أصبح خوان بونثي دي ليون على قرار كان قد تمخض داخل رأسه طيلة الليلة السابقة، سيبلغ الملك بهدف حملته راجيًا منه أن يوفر المال الكافي لسفن تلك الرحلة، هو يملك المال الوفير وبمقدوره أن يقوم بالأمر من تلقاء نفسه لكن رغبة ملحة تتغلغل بداخله في تلقي دعم الملك ومباركته.
“البحث عن ينبوع الشباب” ستكون تلك العبارة مفتاحًا لجذب انتباه الملك لعلها تحلق بخياله بعيدًا داخل حلم يقظة يرى الملك نفسه وقد غدا شابًا من جديد. تلك الأسطورة المتناقلة عبر الأجيال والتي ظل الأوروبيين لقرون يرددونها طويلًا أملًا في الالتقاء بماء الحياة، ألا أنها ما فتأت أن تضمحل لعدم ثبوت صحتها في كل الرحلات المنجزة لذلك الغرض والتي ابتليت بالفشل في عدم حدوث أي أمر يذكر داخل تلك الينابيع المستكشفة. إلا أن الأسطورة عادت للبروز مع اكتشاف العالم الجديد، بسبب همسات السكان الأصليين أمام المستعمرين الأسبان عن تواجد ينبوع يحمل ذات الصفات المتعارف عليها بما تقدمه من خدمة جليلة للبشرية بالإبقاء على نسلهم شابًا للأبد. قد تصدق تلك الأحاديث وقد تخطئ، فمن يعلم قد تكون لعبة أراد السكان الأصليون لعبها مع أولئك الغزاة لإصابتهم بالإعياء نتيجة التوهان داخل القارة الجديدة. ألا أن الأمر الغريب الذي يبرز هو تعلق خوان بونثي دي ليون بذلك الينبوع وفي إشتهاء طعم تلك القطرات المجددة للجسد والتي لا تتواءم كليًا مع فكرة أنه قد بلغ للتو عامه الأربعين. لماذا الهوس في أن يعود شابًا وهو لم يبتعد كثيرًا عن تلك المرحلة. لعلها رؤية مستقبلية تم استبصارها عن قرب رحيله والذي سُجل في عامه السابع والأربعين.
رست سفينة دي ليون في 27 مارس من العام 1513 على شواطئ أرض لم تطأها قدم أوربي من قبل، رغم أن الأولويات باتت غير ذي أهمية نظرًا لتضخم عدد الأقدام المغروسة في تلك الأراضي، ألا أن هذه الأرض ينظر لها دي ليون نظرة المتعطش لرشفة ماء من فم الينبوع المنتظر، ولم لا رفقة القليل من الذهب. قبل أن يبدأ في مهمة البحث، تفكر دي ليون في إسم يلائم هذه البقعة، تفحص الظروف المحيطة ليتذكر وقوع هذه الأيام ضمن الأسابيع المقدسة والمصادفة لعيد الفصح، وبالنسبة لدي ليون والأسبان المرافقين له تترسخ صفة التدين والرغبة الملحة في القيام بأفعال مرتبطة بالدين في كل شؤونهم اليومية، فما كان من القائد دي ليون إلا أن اختار اسمًا دينيًا يتلاءم مع هذا الحدث. وبلغة إسبانية هي جل ما ينطق به لسانه أطلق على تلك الأرض مسمى “La Pascua de las Flores” وهو المصطلح الذي اعتاد الأسبان تسميته على أسبوع عيد الفصح والذي يعني مهرجان الزهور، ألا أن دي ليون أردته صفعة خيبة أمل من “فلوريدا” فلا ينبوع حياة قد وجد ولا التماع قليل من ذهب يساهم في إضفاء بريق على تلك الرحلة الخائبة.
بعد خمسمائة عام وبضع سنين وطأت قدمِي بلدة سانت أوغسطين في فلوريدا داخل كاستيلو دي سان ماركوس أو قلعة القديس ماركوس. في مكان ليس ببعيد عن آثار أقدام المخفق في تحقيق هدف إطالة الشباب المستكشف دي ليون، لا أعلم يقينًا أين حط لكن المصادر تشير إلى البلدة المتواجدة بها والتي أُنشئت بعد رحيله بخمسين عامًا. أحمل المنشور التوضيحي وشمس حارقة ترسل أشعتها بسرعة هائلة لتتمركز داخل رأسي جاعلةً من رؤية الكلمات المطبوعة على المنشور ضبابية يصعب التقاطها، هي حتمًا إعلان تم إرساله من قِبل جسدي عن احتمالية الإصابة بضربة شمس. من المثير للرثاء أني قد قدمت من مكان تسطع فيه الشمس بكامل طاقتها طيلة أيام السنة ولم تدون ذاكرتي أية إصابة باعتلال في توازني ضريبة التعرض المباشر لها، وهأنذا في منطقة تعد أقل توهجًا في إشعاعها الشمسي بيد أن الجسد بدأت تخور قواه في محاولة بائسة منه لإضفاء صفة عدم الاعتياد على الحرارة العالية. نتج عن هذا الوضع خطأ في انتقالي بين قاعات القلعة والمدون بداخلها الخط الزمني لحكامها وما أعقبها من أحداث، فعلى ما يبدو أني قد سلكت الطريق الخطأ. تلك الغرف لم تكن مرتبة على التوالي كما افترضت، بل عليك أن تسير في خطوط أفقية للقاعة ونظيرتها المواجهة لها، لأجد نفسي وقد قلبت بعض التسلسل الزمني برؤية البريطانيين أولاً ثم الأسبان لمرتين متتاليتين لأنهيها مع القوات الأمريكية، بيد أن السجل التاريخي الفعلي لهذا المكان كان أسبانيًا، بريطانيًا ثم إسبانيًا مرة أخرى لينتهي كما هو معروف تحت راية العلم الأمريكي. على الرغم من كل تلك التحولات فكل ما تلمحه العين في تلك البلدة يمكن اعتباره إسبانيًا، المباني المشيدة على طراز نشأ في شبه الجزيرة الإيبيرية، أسماء الشوارع والأبنية الأثرية كانت بلغة إسبانية واضحة للمستمع. ستجد صعوبة بالغة في إستقطاب روح إنكليزية أو أمريكية لتلك البلدة عدا العملة المعترف بها داخل المقاهي والمحلات الصغيرة والمطبوع على واجهتها صور الآباء المؤسسين للولايات المتحدة.
بعد انتهائي من صراع الأمم المتناحرة على أحقية امتلاك تلك الأرض، كان لابد من زيارة المحيط المتكأ بثقله على شاطئ البلدة، ذلك المحيط المهيب في حجمه وقوة الدفع لأمواجه والتي ما هدأت أبدًا رغم وقوعي في يوم يُعد صحوًا لا تعتريه منغصات من شأنها أن تثير غضب تلك المياه الجائعة. تيقنت الآن السبب الرئيسي في عدم نجاة أي راكب من حملة بانفيلو دي نارفاييث من تلك العاصفة الهوجاء التي ألمت بها غير بعيد من هنا، باستثناء الثلاثة المحظوظين رفقة مملوكهم المغربي والذي أسهب في سرد روايته المنسية في كتاب “ما رواه المغربي”.
تصفع الرياح القادمة من المحيط كل ذرة في جسدي، ورغم سرعتها العالية والتي تجعلك تصاب بثقل في الحركة أن أردت أن تدخل جسدك في غياهب مياهها، رغم ذلك فأن نشوة تعتريك عند قدوم موجة مندفعة لا يفصل بينها وبين رفيقتها سوى ثواني معدودة تجعل من عملية التقاط النفس مستحيلة، هي حتمًا ستؤلمك ان كنت في وضع مخالف لما عليه حالك الآن، إلا أن السعادة وجدت لها بابًا أطلت من خلاله على ثنايا روحي وغمرته بما يتواءم مع ما أشعر به.
في غمرة كل تلك الأحاسيس لفتني منظر لأم وابنتها أنهكها كثرة اللحاق بها في محاولات مستميتة لمنع الصغيرة من دخول الماء، ظل بصرها متعلقًا بساقي الابنة لاهية بذلك عن جمالية المنظر المحيط بها. كانت مرتبكة في تلك اللحظات القليلة وقلقة تترقب حدوث أمر سيء اُبتُدِع داخل رأسها، تُرى هل قدر الأم أن تَرقُب بحذر خطوات أبنائها طوال حياتهم لتنسى معها وقع خطواتها؟
في الناحية المعاكسة يقف أب وابنه حاملًا بيده صنارة في مشهد يوحي بمحاولات متعددة صدرت من قِبل الأب لتعليم الأبن حرفة صيد السمك، ناول الأب الصنارة للأبن، يلتقطها منه دون حماسة تذكر وفي خضم عملية الانتقال مازال الأب يصدر كلمات غير مسموعة متأملًا أن تفضي في إتقان ابنه تلك المهارة. أدركت حينها امرًا لا أعلم صحته، وهو أن الأب يقضي مع ابنه عطلة نهاية أسبوع كانت قد حُددت له من خلال المحكمة بعد الانفصال عن زوجته، لعله ظل طوال الأيام السابقة يعد العدة لهذا اليوم المنتظر متصورًا حماسة الطفل ناحية ما رتب له. المشهد القائم أمامي يوحي بعكس ذلك تمامًا.
أردت أن أبعد نظري بعيدًا عنهما بعد أن أحسست بضيق لم أرغب في قدومه الآن. كانت صورة منفرة للمراقب من الخارج لكن قد تبدو ممتعة لهم من الداخل.