أثناء قراءتي لكتاب عام التفكير السحري لجوان ديديون لفتني نص عبرت فيه عن تجنب القيادة داخل طرق ألفتها في مدينة لوس أنجلوس حتى تتفادى الذكريات المسكونة بداخلها. لم تكن البطل الوحيد في تلك الرحلات، فقد شاركت الابنة معظم تلك الومضات. والتي ترقد أبان كتابة تلك السطور في المستشفى. مشوار إيصال وأخذ الطفلة من المدرسة. رحلات إلزامية للالتقاء بالأصدقاء. وأماكن فضلت السهر بداخلها رفقة زوجها والذي ودعته مؤخرًا. اعتمدت طريقًا مغايرًا لما يعد الأسهل بين مكان إقامتها وغرفة الراقدة في غيبوبة. فأن هي سارت في ذات الاتجاه ستجتاحها عاصفة من الذكريات التي لا تود استقبالها رغم طابع السعادة المحاط بها أو ربما الاعتيادية المطعمة بالحنين، ولعل من فعّل سمة الحنين الحدث المأساوي الذي وقع على حين غرة بمرض ابنتها. تلك القصة احالتني لحكاية متعلقة بي. وأن اختلفت سردية الأحداث ألا أن صلب الأحدوثة متشابه. اعتدت منذ زمن ليس بالبسيط سلك خط رحلة لم يتغير كثيرًا. وأن حال عليه الزمن و اضطررت لتغييره فتلك التحديثات لا تعد ملحوظة. طريق الملك عبدالله (غرب) ثم الانعطاف يسارًا باتجاه طريق الملك عبدالعزيز (جنوب) أو كما يعرف سابقًا بطريق المطار القديم. سلكته طالبة في سنوات الدراسة الأولى وسلكته يافعة أبان الدراسة الجامعية ومرة أخرى نحو عالم الاستقلال المادي في الوظيفة الأولى فالثانية لتلحقها في بداية هذا العام داخل مقر الثالثة. المسافة تزداد مرات وتتقلص في أحيان كثيرة.
في الرحلات الأولى كانت تمتد لتتخطى دوار القاعدة الجوية إلى طريق صلاح الدين (شارع الستين)، لتتحول بعدها بانعطافة نحو اليمين من داخل نفس الدوار باتجاه الغرب والتعمق في منطقة الوزارات إلى أن أصل في أيامي هذه بعدم إدراج الدوار ضمن الرحلة لتشكل نقطة النهاية في منطقة أقرب.
ظللت أعود لتلك المنطقة رغم هجرة سكان مدينة الرياض لها صوب الضواحي الشمالية الشرقية، في زماني على الأقل قبل أن تحل الهجرة العظمى في السنوات الأخيرة هناك في أقاصي الشمال وماوراء طريق الملك سلمان والذي بات منطقة مجهولة بالنسبة لي في مدينة ظننت أنها مدينتي. ولعل السبب الكامن للعودة مرارًا لذات المنطقة هو الألفة كونها احتضنت المسكن الأول. فحتى بعد انتقالنا للمسكن الثاني والثالث، التزمت بارتياد مدرستي هناك رغم بعد المسافة عن مسكننا الجديد. وظلت والدتي تعود، وأنا بمعيتها رفقة الشقيقات، لزيارة الجيران هناك والحديث هنا لا ينطوي على منزل واحد أو اثنين بل عن سلسلة متصلة لا تنتهي. فتلك المساكن عبارة عن عمائر متراصة في داخل كل منها ستة أدوار تشغلها أربع شقق بينها ساحة مربعة تعد مرتعًا لأطفال هذا الطابق. وبما أن القصة تجر القصة. تلك الطوابق المتعددة كانت مغرية لفتاة صغيرة تود اكتشاف العالم. العالم المطمور بداخل تلك العمارة. وبما ان شقتنا تواجدت في الدور الأول اجتاحني فضول لمعرفة شكل الشقق في الدور الأخير، والأشخاص الذين يقطنون هناك. نويت المغامرة بركوب المصعد لوحدي وفي هذا السن كان مرعبًا إلى حد ما. لأرغب في شريك لتلك المغامرة . كان ابن الجيران الأكثر ازعاجًا من بين أطفال هذا الطابق، والذي يليه، يصدح بكرته كالعادة و المرتطمة جيئة وذهابًا في الحوائط الأربعة. كنت أشاركه تلك اللعبة في أحيان إلا أنها ما تنتهي دومًابندم شديد نتيجة اللعب العنيف الذي يجيده. وفي صفقة تبادل منفعة اقترحت أن نغامر بركوب المصعد والذهاب إلى الطابق الأخير لرؤية معالمه والعودة سريعًا إلى بر الأمان داخل طابقنا الأول ليجيب بحماسة نحو قبول خوض تلك المغامرة. كل الظروف كانت مواتية لتحقيق تلك الرحلة السريعة. الآباء عادوا من أعمالهم ووجبة الغداء تم الانتهاء من التهامها معلنة عن قدوم قيلولة العصر المطولة. ومعها تبدأ الأمهات في رحلة المكالمات الهاتفية الطويلة دون أن يشوش عليهم الزوج في إنهاء تلك المحادثات بحجة عدم اشغال خطوط الهاتف حتى يتسنى لهم التقاط المكالمات المهمة، والتي لم تأتي على الأطلاق. تم ركوب المصعد والضغط على الرقم ستة، مغارة علي بابا في قصتنا. ألا أن عطبًا قد أصاب تلك الأحداث المتفق عليها حين همّ (سليمان) بالقفز خارج المصعد قبل إغلاقه. وتلك الأبواب لم تمتلك تلك الحساسات الدقيقة التي تتواجد في مصاعد أوقاتنا الحالية، ليكمل رحلته غير ابهِ بالشخص المرتطم بشقي بابه. غدت حماسة الرحلة خوفًا يكتم على نفسي. حاربتها بالجلوس على الأرض رغبةً في عدم مغادرتها في رحلة المصعد العلوية. وصلت للطابق المشؤوم والذي ظهر شبيهًا بالطابق الذي غادرته للتو. فما عساها أن تكون غير نظائر لتلك الشقق. عوالم تلك المكعبات العمودية. فقانون التشابه هو السائد هناك. أسفرت تلك المغامرة عن خيبة أمل كبيرة بعدم رؤية ما يدهش العين ويبهرها. لأجر معها أذيال خيبتي مع درجات الطوابق الستة. لأظل بعدها لسنوات في علاقة متوترة مع تلك المصاعد.
أطلت علي خلال تلك الرحلات، ولازالت، تحولات عدة لشكل مسرح الأحداث الشبه اليومي. معالم تسلب العين ومعالم انزوت دون انتباه مني. قصر الرياض حلم الفتيات في زمن مضى لإقامة حفل الزفاف بداخله. ومبنى غرائبي لطالما لفت انتباهي في مراحل مبكرة من تلك الرحلات. بسبب تواجد عنكبوت ضخم على واجهته ، وأعني هنا بمجسم ذو أبعاد لا لوحة رسمت على سطح الواجهة. ذلك العنكبوت أثار بداخلي تساؤلات عدة عن هوية تلك البناية. والإجابة الوحيدة الملائمة لغرابة ذلك المنظر أنها شركة تعنى بمكافحة الحشرات. تلك الرحلة أخذت منعطفًا طويلًا في خضم إصلاحات شهدها الطريق لجعل رحلة عبوره أقصر. والذي أسفر عن بروز نفق العروبة ومعالم المترو فيما بعد. تلك الانعطافة طال تواجدها وأزعم باختفاء مبنى العنكبوت أثناء نشوء تلك التصليحات أو لعله في زمن أبكر. تلك الانعطافة غيرت من منظر طريق الملك عبدالعزيز (جنوب) كثيرًا. كأن يدًا أمسكت بالطريق لتجره بأقصى قوة ممكنة كما يشد فيه الرامي قوس السهام. فتلمح معها ملامح الطريق المألوف بالنسبة لك وقد تحول لسراب بأتربة وضوضاء جل مناها أن تنسى ما كان متواجدًا لتبرز معها تساؤلات عن هوية الطريق البديل الذي حل محله.
أنهيت مؤخرًا كتاب “نبش الغراب في واحة العربي: الجزء الثالث – الأشياء” لمحمد مستجاب. ولم أقرأ الأجزاء السابقة من تلك السلسلة لأن موضوعاتها ليست بالمغرية كما هو الحال هنا. ربما لأهمية الأشياء في رحلة الحياة. رغم المحاولات العديدة بعدم الالتفات لها فقد شُغلت أعيننا بالأشخاص الداخلين و الماضيين. تحدث عن كل شيء تقريبًا عن السوق والسلم والجبل والماء والقميص والتوابل والسينما والقمر والبيت والحذاء والساعة والمطر والباب والصحن والصدف. لم تخلو تلك الأحاديث من الظرافة المتعمدة و سلسلة لا متناهية من معلومات تربط بين الشيء المختار ومعانيه العديدة مع الإبحار في سرد تاريخه. اضطر معها مستجاب للغوص داخل سيرته الذاتية لبث الحياة داخل تلك الجمادات، وإعطائها سمة النديم المواظب على خلق المشاعر المتضاربة حين تذكره. وهذا الطريق كان إحداها بالنسبة لي.