت. فتحية إجلال وتقدير لتلك الرائعة.

 

“الطائرة آلة من غير شك، ولكن يا لها من من أداة تحليل عظيمة. فلقد مكنتنا هذه الأداة من رفع النقاب عن وجه الأرض فعرفناه على حقيقته.  و للطائرة معجزة أخرى فهي تلقي بك مباشرة في صميم السر الغامض. تكون في الطائرة كعالم الحياة، تدرس من وراء نافذتك قرية النمل الإنسانية وتفحص هذه المدائن المستقرة بين السهول وسط الطرق التي تتفرع كالنجوم وتغذي البلاد برحيق الحقول كأنها الشرايين”

-أنطوان دو سانت اكزوبيري

 

*القصة ذكرت في كتاب المذكرات الشخصية لأنطوان دو سانت اكزوبيري “أرض البشر”.